الوجه السادس عشر: قوله: "أقصى ما في الباب أن يقول قائل: إن تلك الأجزاء لا تقبل التفريق والانحلال، إلا أن هذا لا يمنع من كونه في نفسه مركبا مؤلفا كما أن الفلسفي يقول: إن الفلك جسم إلا أنه لا يقبل الخرق والالتئام، فإن ذلك لا يمنع من اعتقاد كونه جسما طويلا عريضا عميقا".
يقال له: [هذا] مثل قال: لأن العرض ما لا يبقى بل يعرض ويزول، وتلك الصفات [ ص: 420 ] لازمة باقية، فيقال له: إلا إن هذا لا يمتنع كونه في نفسه متحيزا قامت به الصفات التي هي من جنس الأعراض، كما أن الفلسفي لما اعتقد في الإنسان أنه حيوان ناطق، وأن هذه صفات ذاتية له لا يمكن أن تفارق ذاته، لا في الذهن ولا في الخارج لم يمنعه ذلك من أن تكون هذه الصفات عنده أعراضا، وكذلك إذا قال القائل: القول بكونه عالما قادرا حيا هو قول بثبوت هذه الصفات، بل إذا قال القائل القول بكونه واجب الوجود أنه فاعل العالم وأنه عاقل ومعقول وعقل وأن له عناية ونحو ذلك هو قول بثبوت الأعراض والصفات والتركيب، أقصى ما في الباب أن يقول قائل: إن هذه الصفات والأجزاء ذاتية للموصوف لا يقبل مفارقتها. قول القائل: إن القول بثبوت الصفات قول بثبوت الأعراض، والأعراض لا تقوم إلا بمتحيز، غاية ما في الباب أن يقال: تلك الصفات لازمة للموصوف لا تفارقه ولا تزايله، ولهذا امتنع من امتنع من تسميتها أعراضا،
ومما يوضح ذلك أن هؤلاء يسمون الصفات الذاتية أجزاء، [ ص: 421 ] ويقولون أجزاء الحد وأجزاء الكم والقدر؛ فهم إذا أثبتوا هذه المعاني كانوا مضطرين إلى القول بثبوت هذه الأمور التي يسمونها أجزاء وصفات ذاتية ونحو ذلك / ومتى ادعوا أنها أمور ليست وجودية [و]أن المفهوم منها واحد كانوا من أعظم الناس مكابرة للضروريات في كل واحدة من الدعوتين، ومتى أقروا بما هو معلوم بالفطرة الضرورية، وبما هو أجلى العلوم البديهية أنها أمور وجودية، وليس أحدهما هو الآخر، فقد أقروا بما منه فروا وهذا شأن من فر من الحق الذي لا يفر منه إلا إليه، ولا ملجأ منه إلا إليه، قال تعالى: ومن كل شيء خلقنا زوجين لعلكم تذكرون [الذاريات: 49] قالوا: لتعلموا أن خالق الأزواج واحد، فأخبر أن لكل شيء ندا ونظيرا، خلاف زعم الذين جعلوا له ولدا، وقالوا لم يتولد عنه ولم يصدر عنه إلا [ ص: 422 ] واحد، وهو العقل الأول، ثم قال: ففروا إلى الله إني لكم منه نذير مبين ولا تجعلوا مع الله إلها آخر إني لكم منه نذير مبين [الذاريات: 50، 51] فأمرهم بالفرار إليه وأن لا يجعلوا معه إلها آخر، فمن طلب نفي شيء عنه أو إثبات شيء له بالتسوية بينه وبين غيره فقد أشرك به، ووقع فيما عنه فر، ولم ينجه إلا الفرار إلى الله وحده.