ثم أي غرض له في مدحهم ، وإيثار ذم الله لأجل حمدهم ، ولا يزيده حمدهم رزقا ، ولا أجلا ، ولا ينفعه يوم فقره وفاقته ، وهو يوم القيامة ؟! وأما وأن الخلق مضطرون فيه ولا رازق إلا الله ، ومن طمع في الخلق لم يخل من الذل والخيبة ، وإن وصل إلى المراد لم يخل عن المنة والمهانة فكيف يترك ما عند الله برجاء كاذب ، ووهم فاسد قد ، يصيب وقد يخطئ وإذا ؟! أصاب فلا تفي لذته بألم منته ومذلته . وأما ذمهم فلم يحذر منه ، ولا يزيده ذمهم شيئا ما لم يكتبه عليه الله ، ولا يعجل أجله ، ولا يؤخر رزقه ، ولا يجعله من أهل النار إن كان من أهل الجنة ، ولا يبغضه إلى الله إن كان محمودا عند الله ، ولا يزيده مقتا إن كان ممقوتا عند الله ، فالعباد كلهم عجزة لا يملكون لأنفسهم ضرا ولا نفعا ، ولا يملكون موتا ولا حياتا ولا نشورا . الطمع فيما في أيديهم فبأن يعلم أن الله تعالى هو المسخر للقلوب بالمنع والإعطاء ،
فإذا قرر في قلبه آفة هذه الأسباب وضررها فترت رغبته وأقبل على الله قلبه فإن العاقل لا يرغب فيما يكثر ضرره ويقل نفعه ، ويكفيه أن وسيكشف الله عن سره حتى يبغضه إلى الناس ، ويعرفهم أنه مراء وممقوت عند الله ، ولو أخلص لله لكشف الله لهم إخلاصه وحببه إليهم ، وسخرهم له وأطلق ألسنتهم بالمدح والثناء عليه ، مع أنه لا كمال في مدحهم ، ولا نقصان في ذمهم ، كما قال شاعر الناس لو علموا ما في باطنه من قصد الرياء وإظهار الإخلاص لمقتوه بني تميم . إن مدحي زين وإن ذمي شين فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : « كذبت ذاك ؛ الله الذي لا إله إلا هو
» إذ لا زين إلا في مدحه ، ولا شين إلا في ذمه ، فأي خير لك في مدح الناس .
وأنت عند الله مذموم ، ومن أهل النار ؟! وأي شر لك من ذم الناس ، وأنت عند الله محمود في ، زمرة المقربين ؟! فمن أحضر في قلبه الآخرة ونعيمها المؤبد والمنازل الرفيعة عند الله استحقر ما يتعلق بالخلق أيام الحياة ، مع ما فيه من الكدورات والمنغصات واجتمع همه ، وانصرف إلى الله قلبه وتخلص من مذلة الرياء ، ومقاساة قلوب الخلق وانعطف ، من إخلاصه أنوار على قلبه ، ينشرح بها صدره ، وينفتح بها له من لطائف المكاشفات ما يزيد به أنسه بالله ، ووحشته من الخلق ، واستحقاره للدنيا ، واستعظامه للآخرة ، وسقط محل الخلق من قلبه ، وانحل عنه داعية الرياء ، وتذلل له منهج الإخلاص .
فهذا وما قدمناه في الشطر الأول هي الأدوية العلمية القالعة مغارس الرياء .
وأما الدواء العملي فهو أن يعود نفسه إخفاء العبادات وإغلاق الأبواب دونها ، كما تغلق الأبواب دون الفواحش حتى يقنع قلبه بعلم الله واطلاعه ، على عباداته ولا تنازعه ، النفس إلى طلب علم غير الله به .
وقد روي أن بعض أصحاب أبي حفص الحداد ذم الدنيا وأهلها ، فقال : أظهرت ما كان سبيلك أن تخفيه ، لا تجالسنا بعد هذا .
فلم يرخص في إظهار هذا القدر ؛ لأن في ضمن ذم الدنيا دعوى الزهد فيها فلا دواء للرياء مثل الإخفاء ، وذلك يشق في بداية المجاهدة وإذا صبر عليه مدة بالتكلف سقط عنه ثقله ، وهان عليه ذلك بتواصل ألطاف الله وما يمد به عباده من حسن التوفيق ، والتأييد والتسديد ولكن ، الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم فمن العبد المجاهدة ومن الله الهداية ، ومن العبد قرع الباب ومن الله فتح الباب والله لا يضيع أجر المحسنين ، وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجرا عظيما .