الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
( رجل ) استودع صبيا محجورا عليه مالا ، فاستهلكه : لم يضمن ، في قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله . وهو ضامن في قول أبي يوسف والشافعي رحمهما الله . وجه قولهما : أن ضمان الاستهلاك ضمان فعل ، والصبي والبالغ فيه سواء ; [ ص: 119 ] لما بينا أن تحقق الفعل بوجوده .

ألا ترى أن الوديعة لو كانت عبدا ، أو أمة ، فقتلهما الصبي ، كان ضامنا بهذا الطريق . فكذلك في سائر الأموال . ولأن الإيداع من الصبي باطل ; لأنه استحفاظ من لا يحفظ ، فكأنه لم يودعه ولكنه جاء فأتلف ماله . واستحفاظ من لا يحفظ : تضييع للمال ، فكأنه ألقاه على قارعة الطريق ، ولو فعل ذلك فأتلفه صبي كان ضامنا ؟ فكذا هذا . وحجة أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله ما قال في الكتاب : لأنه صبي ، وقد سلطه رب المال على ماله حين دفعه إليه .

( وفي ) تفسير هذا التسليط نوعان من الكلام ( أحدهما ) : أنه تسليط باعتبار العادة ; لأن عادة الصبيان إتلاف المال ; لقلة نظرهم في عواقب الأمور ، فهو لما مكنه من ذلك - مع علمه بحاله - يصير كالإذن له في الإتلاف . وبقوله : احفظ ، لا يخرج من أن يكون إذنا ; لأنه إنما يخاطب بهذا من لا يحفظ ، فهو كمقدم الشعير بين يدي الحمار ، وقال : لا تأكل ، بخلاف العبد والأمة ; لأنه ليس من عادة الصبيان القتل ; لأنهم يهابون القتل ، ويفرون منه ، فلا يكون إيداعه تسلطا على القتل - باعتبار عادتهم - . وهذا بخلاف الدابة ، فإن من عادتهم إتلاف الدواب ، ركوبا ، فيثبت التسليط في الدابة بطريق العادة ، وإلا صح أن تقول : معنى التسليط : تحويل يده في المال إليه ; فإن المالك - باعتبار يده - كان متمكنا من استهلاكه ، فإذا حول يده إليه ، صار ممكنا له من استهلاكه - بالغا كان المودع ، أو صبيا - إلا أنه بقوله : احفظ ، قصد أن يكون هذا التحويل مقصورا على الحفظ - دون غيره - وهذا صحيح في حق البالغ ، باطل في حق الصبي ; لأنه لما التزم بالعقد ، والصبي ليس من أهله ، فيبقى التسليط على الاستهلاك بتحويل اليد إليه مطلقا ، بخلاف العبد والأمة ، فإن المالك - باعتبار يده - ما كان متمكنا من قتل الآدمي ، فتحويل اليد إليه لا يكون تسليطا على قتله ; لأن الإيداع من المالك تصرف في ملكه ، والمملوك في حكم الدم مبقى على أصل الحرية ; فلا يتناوله الإيداع . والتسليط يثبت باعتباره ، بخلاف ما لو قال : اقتل عبدي ; لأن ذاك استعمال ، والاستعمال وراء التسليط ، فإن بعد الاستعمال إذا لحقه ضمان ، يرجع على المستعمل ، وبعد التسليط يسقط حق المسلط في التضمين - لرضاه به - ولا يثبت لأحد حق الرجوع عليه . ولهذا قلنا في هذا الموضع : إن الصبي المستهلك ، إذا ضمن للمستحق ، لا يرجع على المودع ، بخلاف ما لو قال له : أتلفه ، فذلك استعمال للصبي ، وهذا تسليط له بمنزلة قوله : أبحت لك أن تأكل هذا الطعام ، إن شئت ، ولو قال ذلك ، فأكله الصبي ، لم يضمن . ولو جاء مستحق وضمنه ، لم يرجع على الذي قال له ذلك ; فهذا مثله ، إلا أن أبا يوسف يقول : قوله : احفظه ، بمنزلة الاستثناء مما تناوله مطلق التسليم . [ ص: 120 ] والاستثناء تصرف من المستثني على نفسه في حقه ; فلا يعتبر لصحته حال المخاطب به ، أو ثبوت ولاية له عليه ، بل باستثنائه يخرج ما وراء الحفظ من هذا التسليط .

