الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
قال : ( وإن استعار الدابة يوما إلى الليل ، ولم يسم ما يحمل عليها لم يضمن إذا هلكت ) ; لأنه قبضها بإذن صحيح ، ولكن إن أمسكها بعد مضي اليوم فهو ضامن لها ; لأنه لما وقت فقد بين أنه غير راض بقبضه إياها فيما وراء المدة ، فإذا أمسكها بعد مضي المدة كان ممسكا لها بغير رضا صاحبها فيضمنها كما في المودع إذا طولب بالرد فلم يرد حتى هلكت ، وهذا بخلاف المستأجر فإنه بعد مضي المدة إذا أمسكها لا يضمنها ما لم يطالبه صاحبها بالرد ; لأن مؤنة الرد هناك ليست على المستأجر ، ولكنها على المالك ، فإذا لم يحضر المالك ليأخذها لم يوجد من المستأجر منع يصير به ضامنا ، وهنا مؤنة الرد على المستعير ، فإذا أمسكها بعد مضي المدة فقد وجد منه الامتناع من الرد المستحق عليه ، وذلك موجب ضمان المستعار عليه .

( وإذا لم يؤقت المالك ولكنه أعارها ليحمل عليها الحنطة فجعل ينقل عليها الحنطة أياما ، فلا ضمان عليه ) لأن الإذن من المالك مطلق ، فلا ينعدم حكمه إلا بالنهي والمطالبة بالرد ، ولم يوجد . وإن حمل عليها الآجر أو اللبن أو الحجارة فعطبت فهو ضامن ; لأنه خالف ما أمره به نصا فصار غاصبا مستعملا بغير إذنه .

وهذه المسألة على أربعة أوجه : ( أحدها ) أن يحمل عليها غير ما عينه المالك ، ولكنه مثل ما عينه في الضرر على الدابة من جنسه بأن استعارها ليحمل عليها عشرة مخاتيم من هذه الحنطة فحمل عليها عشرة مخاتيم من حنطة أخرى ، أو ليحمل عليها حنطة نفسه فحمل عليها حنطة غيره ، فلا ضمان عليه ; لأن التقييد إنما يعتبر إذا كان مفيدا ، وهذا التقييد والتعيين لا يفيد شيئا ، فإن حنطته وحنطة غيره في الضرر عليها سواء . ( والثاني ) أن يخالف في الجنس بأن استعارها ليحمل عليها عشرة أقفزة حنطة فحمل عليها عشرة أقفزة شعير في القياس يكون ضامنا ; لأنه مخالف ، فإنه عند اختلاف الجنس لا تعتبر المنفعة والضرر ، ألا ترى أن الوكيل بالبيع بألف درهم إذا باع بألف دينار لم ينفذ بيعه ، وفي الاستحسان لا يكون ضامنا ; لأنه لا فائدة للمالك في تعيين الحنطة ، فإن مقصوده دفع زيادة [ ص: 138 ] الضرر عن دابته ، ومثل كيل الحنطة من الشعير يكون أخف على الدابة ، وقد بينا أنه إنما يعتبر من تقييده ما يكون مفيدا دون ما لا يفيده شيئا حتى قيل : لو سمى مقدارا من الحنطة وزنا فحمل مثل ذلك الوزن من الشعير يضمن ; لأنه يأخذ من ظهر الدابة أكثر مما يأخذ من الحنطة ، فهو كما لو استعارها ليحمل عليها حنطة فحمل عليها حطبا أو تبنا ، فأما مثل ذلك كيلا من الشعير لا يأخذ من ظهرها أكثر مما يأخذ من الحنطة .

( والثالث ) أن يخالف إلى ما هو أضر على الدابة بأن استعارها ليحمل عليها حنطة فحمل عليها حديدا أو آجرا مثل وزن الحنطة فهو ضامن لها ; لأن هذا يجتمع في موضع واحد فيدق ظهر الدابة فكان أضر عليها من حمل الحنطة ، وتقييد المالك معتبر إذا كان مفيدا له ، وكذلك لو حمل عليها مثل وزن الحنطة قطنا ; لأنه يأخذ من ظهر الدابة فوق ما تأخذ الحنطة فكان أضر عليها من وجه كما لو حمل عليها حطبا أو تبنا . ( والرابع ) أن يخالف في المقدار بأن استعارها ليحمل عليها عشرة مخاتيم حنطة فحمل عليها خمسة عشر مختوما فهلكت فهو ضامن ثلث قيمتها ; لأنه في مقدار عشرة مخاتيم موافق ; لأنه حامل بإذن المالك ، وفيما زاد على ذلك حامل بغير إذنه فيعتبر الجزء بالكل ، ويتوزع الضمان على ذلك ، وهذا إذا كان مثل تلك الدابة تطيق حمل خمسة عشر مختوما ، فإن كان يعلم أنها لا تطيق ذلك فهو ضامن لجميع قيمتها ; لأنه متلف لها بهذا الحمل ، والمالك ما أذن له في إتلافها . وللشافعي ثلاثة أقاويل في هذه المسألة : قول مثل قولنا ، وقول آخر أنه يضمن جميع قيمتها ; لأنه خالف إلى ما هو أضر على الدابة ، فهو كما لو خالف في الجنس ، وقول آخر أنه يضمن نصف قيمتها ; لأنها تلفت من حملين أحدهما بإذن صاحبه ، والآخر بغير إذنه فيضمن نصف قيمتها كما لو أمره أن يضرب عبده عشرة أسواط فضربه أحد عشر سوطا فمات من ذلك يضمن نصف قيمته ، ولكن الفرق بينهما ظاهر ; لأن ذاك ضمان قتل ، وفي باب القتل المعتبر عدد الجناة لا عدد الجنايات ، فقد تقوى الطبيعة على دفع ألم عشر جراحات في موضع ، ولا تقوى على دفع ألم جراحة واحدة في موضع ; فلهذا اعتبرنا عدد الجناة ، وجعلنا الضمان نصفين ، وهنا تلف الدابة باعتبار ثقل المحمول ، وثقل عشرة مخاتيم فوق ثقل خمسة مخاتيم في الضرر على الدابة ، فلا بد من أن يتوزع الضمان على قدر ثقل المحمول .

وهذا بخلاف ما لو استعار ثورا ليطحن به عشرة مخاتيم حنطة فطحن أحد عشر مختوما فهلك ، فإنه يضمن جميع قيمته ; لأن الطحن يكون شيئا فشيئا ، فلما طحن عشرة مخاتيم انتهى إذن المالك ، فبعد ذلك هو في الطحن مخالف في جميع الدابة [ ص: 139 ] مستعمل لها بغير إذن مالكها فيضمن جميع قيمتها ، فأما الحمل يكون جملة واحدة فهو في البعض مستعمل لها بإذن المالك ، وفي البعض مخالف فيتوزع الضمان على ذلك وإذا جاوز المكان الذي سمي له وأخذ إلى مكان غير ذلك فعطبت فهو ضامن لها ; لأنه استعملها بغير إذن صاحبها ، فالتقييد من صاحبها هنا مفيد ; لأن الضرر على الدابة يختلف بقرب الطريق وبعده ، والسهولة والوعورة .

التالي السابق


الخدمات العلمية