الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      ولما أمره - سبحانه - بهذا الأمر؛ نادى باستحقاقه لذلك؛ وأنه لم يطلب غير حقه؛ وأن ذلك لا يتصور أن يكون لغيره؛ فقال - في جواب من كأنه قال: لم منعه من الالتفات إلى غيره؟ مناديا؛ إشارة إلى أنه لا مكافئ له؛ فلا يسع أحدا يبلغه هذا النداء إلا الخضوع طائعا؛ أو كارها -: ألا لله ؛ أي: الملك الأعلى؛ وحده؛ الدين الخالص ؛ لأنه له الأمر والخلق؛ لا يشركه فيه أحد؛ فكما تفرد بأن خلقك؛ وخلق كل ما لك من شيء؛ فكذلك ينبغي أن تفرده بالطاعة؛ ولأنه إذا عبده أحد مخلصا؛ كفاه كل شيء؛ وأما غيره فلو أخلص له أحد لم يمكن أن يكفيه شيئا من الأشياء؛ فضلا عن كل شيء؛ والدين الذي هو أهل للإخلاص هو الإسلام؛ الذي كان في كل ملة؛ المنبني على القواعد [ ص: 442 ] الخمس؛ المثبتة بالإخلاص المحض؛ الناشئ من المراقبة في الأوامر؛ والنواهي؛ وجميع ما يرضي الشارع للدين؛ أو يسخطه؛ فتكون جملته لله؛ من غير شهوة ظاهرة؛ أو باطنة؛ في شهرة؛ ولا غيرها؛ وإنما استحقه - سبحانه - دون غيره؛ لأنه هو الذي شرعه؛ ولا أمر لأحد معه؛ فكيف يشركه من لا أمر له بوجه من الوجوه؛ وأما ما كان فيه أدنى شرك؛ فهو رد على عامله؛ والله غني حميد؛ وهذه - كما ترى - مناداة لعمري تخضع لها الأعناق؛ فتنكس الرؤوس؛ ولا يوجد لها جواب إلا بـ "نعم وعزته"؛ و"إي وكبريائه وعظمته"؛ قال القشيري: وما للعبد فيه نصيب فهو عن الإخلاص بعيد؛ اللهم إلا أن يكون بأمره؛ فإنه إذا أمر العبد أن يحتسب الأجر على طاعته؛ فأطاعه؛ لا يخرج عن الاحتساب باحتسابه أمره فيه؛ ولولا هذا لما صح أن يكون في العالم مخلص؛ قال ابن برجان : وذلك - أي: ترك الإخلاص - كله مولد عن حب البقاء في الدنيا؛ ونسيان لقاء الله (تعالى) ؛ ثم قال ما معناه: إن ذلك من الشرك؛ وهو ثلاثة أنواع: شرك في الإلهية؛ وهو أن يرى مع الله إلها آخر؛ وهو شرك المجوس والمجسمة؛ والوثنية؛ ويضاهيه غلط القدرية؛ الثاني شرك في العبادة؛ بالرياء؛ وإضافة العمل إلى النفس؛ والثالث الشرك الخفي؛ وهو الشهوة الخفية؛ وهو أن يخفي العمل؛ ويخاف من إظهاره؛ ويحب لو اطلع عليه؛ ومدح بأسراره؛ ومن أحسن العون على الإخلاص الحياء من الله؛ [ ص: 443 ] أن تتزين لغيره بعمل ألهمك إياه؛ وقواك عليه؛ وخلت فيه؛ وزعمت تطلب التقرب إليه؛ فأتاك عدوه إبليس؛ الذي عاداه فيك؛ فتطيعه فيما يضرك؛ ولا ينفعك؛ فاستعن على عبادتك بالستر؛ فاستر حسناتك؛ كما تستر سيئاتك؛ فإن عمل السر يزيد على عمل العلانية سبعين ضعفا؛ وذلك كالشجرة؛ إذا ظهرت عروقها ضعف شربها؛ وأضر بها حرارة الهواء؛ وبرده؛ وتعرضت للآفات؛ من قطع؛ ويبس؛ وغير ذلك؛ ولم تحسن فروعها؛ وخف ورقها؛ فقل نفعها؛ وإذا غاصت عروقها غابت عن الآفات؛ وأمنت القطع من أيدي الناس؛ فكثر شربها؛ فجرى ماؤها فيها؛ فتزايدت لذلك فروعها؛ واخضر ورقها؛ وكثر خيرها؛ وطاب ثمرها لجانيها؛ فكذلك العمل إذا كانت له أصول في القلب مستورة زكا في نفسه؛ وطهر من الأدناس؛ وكثر خيره؛ وطاب ثوابه لعامله؛ وإذا بدا لم يؤمن عليه من أبصار الناظرين؛ وإذا خفي لم يبق ما يخاف منه؛ إلا العجب؛ ومحبة أن يطلع عليه؛ وهي الشهوة الخفية؛ ومن قولهم: "من عرف الله بعد الضلالة؛ وعرف الإخلاص بعد الرياء؛ وأنزل الموت حق منزلته؛ لم يغفل عن الموت والاستعداد له بما أمكنه"؛ انتهى.

