وبالجملة فهذا القصد إما أن لا يكون، وإن ادعى كونه كان كاذبا، كالمخادعين في الحيل المحرمة، وإن كان من الفقهاء من يظن أن القصود غير معتبرة في ذلك، فهذا مخالف لما مع قول الشارع: اقتضته الشريعة والفطرة من كون الأعمال لا تكون إلا بالنيات، ، وهي من أجمع الكلمات وأجلها وأعظمها قدرا. "إنما الأعمال بالنيات"
وإما أن يكون هذا القصد من جاهل سفيه يقصد النقيضين ولا يشعر تناقضهما، فتناقض الآدميين في المقاصد والنيات كتناقضهم في الآراء والاعتقادات، كثيرا ما يريدون النقيضين في وقت أو وقتين.
وإذا تبين أنه لا يقصد بالوجود العدم، تبين بذلك دلالة القرآن على هذا المعنى في مثل قوله: وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلا ذلك ظن الذين كفروا ، وفي قوله: أيحسب الإنسان أن يترك سدى ، [ ص: 161 ] وقوله: وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما لاعبين ما خلقناهما إلا بالحق ، وقوله: وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق وإن الساعة لآتية فاصفح الصفح الجميل .
وإن كان قوله: بالحق أي بقوله الحق، فهذا إشارة إلى شيء من السبب الفاعل، والآية أعم من هذا، فإن الباء باء السبب، والسبب يتناول الفاعل والغاية، فإن الغاية سبب فاعل للسبب الفاعل، ولهذا يقال: جئت بسبب زيد، وبسبب تخليص هذا المال، وبسبب دفع العدو، ونحو ذلك.
والحق يعم الحق المقصود والحق الموجود، فالحق المقصود هو الغاية، وهو نقيض الباطل الذي في قوله - صلى الله عليه وسلم . وقد بسطنا هذا في غير هذا الموضع. -:"كل لهو يلهو به الرجل فهو باطل، إلا رميه بقوسه، وملاعبته امرأته، وتأديبه فرسه، فإنهن من الحق"
ويتبين أن النظر والاعتبار قد يعلم به المعاد، كما يعلم به مبدأ العباد، كما علم بالنظر والاعتبار ابتداء خلق العباد، بل الفطرة تقضي بذلك كما تقضي بالابتداء، وأن الذين أنكروا هذا من متكلمة أهل الإثبات، وقالوا لا نعلم ذلك إلا بالسمع، فذلك كقولهم: لا نعلم [ ص: 162 ] الأحكام إلا بالسمع، وهم في ذلك قصدوا مناقضة القدرية الذين أوجبوا المعاد والجزاء بالعقل، كما أثبتوا الأحكام بالعقل.