الركن الثالث : فإن للمرائي مقصودا لا محالة وإنما ؛ يرائي لإدراك مال أو جاه أو غرض من الأغراض ، لا محالة ، وله أيضا ثلاث درجات : المراءى لأجله ،
الأولى : وهي أشدها وأعظمها ، أن يكون مقصوده التمكن من معصية ، كالذي يرائي بعبادته ، ويظهر التقوى والورع بكثرة النوافل ، والامتناع عن أكل الشبهات ، وغرضه أن يعرف بالأمانة فيولى القضاء أو الأوقاف أو الوصايا أو مال الأيتام ، فيأخذها ، أو يسلم إليه تفرقة الزكاة ، أو الصدقات ؛ ليستأثر بما قدر عليه منها ، أو يودع الودائع فيأخذها ويجحدها ، أو تسلم إليه الأموال التي تنفق في طريق الحج فيختزل بعضها ، أو كلها ، أو يتوصل بها إلى استتباع الحجيج ، ويتوصل بقوتهم إلى مقاصده الفاسدة في المعاصي. .
وقد يظهر بعضهم زي التصوف وهيئة الخشوع وكلام الحكمة على سبيل الوعظ والتذكير ، وإنما قصده التحبب إلى امرأة أو غلام لأجل الفجور ، وقد يحضرون مجالس العلم والتذكير وحلق القرآن ، يظهرون الرغبة في سماع العلم والقرآن ، وغرضهم ملاحظة النساء والصبيان ، أو يخرج إلى الحج ومقصوده الظفر بمن في الرفقة من امرأة أو غلام .
، وهؤلاء واتخذوها آلة ومتجرا وبضاعة لهم في فسقهم ويقرب من هؤلاء وإن كان دونهم من هو مقترف جريمة ، اتهم بها وهو مصر عليها ، ويريد أن ينفي التهمة عن نفسه ، فيظهر التقوى لنفي التهمة ، كالذي جحد وديعة واتهمه الناس بها فيتصدق ، بالمال ؛ ليقال : إنه يتصدق بمال نفسه ، فكيف يستحل مال غيره ؟! وكذلك من ينسب إلى فجور بامرأة أو غلام فيدفع التهمة عن نفسه بالخشوع وإظهار التقوى . أبغض المرائين إلى الله تعالى ؛ لأنهم جعلوا طاعة ربهم سلما إلى معصيته ،
الثانية : أن يكون غرضه نيل حظ مباح من حظوظ الدنيا من مال أو نكاح امرأة جميلة أو شريفة كالذي يظهر الحزن والبكاء ، ويشتغل بالوعظ والتذكير ؛ لتبذل له الأموال ويرغب ، في نكاحه النساء ، فيقصد إما امرأة بعينها لينكحها أو امرأة شريفة على الجملة وكالذي ، يرغب أن يتزوج بنت عالم عابد ، فيظهر له العلم والعبادة ؛ ليرغب في تزويجه ابنته .
فهذا رياء محظور ؛ لأنه طلب بطاعة الله متاع الحياة الدنيا ، ولكنه دون الأول فإن ؛ المطلوب بهذا مباح في نفسه .
الثالثة : أن لا يقصد نيل حظ وإدراك مال أو نكاح ، ولكن يظهر عبادته خوفا من أن ينظر إليه بعين النقص ، ولا يعد من الخاصة والزهاد ويعتقد أنه من جملة العامة ، كالذي يمشي مستعجلا فيطلع عليه الناس ، فيحسن المشي ويترك العجلة كيلا يقال : إنه من أهل اللهو والسهو ، لا من أهل الوقار وكذلك إن سبق إلى الضحك ، أو بدا منه المزاح ، فيخاف أن ينظر إليه بعين الاحتقار ، فيتبع ذلك بالاستغفار وتنفس الصعداء ، وإظهار الحزن ويقول : ما أعظم غفلة الآدمي عن نفسه ! والله يعلم منه أنه لو كان في خلوة لما كان يثقل عليه ذلك ، وإنما يخاف أن ينظر إليه بعين الاحتقار لا بعين التوقير وكالذي يرى جماعة يصلون التراويح أو يتهجدون ، أو يصومون الخميس والاثنين ، أو يتصدقون فيوافقهم خيفة أن ينسب إلى الكسل ، ويلحق بالعوام ، ولو خلا بنفسه لكان لا يفعل شيئا من ذلك ، وكالذي يعطش يوم عرفة أو عاشوراء أو في الأشهر الحرم فلا يشرب ؛ خوفا من أن يعلم الناس أنه غير صائم ، فإذا ظنوا به الصوم امتنع عن الأكل لأجله ، أو يدعى إلى طعام فيمتنع ليظن أنه صائم ، وقد لا يصرح بأني صائم ، ولكن يقول : لي عذر ، وهو جمع بين خبيثين ، فإنه يري أنه صائم ، ثم يري أنه مخلص ليس بمراء ، وأنه يحترز من أن يذكر عبادته للناس ، فيكون مرائيا ، فيريد أن يقال : إنه ساتر لعبادته ، ثم إن اضطر إلى شرب لم يصبر عن أن يذكر لنفسه فيه عذرا تصريحا أو تعريضا بأن يتعلل بمرض يقتضي فرط العطش ويمنع من الصوم ، أو يقول : أفطرت تطييبا لقلب فلان ثم قد لا يذكر ذلك متصلا بشربه ؛ كي لا يظن به أنه يعتذر رياء ، ولكنه يصبر ، ثم يذكر عذره في معرض حكاية عرضا مثل أن يقول : إن فلانا محب للإخوان ، شديد الرغبة في أن يأكل الإنسان من طعامه ، وقد ألح علي اليوم ، ولم أجد بدا من تطييب قلبه .
ومثل أن يقول : إن أمي ضعيفة القلب ، مشفقة علي ، تظن أني لو صمت يوما مرضت ، فلا تدعني أصوم فهذا وما يجري مجراه فلا يسبق إلى اللسان إلا لرسوخ عرق الرياء في الباطن . من آفات الرياء
أما المخلص فإنه لا يبالي كيف نظر الخلق إليه ، فإن لم يكن له رغبة في الصوم ، وقد علم الله ذلك منه ، فلا يريد أن يعتقد غيره ما يخالف علم الله ، فيكون ملبسا ، وإن كان له رغبة في الصوم لله ، قنع بعلم الله تعالى ، ولم يشرك فيه غيره ، وقد يخطر له أن في إظهاره اقتداء غيره به ، وتحريك رغبة الناس فيه ، وفيه مكيدة وغرور ، وسيأتي شرح ذلك وشروطه .