ولما كان التقدير: "فأجمع النزوح عن بلادهم؛ لأنهم عدلوا عن الحجة إلى العناد؛ عطف عليه قوله: وقال ؛ أي: إبراهيم - عليه السلام -؛ لمن يتوسم فيه أن كلامه يحييه من موت الجهل؛ مؤكدا لأن فراق الإنسان لوطنه لا يكاد يصدق به؛ إني ذاهب ؛ أي: مهاجر من غير تردد؛ قالوا: وهو أول من هاجر من الخلق؛ إلى ربي ؛ أي: إلى الموضع الذي أمرني المحسن إلي بالهجرة إليه؛ فلا يحجر علي أحد في عبادته فيه. [ ص: 260 ] ولما كان حال سامعه جديرا بأن يقول: من لك بالمعرفة بما يحصل قصدك هذا؛ من التعريف بالموضع؛ وبما تفعل فيه؛ مما يكون به الصلاح؟ وما تفعل في التوصل إليه؟ قال: سيهدين ؛ أي: إلى جميع ذلك؛ بوعد لا خلف فيه؛ إلى كل ما فيه تربية لي في أمر الهجرة؛ لأنه أمرني بها؛ وهو لا يأمر بشيء إلا نصب عليه دليلا يهدي إليه؛ ويسهل لقاصده المجتهد في أمره سبيله؛ وقد اختلفت العبارات عن سير الأصفياء إلى الحضرات القدسية؛ فهذه العبارة عن أمر الخليل - عليه السلام -؛ وعبر عن أمر الكليم - عليه السلام - بقوله: ولما جاء موسى لميقاتنا ؛ وعن أمر الحبيب - عليه السلام - بقوله: سبحان الذي أسرى بعبده ؛ قال الأستاذ أبو القاسم القشيري؛ وفصل بين هذه المقامات: إبراهيم - عليه السلام - كان بعين الفرق - يعني أنه بعدما كان فيه من الجمع حين كسر الأصنام من الفناء عما سوى الله؛ رجع إلى حال الفرق؛ لأنه لا بد من ذلك -؛ وموسى - عليه السلام - بعين الجمع؛ لأنه أخبر عن فعله من غير أن ينسب إليه قولا؛ ثم أخبر أنه قال: "رب أرني"؛ فلم ير غيره - سبحانه -؛ فطلب أن يريه؛ وهذا هو الفناء؛ ونبينا - صلى الله عليه وسلم - بعين جمع الجمع - لأنه لم ينسب إليه قول ولا فعل؛ بل هو المراد؛ إلى أن قال: لنريه من آياتنا فهذا هو الفناء حتى عن الفناء؛ ثم قال: إنه هو [ ص: 261 ] السميع البصير فأثبت له - مع ذلك - الكمال.