                                                                                                                                                                                                                                      ولما أخبر - سبحانه - عما له وحده؛ وكان محط أمر الإنسان؛ بل جميع الحيوان؛ على الهداية إلى مصالحه؛ ليفعلها؛ ومفاسده ليتركها؛ وأرشد [ ص: 444 ] السياق إلى أن التقدير: فمن أخلص له الدين هداه في جميع أموره؛ وإن اشتد الإشكال؛ وتراكمت وجوه الضلال؛ عطف عليه الإخبار عمن لزم الضلال؛ والغي؛ والمحال؛ فقال - محذرا من مثل حاله؛ بما حكم عليه في مآله: والذين ؛ ولما كان الإنسان مفطورا على الخضوع للملك الديان؛ ولا يلتفت إلى غيره إلا بمعالجة النفس بما لها من الهوى والطغيان؛ عبر بصيغة الافتعال؛ فقال: اتخذوا ؛ أي: عالجوا عقولهم؛ حتى صرفوها عن الله؛ فأخذوا؛ ونبههم على خطئهم في رضاهم بالأدنى على الأعلى؛ بقوله: من دونه ؛ ومعلوم أن كل شيء دونه؛ أولياء ؛ أي: يكلون إليهم أمورهم؛ ويدخل فيهم الذين اتخذوا أحبارهم؛ ورهبانهم أربابا من دون الله؛ مع اعترافهم بأن الله تفرد بخلقهم؛ ورزقهم.

                                                                                                                                                                                                                                      ولما كان من العجب العجيب فعلهم هذا؛ بين ما وجهوا به فعلهم ليكون آية بينة في أنه لا هدى لهم؛ فقال: ما ؛ أي: قائلين لمن أخلصوا له الدين؛ إذا أنكروا عليهم أن يتخذوا من دونه وليا: ما نعبدهم ؛ لشيء من الأشياء؛ إلا ليقربونا ؛ ونبه - سبحانه - على بعدهم عن الصواب بالتعبير بالاسم الأعظم؛ مع حرف الغاية؛ فقال: إلى الله ؛ الذي له معاقد العز؛ ومجامع العظمة؛ تقريبا عظيما؛ على وجه التدريج؛ ويزلفونا إليه زلفى ؛ أي: تقريبا حسنا؛ سهلا؛ بهجا؛ زائدا؛ ناميا؛ متعاليا؛ قال القشيري: ولم يقولوا هذا من قبل الله؛ ولا بإذنه؛ وإنما حكموا بذلك من ذات أنفسهم؛ فرد الله عليهم؛ وفي هذا إشارة إلى ما يفعله العبد [ ص: 445 ] من القرب بنشاط نفسه؛ من غير أن يقتضيه حكم الوقت؛ فكل ذلك اتباع هوى؛ انتهى؛ والآية من الاحتباك: ذكر فعل التقريب أولا؛ دليلا على فعل الزلف ثانيا؛ واسم الزلف ثانيا؛ دليلا على الاسم من التقريب أولا؛ وسره أنهم أرادوا بهذا الاعتذار المسكت عن قبيح صنيعهم؛ فأتى - سبحانه - في حكايته عنهم بالتأكيد على أبلغ وجه؛ لأن الدلالة على المعنى بلفظين أجدر في ثباته؛ وتكثيره؛ من لفظ واحد؛ وبدأ بأرشق الفعلين؛ وأشهرهما؛ وأخفهما؛ وأوضحهما؛ وقد خسر لعمري غاية الخسارة قوم تمذهبوا بأقبح المذاهب؛ وجعلوا عذرهم هذه الآية التي ذم الله المعتذر بها؛ وعلى ذلك فقد راج اعتذارهم بها على كثير من العقول؛ وهم أهل الاتحاد؛ الذين لا أسخف من عقولهم؛ ولا أجمد من أذهانهم.

