الوجه الثاني عشر: أن خروج هؤلاء الجهمية عن النقيضين ومنعهم من ثبوت العلو الحقيقي والمباينة الحقيقية هو كخروج سائر إخوانهم من ملاحدة المتفلسفة والقرامطة ونحوهم عن النقيضين، ومنعهم من أسمائه الحسنى، فقول القائل: ليس بداخل العالم ولا خارجه، أو لا على العالم ولا فيه، أو ليس بمباين للعالم ولا محايث له، كقوله: لا قائم بنفسه ولا بغيره، ولا مقارن للعالم ولا يتقدم عليه، ذلك كقولهم: ليس بحي ولا ميت ولا عالم ولا جاهل، ولا قادر ولا عاجز، ولا متكلم ولا أخرس، ولا سميع ولا أصم، ولا بصير ولا أعمى، ومنعهم من أن يكون له العلو والمباينة الحقيقية كمنع أولئك من أن يكون له التقدم والأولية الحقيقية، أو يكون عالما أو قادرا أو حيا. والسؤالات التي يوردها هؤلاء على ثبوت علوه ومباينته كالسؤالات التي يوردها إخوانهم على ثبوت علمه وقدرته وحياته، أو على ثبوت كونه عالما قادرا حيا سواء بسواء. وإذا كان المؤسس وغيره يعلمون أن قول الملاحدة خروج عن النقيضين فقوله وقول موافقيه أيضا خروج من النقيضين جميعا، وهم وإن أقروا بألفاظ النصوص مثل اسمه "العلي والظاهر والكبير والمتعالي" ونحو ذلك، فقد جحدوا حقائقها، كما أن إخوانهم الجهمية لما نفوا أن يكون: "علم وقدرة وحياة" فهم في [ ص: 283 ] الحقيقة قد نفوا أن يكون حيا عالما قادرا موافقة للزنادقة الملاحدة النافين للأسماء؛ كما قال في الإبانة: أبو الحسن الأشعري الجهمية والقدرية أن الله تعالى لا علم له ولا قدرة ولا حياة ولاسمع ولا بصر، وأرادوا أن ينفوا أن الله عالم قادر حي سميع بصير. فمنعهم من ذلك خوف السيف من إظهار نفي ذلك فأتوا بمعناه، لأنهم إذا قالوا لا علم ولا قدرة لله عز وجل فقد قالوا ليس بعالم ولا قادر ووجب ذلك عليهم". "وزعمت
قال "وهذا إنما أخذوه عن أهل الزندقة والتعطيل، لأن أبو الحسن: الزنادقة قال كثير منهم ليس بعالم ولا قادر ولا حي ولا سميع ولا بصير، فلم تقدر المعتزلة أن تفصح بذلك فأتت بمعناه، وقالت إن الله عز وجل عالم قادر حي سميع بصير، من طريق التسمية، من غير أن تثبت لله علما وقدرة أو سمعا أو بصرا". وحقيقتهم القرمطة في السمعيات والسفسطة في [ ص: 284 ] العقليات، فهؤلاء بمنزلة الملاحدة من الوجهين:
أحدهما: إقرارهم بلفظ مع جحدهم بحقيقة معناه، كما هو عادة القرامطة الباطنية في تحريف الكلم عن مواضعه، وكما ذكره عن الأشعري المعتزلة وهو النفاق في القرآن، وهو من الإلحاد في أسماء الله وآياته.
والوجه الثاني: السفسطة في العقليات من وجوه منها نفيهم للنقيضين جميعا بقولهم ليس بعالم ولا جاهل ولاحي ولا ميت، ولا قادر ولا عاجز.
ومن تدبر هذا، وتدبر قول هؤلاء في قولهم ليس فوق العالم ولا بداخل العالم، أو ليس بمباين للعالم ولا محايث له، أو لا داخل العالم ولا خارجه، علم أن هذا في العقل مثل الأول، بل أبلغ وأبده للعقل، وهو بمنزلة قول القائل لا قائم بنفسه ولا بغيره، ولا مع العالم ولا قبله، لأن ذلك نفي للنقيضين في الصفات، وهذا في الحقيقة نفي للنقيضين في الذات، أو مما هو لزومه للذات ووجوبه لها أعم من وجوب تلك الصفات، وأيضا فهذان النقيضان لا يتصور أن يخلو عنهما وجود بخلاف تلك الصفات، والمرجع في هذا التناقض إلى الفطر الصحيحة السليمة، وكل من أنصف وعلم ما في فطر الخلق وما عليه الموجودات علم هذا يقينا لا ريب فيه، ولهذا تجد عامة بني آدم [ ص: 285 ] السليمي الفطرة ينفرون عن نفي هذين النقيضين أعظم من نفورهم عن نفي ذينك النقيضين إذ هو عام لكل موجود بخلاف الصفات المختصة بالكامل من الموجودات. والله سبحانه وتعالى أعلم.
وما يعتذر به هؤلاء من أنه ليس بقابل للدخول والخروج هو من جنس ما يعتذر به القرامطة والفلاسفة من الفرق بين السلب والإيجاب، وبين العدم والملكة كقولهم إنه لا يقبل [ ص: 286 ] هذه الصفات حتى يقال إنه يلزم من نفي أحد النقيضين إثبات الآخر.
/ وإذا كان المسلمون قد بينوا أن واجب الوجود أحق بالصفات الوجودية وبصفات الكمال من سائر الموجودات، وأن من نفى قبوله لها ألحقه بالمعدوم والموات، كان هذا جوابا للفريقين، وليس هذا موضع بسط ذلك، إذ المقصود هاهنا أنهم من جنس القرامطة الملاحدة في هذا المقام.