فإذا استهلكه الصبي كان مستهلكا بغير إذنه . ولكن أبو حنيفة ومحمد رحمهما الله يقولان : التسليط : بالفعل ، وهو نقل اليد إليه مطلقا . وقوله : احفظ ، كلام ، فلا يتحقق استثناؤه من الفعل المطلق ، بل يكون معارضا لذلك الفعل الذي هو تسليط ، ولا يكون معارضا إلا بعد صحته حكما ; لكون المخاطب من أهل الالتزام بالعقد ، وذلك في حق البالغ دون الصبي ، فيبقى التسلط في حق الصبي . والدليل عليه : أن الصبي لو ضيع الوديعة ، لم يضمن ; بأن رأى إنسانا يأخذها ، أو دله على أخذها ، والبائع يضمن - بمثله - . فعرفنا أن العارض صحيح في حق البالغ - دون الصبي - . وعلى هذا : لو أودع عبدا ، محجورا عليه ، مالا فاستهلكه : لم يضمن ، عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله حتى يعتق ; لأن العارض صحيح في حقه دون المولى فإنه التزام بالعقد . وعلى قول أبي يوسف : يباع فيه في الحال ; لأن المودع يتصرف على نفسه في الاستثناء ; فيبقى الاستهلاك بغير إذنه .

فإن كان العبد صبيا لم يضمن " عندهما " في الحال ، ولا بعد البلوغ والعتق ; لأن العارض لم يصح في حقه ولا في حق المولى . وإن كان الصبي ، أو العبد مأذونا ، كان ضامنا في الحال ; لأن العارض قد صح في حقهما ، وفي حق المولى ; فالمأذون من أهل الالتزام بالعقد ، ولهذا يؤاخذان بضمان التضييع . وعلى هذا : الخلاف لو أقرض صبيا محجورا عليه ، أو عبدا محجورا عليه ، مالا فاستهلكه ; لأن التسليم إليه تسليط . وقوله : أقرضتك : معارض لقوله : احفظ في الوديعة - على ما بينا - ، وكذلك لو باع من صبي محجور عليه ، أو عبد محجور عليه شيئا ، فاستهلكه ، فهو على هذا الخلاف ; لأن التسليم إليهما تسليط . وقوله : بعت ، معارض فلا يعمل هذا المعارض في حق الصبي أصلا ، ولا في حق العبد حتى يعتق ، فهذا هو الحرف الذي يخرج عليه هذه المسائل .

( وإن ) هلكت الوديعة عند الصبي والعبد : فلا ضمان عليهما ; لانعدام صنيع موجب للضمان منهما . وفي قتل العبد والأمة يجب عليهما ما يجب قبل الإيداع ، فعلى عاقلة الصبي قيمة المقتول في ثلاث سنين - عمدا قتله أو خطأ ; لأن عمد الصبي وخطأه سواء - وعلى المملوك القصاص إن قتله عمدا ، وإن قتله خطأ : يخاطب المولى بالدفع ، أو الفداء في العبد ، وعليه القيمة في المدبر ، وأم الولد ، يعني الأقل من قيمة المقتول وقيمة القاتل . وعلى المكاتب أن يسعى في الأقل من قيمته ، ومن قيمة المقتول . ولو أودع رجلا شيئا فاستهلكه ابن له صغير ، أو عبد : فعلى المستهلك ضمانه في الحال ; [ ص: 121 ] لأن قبوله الوديعة يكون إذنا لمن في عياله بأن يحفظها . والصبي والعبد إذا كان مأذونا في حفظ الوديعة يؤاخذ بضمان الاستهلاك . .

التالي السابق


الخدمات العلمية