                                                                                                                                                                                                                                      ولما كان إنما محط دينهم الهوى؛ وكان كل من تبع الهوى لا ينفك عن الاضطراب في نفسه؛ فكيف إذا كان معه غيره؟! فكيف إذا كانوا كثيرا؟! فيكثر الخلاف؛ والنزاع؛ وإن لم يحصل ذلك بالفعل؛ كان بالقوة؛ ولذلك كان لكل قبيلة ممن يعبد الأصنام صنم غير صنم الأخرى؛ وكان بعض القبائل يعبد الشعرى؛ وبعضهم يعبد الملائكة؛ وبعضهم غير ذلك؛ [ ص: 446 ] إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء فتقطعوا أمرهم بينهم زبرا كل حزب بما لديهم فرحون ؛ نبه على ذلك؛ مهددا لهم بقوله - مخبرا؛ مؤكدا؛ لأجل إنكارهم -: إن الله ؛ أي: الذي له جميع صفات الكمال؛ ولما لم يقيد الحكم بالقيامة؛ وكانوا معترفين بأن المصائب في الدنيا منه؛ قال: يحكم بينهم ؛ من غير تأكيد آخر؛ أي: بين جميع المخالفين في الأديان؛ وغيرها؛ من المتخذين للأولياء من دونه؛ ومن المخلصين؛ وغيرهم؛ فلا بد أن ينصر أهل الحق على جميع أهل الباطل.

                                                                                                                                                                                                                                      ولما كانوا أوزاعا؛ أكثر قبائلهم على خلاف ما يعتقده غيرها؛ قال: في ما ؛ أي: في الدين الذي...؛ والأمر الذي...؛ ولما كان تحكيمهم للهوى موفرا لدواعيهم على الاختلاف؛ وكان الاتخاذ؛ الذي يبنى الكلام عليه؛ له نظر عظيم إلى علاج الباطن؛ بخلاف سورة "يونس"؛ أثبت الضمير هنا؛ فقال: هم ؛ أي: بضمائرهم؛ فيه يختلفون ؛ أي: ليس لهم أصل يضبطهم؛ فهم لا يرجعون إلا إلى الخلف؛ كيفما تقلبوا؛ لأنهم مظروفون لذلك العمل؛ الذي مبناه الهوى؛ الذي هو منشأ الاختلاف؛ فكيف إذا انضم إلى ذلك خلاف المخلصين وإنكارهم عليهم؛ الذي أرشد إليه اعتذارهم؟! فظهر من هذا أن اختلاف الأئمة في فهم كتاب الله؛ وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -؛ لقواعد استنبطوها من ذلك؛ لا يخرجون [ ص: 447 ] عنها؛ ليس خلافا؛ بل وفاق؛ لوحدة ما يرجعون إليه من الأصل الصحيح الثابت عن الله؛ ومن هذا إنكار النبي - صلى الله عليه وسلم - على عمر ؛ وأبي؛ وغيرهما - رضي الله عنهم -؛ لما أنكر كل منهم على من خالفه في القراءة؛ وقال: "إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف؛ فلا تختلفوا"؛ فلا فارق بين أن يستند كل من الأمرين إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ نقلا؛ أو اجتهادا؛ لأنه في قوة الاتفاق؛ لوحدة مرجعه؛ والله الموفق؛ ويجوز أن يكون الضمير في "بينهم"؛ لهم؛ ولمعبوداتهم؛ فإنهم ليس منهم معبود صامت؛ ولا ناطق؛ إلا وهو صارخ بلسان حاله؛ إن لم ينطق لسان قاله؛ بأنه مقهور؛ مربوب؛ عابد؛ لا معبود؛ فهم - مع من يعبدهم - في غاية الخلاف. [ ص: 448 ] ولما كان من الأمر الواضح أن الدين لا يكون صالحا إلا إن انتظم بنظام غير مختل؛ وكان الدين إذا كان معوجا؛ داعيا إلى التفرق؛ مناديا على نفسه بالانخلاع عنه؛ والبعد منه؛ فكان الحال مقتضيا للتعجب ممن تدين به؛ فضلا عمن يدوم عليه؛ فضلا عمن لا ينتبه عند التنبيه؛ فضلا عمن يقاتل دون ذلك؛ أجاب من كأنه قال: ما سبب عكوفهم على هذا الضلال؛ الذي أوجب لهم قطعا الاختلاف بالفعل؛ أو بالقوة؟ فقال - مؤكدا؛ تكذيبا لمن ينكر ما تضمنه هذا الإخبار؛ وإن [ ص: 449 ] ظهر لبعض العمي غير ذلك؛ مما يبدو من الكذبة؛ والكفرة؛ من أعمال مزينة؛ وأفكار دقيقة؛ فتظن هدى؛ وإنما هي استدراج؛ ولما أرشد السياق إلى أن المعنى: لأنهم غير مهتدين؛ لأن الله لم يخلق الهداية في قلوبهم؛ نسق به قوله -: إن الله ؛ أي: الملك القادر؛ القاهر؛ الحكيم؛ ولما كان الأصل: لا يهديهم؛ وأراد - سبحانه - التعميم؛ وتعليق الحكم بالوصف؛ تنفيرا عنه؛ قال: لا يهدي ؛ أي: لا يخلق الهداية في قلب من هو ؛ أي: لضميره؛ كاذب ؛ أي: مرتكب الكذب؛ عريق فيه؛ حتى أداه كذبه إلى أن يقول على ملك الملوك: إن شيئا يقرب إليه بغير إذنه؛ ويخضع بالعبادة - التي هي نهاية التعظيم؛ فهي لا تليق بغير من ينعم غاية الإنعام - لمن لا يملك ضرا؛ ولا نفعا؛ ولم يعبر في الكذب بصيغة مبالغة؛ لأن الذين السياق لهم لم يقع منهم كذب إلا في ادعائهم أنهم يقربونهم.

                                                                                                                                                                                                                                      ولما كان من كفر في حين من الدهر قد ضاعف كفره؛ لكثرة ما على الوحدانية من الدلائل؛ وما لله عليه من الإحسان؛ وكان هؤلاء الذين لهم السياق قد كفروا بتأهيلهم لشركائهم للعبادة؛ ولعبادتهم بالفعل؛ ولادعائهم فيهم التقريب؛ قال كفار ؛ بصيغة المبالغة؛ والأحسن أن يقال: إن المبالغة لإفهام أن الذي لا يهديه إنما هو من ختم عليه - سبحانه - الموت على ذلك؛ قال القشيري: والإشارة إلى تهديد من يتعرض لغير مقامه؛ ويدعي شيئا ليس بصادق فيه؛ فالله لا يهديه قط إلى ما فيه سداده؛ ورشده؛ وعقوبته أن يحرمه ذلك الشيء الذي تصدى له بدعواه قبل تحققه بوجوده وذوقه.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية