ولما كان التقدير: "فما قضيناه في الأزل بيوم الحساب؛ وتوعدنا به؛ سدى"؛ عطف عليه قوله - صارفا الكلام عن الغيبة إلى مظهر العظمة؛ إشارة إلى أن العظيم تأبى له عظمته غير الجد العظيم -: [ ص: 371 ] وما خلقنا ؛ أي: على ما لنا من العظمة؛ ويجوز أن تكون الجملة حالية؛ ولما كان السياق لما وقع من الشقاق عنادا؛ لا جهلا؛ ذكر من السماوات ما لا يمكن النزاع فيه؛ مع أن اللفظ للجنس؛ فيشمل الكل؛ فقال: السماء ؛ أي: التي ترونها؛ والأرض وما بينهما ؛ مما تحسونه من الرياح؛ وغيرها؛ خلقا باطلا ؛ أي: لغير غاية أردناها بذلك؛ من حساب من فيهما؛ كما يحاسب أقل من فيكم إجزاء ومجازاة من فيهما بالثواب لمن أطاع؛ والعقاب لمن عصى؛ كما يفعل أقل ملوككم؛ فإن أدنى الناس عقلا لا يبني بناء ضخما إلا لغاية أرادها؛ وتلك الغاية هي الفصل بين الناس؛ الذين أعطيناهم القوى والقدر في هذه الدار؛ وبثثنا بينهم الأسباب الموجبة لانتشار الصفاء فيهم؛ والأكدار؛ وأعطيناهم العقول؛ تنبيها على ما يراد؛ وأرسلنا فيهم الرسل؛ وأنزلنا إليهم الكتب؛ بالتعريف بما يرضينا؛ ويسخطنا؛ فنابذوا كل ذلك؛ فلو تركناهم بلا جمع لهم؛ ولا إنصاف بينهم لكان هذا الخلق كله باطلا؛ لا حكمة فيه أصلا؛ لأن خلقه للضر؛ أو النفع؛ أو لا لواحد منهما؛ والأول باطل؛ لأنه غير لائق بالرحيم الكريم؛ والثالث باطل لأنه كان في حال العدم كذلك؛ فلم يبق للإيجاد مرجح؛ فتعين الوسط؛ وهو النفع؛ وهو لا يكون بالدنيا؛ لأن ضرها أكثر من نفعها؛ وتحمل ضر كثير لنفع قليل [ ص: 372 ] غير لائق بالحكيم الكريم؛ فتعين ما وقع الوعد الصادق به؛ من نفع الآخرة؛ المطابق لما ذكر من عقل العقلاء؛ وسير النبلاء.
ولما كان هذا - وهو منابذة الحكمة - عظيما جدا؛ عظمه بقوله: ذلك ؛ أي: الأمر البعيد عن الصواب؛ ظن الذين كفروا ؛ أي: من أوقع هذا الظن في وقت ما؛ فقد أوجد الكفر؛ لأنه جحد الحكمة التي هي البعث؛ لإظهار صفات الكمال؛ والمجازاة بالثواب والعقاب؛ ومن جحد الحكمة فقد سفه الخالق؛ فكان إقراره بأنه خالق كـ "لا إقرار"؛ فكان كافرا به؛ ثم سبب عن هذا الظن قوله: فويل ؛ أي: هلاك عظيم بسبب هذا الظن؛ وأظهر في موضع الإضمار؛ تعميما وتعليقا للحكم بالوصف؛ فقال: للذين كفروا ؛ أي: مطلقا؛ بهذا الظن؛ وبغيره؛ من ؛ أي: مبتدأ من النار ؛ أي: الحكم عليهم بها.