الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ثم بساط يمينه ، [ ص: 49 ] ثم عرف قولي ثم مقصد لغوي ، [ ص: 50 ] ثم شرعي

التالي السابق


( تكميل )

كما تخصص النية العام وتقيد المطلق تعمم الخاص والمطلق من الأول قوله الآتي وبما أنبتت الحنطة إن نوى المن ومن الثاني والله لأكرمن أخاك ناويا به جميع إخوتك ( ثم ) إن عدمت النية أو ضبطها خصص العام أو قيد المطلق ( بساط ) بكسر الموحدة وهو مقام اليمين سواء كان سببا فيها أو لا فيخصص العام مثلا إذا قيل لشخص : لحم البقر داء كما ورد فلا تأكله يؤذك فحلف لا آكل لحما ولم يقصد تعميما ولا تخصيصا ، فيخصص اللحم في يمينه بلحم البقر بقرينة السياق فلا يحنث بلحم غيره . وكمن قيل له : أنت تزكي الشهود بشيء تأخذه منهم فحلف لا يزكي ولا ينقله فتخصص الزكاة في يمينه بتزكية الشهود بقرينة السياق فلا يحنث فيها بتزكية المال .

ابن رشد فيمن يبتاع لأهله لحما فوجد زحاما على الجزار فحلف بالطلاق ألبتة إن اشتراه لهم فرجع إليهم فعاتبوه فخرج فاشترى كبشا فذبحه وأكلوا من لحمه فقال الإمام مالك رضي الله تعالى عنه : ما أراه إلا وقد حنث وأرى هذا لحما . ابن القاسم إلا إذا كانت كراهيته للزحام على المجزرة ووجد لحما أو كبشا في غيرها فاشتراه فأرى أن ينوي فيه . ابن رشد لم يراع الإمام البساط في هذه المسألة وراعاه ابن القاسم وهو المشهور في المذهب من حمل اليمين على مقتضى اللفظ إلا عند البساط . ومعنى قول ابن القاسم أرى أن ينوي فيه أنه يصدق في أنه إنما حلف كراهية للزحام ولا يميز عليه إن شهدت بينة به أو استفتى ، ولو شهدت أنه حلف بالطلاق أن لا يشتري لهم لحما ثم اشتراه فقال كنت [ ص: 49 ] حلفت للزحام ولم تعلمه البينة طلق عليه ، ولا يصدق في دعواه ا هـ .

وظاهر كلامهم اعتباره ولو مع مرافعة في طلاق وعتق معين لكن بشرط شهادة البينة به كما تقدم عن ابن رشد .

( ثم ) بعد البساط يخصص العام ويقيد المطلق ( عرف ) بضم العين المهملة وسكون الراء أي اصطلاح ( قولي ) أي عادة عامة الناس في استعمال اللفظ العام أو المطلق ، فيحمل العام أو المطلق على المعنى الذي جرى عرفهم باستعماله فيه لأنه مقصود الحالف غالبا . ولأن كل متكلم بلغة يجب حمل كلامه على المعنى الذي يستعمل أهل تلك اللغة فيه ذلك اللفظ قاله ابن عبد السلام ، كاختصاص الدابة بالحمار بمصر وبأنثاه في قنصة وبالفرس في العراق قاله ابن فرحون . وظاهره وإن لم يكن الحمار من مراكبه إذ الفرض عدم النية دون الخيل والبغال واختصاص المملوك بالأبيض والدرهم بفلس النحاس ، وقدم العرف القولي على المقصد اللغوي لأن العرف القولي بمنزلة الناسخ اللغوي والناسخ يقدم على المنسوخ .

واحترز بالقولي عن العرف الفعلي فلا يعتبر في هذا الباب لأن اللفظ لم يتجاوز معناه إلى فعلهم عندهم كحلفه لا آكل خبزا وهو اسم لكل مخبوز في عرفهم ، فإذا كان أهل بلده لا يصنعون الخبز إلا من القمح فلا يخصص عرفهم الخبز في اليمين بخبز القمح فيحنث بأكله من كل مخبوز قاله القرافي وغيره ، وتبعهم المصنف هنا . وفي التوضيح ونقل فيه عن ابن عبد السلام أن ظاهر مسائل الفقهاء اعتبار العرف وإن كان فعليا ، ونقل الوانوغي عن الباجي أنه صرح بأن العرف الفعلي يعتبر مخصصا ومقيدا ; قال وبه يرد ما زعمه القرافي وقد صرح اللخمي أيضا باعتباره . وفي القلشاني لا فرق بين القولي والفعلي في ظاهر مسائل الفقهاء . وقيل لا يعتبر إلا القولي .

( ثم ) إن عدم ما ذكر يخصص العام ويقيد المطلق ( مقصد ) بفتح الميم والصاد المهملة قاله أحمد ونحوه في المصباح أي مقصود ( لغوي ) أي المعنى الذي استعملت العرب اللفظ فيه كحلفه لا ركب دابة ، وليس لأهل بلده عرف بإطلاقها على شيء خاص فتحمل على [ ص: 50 ] معناها اللغوي وهو كل ما دب أي مشى فيحنث بركوب الآدمي والطير والتمساح وكل ما دب ، وكحلفه لا يصلي ولا عرف لهم ولا نية له فيحنث بالدعاء . فإن تعدد المعنى اللغوي للفظ كالمشترك حمل على أظهر معانيه ، فإن استوت جرى على الخلاف في مجتهد تعارضت عنده أدلة بلا ترجيح ، فقيل يأخذ بالأثقل وقيل بالأخف ، وقيل بما شاء ، فالمراد بالتخصيص والتقييد هنا مطلق الحمل لا المعنيان السابقان لانتفائهما هنا .

( ثم ) إن عدم ما ذكر خصص العام وقيد المطلق مقصد ( شرعي ) ابن فرحون إن كان الحالف صاحب شرع أو الحلف على شيء شرعي كحلفه ليصلين أو ليتوضأن وكحلفه لا أكلم رجلا فلا يحنث بكلام صبي ، وهذا ضعيف والمعتمد تقديم المقصد الشرعي على المقصد اللغوي كما يأتي في قوله وسافر القصر في لأسافرن ، بل وعلى المقصد العرفي كما في سماع سحنون الذي نقله المواق وجزم به الشيخ ميارة . ووجه بأنه ناسخ له ، واستشكل ما هنا بأنه لا يتصور وجود معنى شرعي بدون معنى لغوي إذ الشرعي فرد اللغوي غالبا أو مساو له كالظلم فإنه تجاوز الحد لغة وشرعا .

وأجيب بأن المعرب وهو لفظ غير علم استعملته العرب فيما وضع هو له في غير لغتهم على القول بوقوعه في القرآن له مدلول شرعي ليس له مدلول لغوي لأن المراد بالشرعي ما استعمله الشارع لا ما وضعه أهل الشرع فإذا حلف لا وزن بالقسطاس حنث بوزن الميزان إذ هو معنى القسطاس شرعا ، وإن لم يكن معناه لغة لا يقال المدلول الشرعي مدلول عرفي فيتكرر معه لأنا نقول : المدلول العرفي يطلق على العرف الخاص كالشرعي والنحوي وعلى العرف العام ، والمراد به هنا الثاني .




الخدمات العلمية