ولما تقرر هذا؛ تشوف السامع إلى معرفة العلماء؛ فكان كأنه قيل: هم الذين يحافظون على كتاب الله؛ علما؛ وعملا؛ فقيل: فما لهم؟ فقال - مؤكدا؛ تكذيبا لمن يظن من الكفار؛ وغيرهم من العصاة أنهم من الخاسرين بما ضيعوا من عاجل دنياهم -: إن الذين يتلون ؛ أي: يجددون التلاوة كل وقت؛ مستمرين على ذلك؛ محافظين عليه؛ كلما نزل من القرآن شيء؛ وبعد كمال نزوله؛ حتى يكون ذلك ديدنهم؛ وشأنهم؛ بفهم؛ وبغير فهم؛ كتاب الله ؛ أي: الذي لا ينبغي لعاقل أن يقبل على غيره؛ لما له من صفات الجمال؛ والجلال؛ ولما ذكر السبب الذي لا سبب يعادله؛ [ ص: 50 ] ذكر أحسن ما يربط به؛ فقال - دالا على المداومة بالتعبير بالإقامة؛ وعلى تحقيق الفعل بالتعبير بالماضي -: وأقاموا الصلاة ؛ أي: وهي الناهية عن الفحشاء؛ والمنكر؛ فناجوا الله فيها بكلامه؛ ولما ذكر الوصلة بينهم وبين الخالق؛ ذكر إحسانهم إلى الخلائق؛ فقال - دالا على إيقاع الفعل بالتعبير بالماضي؛ وعلى الدوام بالسر؛ والعلن؛ لافتا القول إلى مظهر العظمة؛ تنبيها على أن الرزق منه وحده؛ لا بحول أحد غيره؛ ولا غيره -: وأنفقوا مما رزقناهم ؛ أي: بحولنا؛ وقوتنا؛ لا بشيء من أمرهم في جميع ما يرضينا؛ ودل على مواظبتهم على الإنفاق؛ وإن أدى إلى نفاد المال؛ بقوله: سرا وعلانية ؛ وعبر في الأول بالمضارع؛ لأن إنزالها كان قبل التمام؛ وتصريحا بتكرار التلاوة تعبدا؛ ودراسة؛ لأن القرآن - كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: أخرجه "...أشد تفلتا من الإبل في عقلها"؛ عن مسلم - رضي الله عنه -؛ وفي الثاني؛ والثالث؛ بالماضي؛ حثا على المبادرة إلى الفعل؛ وقد تحصل من هذا أنه جعل لفعل القلب - الذي هو الخشية - دليلا باللسان؛ وآخر بالأركان؛ وثالثا بالأموال. أبي موسى الأشعري
ولما أحلهم بالمحل الأعلى؛ معرفا أنهم أهل العلم؛ الذين يخشون الله؛ وكان العبد لا يجب له على سيده شيء؛ قال - منبها على نعمة الإبقاء الثاني؛ التي هي أم النعم؛ والنتيجة العظمى المقصودة بالذات -: يرجون ؛ أي [ ص: 51 ] في الدنيا؛ والآخرة؛ تجارة ؛ أي: بما عملوا؛ لن تبور ؛ أي: تكسد؛ وتهلك؛ بل هي باقية؛ لأنها دفعت إلى من لا تضيع لديه الودائع؛ وهي رائجة رابحة؛ لكونه تام القدرة؛ شامل العلم؛ له الغنى المطلق.