الوجه الحادي عشر: أما ما ذكروه منقوض عليهم بجميع ما في الوجوه من الحوادث، وبجميع ما في الوجود من كل موجود وصفة وقدرة؛ وذلك أنه ما من موجود من سماء أو أرض، أو ليل أو فلك أو نجم، أو بشر أو حيوان أو نبات إلا وهو مخصوص بأمور متعددة من الخواص في مقاديره وصفاته ومكانه وزمانه. وهذا يذكر على وجهين:
الأول: النقض بالحوادث كلها؛ فإنه يقال في كل حادث: [ ص: 279 ] جميع الأمور المعتبرة في تأثيره إما أن تكون حاصلة في الأزل أو لا تكون؛ فإن كانت حاصلة وجب قدمه وهو خلاف المشهود، وإن لم تكن حاصلة في الأزل فالقول في حصولها بعد ذلك كالقول في ذلك الحادث ويلزم التسلسل فيجب أن لا يحصل بعد ذلك فيمتنع حدوث هذه الحوادث، وهو خلاف المشهود، فطرد قياسهم هذا الذي به يهولون يلزمهم إما القول بقدم جميع الموجودات، وإما عدم جميع المفعولات، وإذا بطل القدم والعدم علم أنهم زلت بهم القدم.
والثاني: أن يقال: هذه مع حدوثها وما يزعم أنه قديم من الأفلاك والكواكب والعناصر هي مختصة في مقاديرها وصفاتها وأحيازها وحركات من الخصائص مما لا يحصيه إلا الله تعالى، فالمقتضي لذلك التخصيص إما أن يكون موجبا بالذات ليس له التخصيص، أو لا يكون؛ فإن كان موجبا بالذات فهو لا اختصاص فيه على ما يزعمونه؛ بل هو واحد من جميع الوجوه، والعقل الصريح يشهد أن ما يكون كذلك لا يخصص شيئا بصفة وقدر دون شيء، ولا يعقل ذاتا على صفة مخصوصة دون ذات، وإن كان الفاعل لذلك ما من شأنه التخصيص فهو يخص الحوادث بأوقاتها، كما يخصها بأحيازها، وكما يخصها بصفاتها وأقدارها؛ بل أمر الزمان أخص من غيره، ومهما اعتذروا به مثل أن يقولوا: لا يمكن غير ذلك، أو ما سوى ذلك.
[ ص: 280 ] ممتنع فإنه يقال نظيره في محل النزاع، كما قال من قال من المتكلمين إنه لم يكن فعله إلا حين فعل؛ بل قد يدرك العقل الإحالة في العدم أعظم مما يدركه في هذه الخصائص. والله سبحانه وتعالى أعلم.
وأما مخالفة هؤلاء لما جاءت به الرسل عن الله وما نزلت به كتبه فهو أعظم وأكثر من أن يوصف هنا، وإن كان من دخل في الملل من منافقيهم كالملاحدة القرامطة الباطنية ومن ضاهاهم من المتفلسفة ونحوهم يزعمون أنهم يجمعون بين الكتب الإلهية وبين هذه الفلسفة الفاسدة الحائدة، كما فعل أصحاب الرسائل التي سموها: رسائل إخوان الصفا، وغيرهم.
فإن كما قال تعالى: من تحققت معرفته ببعض ما جاءت به الرسل وببعض ما عليه هؤلاء علم أنهم أعداء الرسل وسوس الملل، وأنهم من أعظم الناس نفاقا للمرسلين إذا أظهروا موافقتهم، وأعظمهم معاداة لهم وكفرا بهم، ومحاربة لهم إذا أظهروا مخالفتهم، بل هم أئمة الكفر من كل طائفة، وجعلناهم أئمة يدعون إلى النار ويوم القيامة لا ينصرون [القصص: 41] وقال تعالى: الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم إن في صدورهم إلا كبر ما هم ببالغيه فاستعذ بالله إنه هو السميع البصير [غافر: 56] وقال تعالى: فلما جاءتهم رسلهم بالبينات فرحوا بما عندهم من العلم وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون فلما رأوا بأسنا قالوا آمنا بالله وحده وكفرنا بما كنا به مشركين فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا سنت الله التي قد خلت في عباده وخسر هنالك الكافرون [ ص: 281 ] [غافر: 83-85] وقال تعالى: ما يجادل في آيات الله إلا الذين كفروا فلا يغررك تقلبهم في البلاد كذبت قبلهم قوم نوح والأحزاب من بعدهم وهمت كل أمة برسولهم ليأخذوه وجادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق فأخذتهم فكيف كان عقاب [غافر: 4-5] وقال تعالى: وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا من المجرمين وكفى بربك هاديا ونصيرا [الفرقان: 31]، وقال: وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا [الأنعام: 112] وقال تعالى: ذرني ومن خلقت وحيدا وجعلت له مالا ممدودا وبنين شهودا ومهدت له تمهيدا ثم يطمع أن أزيد كلا إنه كان لآياتنا عنيدا سأرهقه صعودا إنه فكر وقدر فقتل كيف قدر ثم قتل كيف قدر ثم نظر ثم عبس وبسر ثم أدبر واستكبر فقال إن هذا إلا سحر يؤثر إن هذا إلا قول البشر سأصليه سقر [المدثر: 11-26].
وهذا باب واسع ليس هذا موضعه، وقد تكلمنا على كثير مما يتعلق بهذا في غير هذا الموضع، وإنما نبهنا هنا على ذلك لتعلق الكلام في المكان بالكلام في الزمان، وتعلق الكلام في كونه فوق العالم بكونه قبل العالم، كما قال سبحانه: هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم [الحديد: 3] وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء".
[ ص: 282 ]