الوجه السادس: أن هذه الصورة التي قد ذكر أن العقل الصريح لا يأباها، وهو أنه لا يأبى تقسيم الموجود إلى ما يكون حاصلا في الحيز وإلى ما لا يكون،، فيقال له: تعني بقولك: إن العقل الصريح لا يأبى هذا التقسيم: أتريد أن العقل الصريح لا يعلم امتناع هذا في الحيز؟ أو أن العقل الصريح يعلم إمكان هذا في الخارج؟ فإن قال: العقل الصريح يعلم إمكان هذا في الخارج كان معنى ذلك أن العقل الصريح يعلم أنه يمكن في الخارج وجود موجود متحيز، ووجود موجود غير متحيز، كما يعلم وجود موجود متحيز وقائم بالمتحيز، ووجود الجسم وصفاته، والعقل الصريح هنا إنما يراد به العلم الضروري، وإلا لم يحصل المقصود، ومعلوم أنه لم يدع ولا ذكر عن أحد من ذويه أنهم ادعوا أنهم يعلمون علما ضروريا، وأن عقلهم الصريح يحكم بإمكان وجود موجود في الخارج، ليس بمتحيز، ولا قام بالمتحيز. إذا فسر المتحيز بالمباين لغيره بالجهة؛ بل هؤلاء إنما يثبتون إمكان ذلك كما يثبتون وجوده بالأدلة النظرية، ولو أمكنهم دعوى العلم الضروري بذلك كانوا يدعون العلم [ ص: 155 ] الضروري بإمكان وجود موجود لا داخل العالم ولا خارجه، ثم لو قدر أنه ادعى ذلك مدع لم تكن دعواه دافعة لما ادعاه أولئك؛ بل يكون الحكم لغيرهما، وحينئذ فعليهم جميعا أن يسلموا الحكم لكتب الله المنزلة وأنبيائه المرسلة، ولا نزاع بين الخلائق؛ أن وذلك يقتضي رجحان ذلك، لو فرض أن لهؤلاء في السمع دليلا فكيف وجميع علمائهم وعلماء الأولين والآخرين يعلمون أن السمع ليس فيه دلالة تدل لا نصا ولا ظاهرا على أن الله سبحانه وتعالى ليس فوق العالم، وفيه من الأدلة التي هي نصوص وظواهر على أن الله سبحانه وتعالى فوق العالم ما لا يحصيه إلا رب العباد. دلالة الكتب الإلهية والآثار النبوية على أنه سبحانه فوق العالم أعظم من دلالتها على نفي كيفيته وكميته،
ولما علم الله أن بني آدم يصل الأمر بينهم في المناظرات إلى هذا الحد وكانوا يدعون وجدا وعلما ضروريا إما صادقين في ذلك وهم غالطون لا يعرفون وجه غلطهم، وإما كاذبين في ذلك: آدم إلا بالنبي والرسول، وحاجتهم إلى ذلك ضرورية، قال الله تعالى: كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه [البقرة: 213] وقال تعالى: أرسل رسله وأنزل كتبه، وأمرهم أن يحكموا بين الناس فيما اختلفوا فيه، ولهذا لا يقطع النزاع عن بني فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا [ ص: 156 ] [النساء: 59].
وهذا كله إذا ادعى مدع العلم الضروري العقلي بنقيض ما ادعاه أولئك، فكيف ولم يذكر أن أحدا ادعاه، ولا يدعيه إلا من خالف أصحابه، ودخل في السفسطة الصريحة والجحود والبهتان، ولا ريب أن باب الكذب والافتراء ليس مسدودا فيمكن أن يحمل بعض الناس اعتقاده وظنه، أو هواه وغرضه، أو كليهما على ادعاء ذلك، وإن قال معنى قولي: إن العقل الصريح لا يأباها أي لا يعلم امتناعها فهذا إذا علم لم يضر المنازع؛ فإن المنازع إذا قال أنا أعلم بالضرورة امتناع وجود موجود لا داخل العالم ولا خارجه، وأنت لم تعلم امتناع صورة تستلزم إمكان ذلك لم يكن عدم العلم بامتناع ما يوجب إمكان ذلك قادحا في العلم بامتناعه، فإنا إذا علمنا أن الشيء ممتنع، وكان إمكان غيره مستلزما لإمكانه، وذلك اللزوم لا يعلم امتناعه لم يكن عدم علمنا بامتناع مستلزم الإمكان مثبتا للإمكان هذا، ولا مانعا من العلم بالامتناع، وقد تقدم أنه لو قال لا أعلم امتناع ذلك لم يكن هذا جوابا.
فكيف إذا قال فيما يثبت به الإمكان: أني أعلم امتناع هذا التقسيم، لم يكن عدم العلم بامتناعه موجبا عدم العلم بامتناع ذلك الخلو عن القسمين؛ إذ أحدهما ليس هو الآخر، وإن كان [ ص: 157 ] بينهما تلازما.