الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
فصل

وإذا عرف أن الأوقات في حال العذر ثلاثة أوقات، فنقول: العذر نوعان:

أحدهما: ما فيه حرج المسلم، كجمع المريض والمسافر إذا جد به السير.

والثاني: أن يشتغل بعبادة أفضل من الصلاة في الوقت المختص، مثل اتصال الوقوف بعرفة، فإن هذه العبادة أولى بالسنة المتواترة وإجماع المسلمين من أن يصلي العصر في وقتها المختص. كما أن الفطر لأجل الدعاء والذكر في هذا اليوم أفضل من صوم يوم عرفة الذي يكفر سنتين، مع أن هذا فيه نزاع بين العلماء، فإنهم تنازعوا .

وإذا كان هذا في الوقت فمعلوم أن جنس الجهاد أفضل من جنس الحج، ومن الجهاد ما يكون أفضل من وقوف عرفة إذا كان المسلمون بإزائهم عدو يتصل قتاله لهم إلى الغروب مصافة أو محاصرة أو غير ذلك كان أن يجمعوا بين الصلاتين ثم يدخلوا في الجهاد المتصل خيرا من أن يؤخروا الصلاة إلى بعد الغروب، كما يقوله من لا يجوز الجمع ولا الصلاة مع القتال ويجوز تأخير الصلاة، وكان خيرا من أن يصلوا في حال القتال. فإنه لا يستريب مسلم أن فعل الصلاتين في وقت الظهر خير من فعلهما أو فعل إحداهما بعد الغروب، فإن هذا فعل صلاة النهار في النهار وجمع في الوقت الذي يجوز جنسه بالنص والإجماع. [ ص: 353 ]

وأما تفويت الصلاة إلى الغروب مع إمكان فعلها في الوقت فهذا لم يرد به سنة قط، فإن غاية ما يحتج به تأخير النبي - صلى الله عليه وسلم - الصلاة يوم الخندق، وقد روي أنه أخر الظهر والعصر جميعا وأخر المغرب أيضا، فلم يصلهن إلا بعد مضي طائفة من الليل. وهذا إن كان نسيانا فليس هو مما نحن فيه، فإنه من نام عن صلاة أو نسيها كان مأمورا بأن يصليها إذا ذكرها. وإن لم يكن نسيانا بل اشتغالا بالقتال كما يقوله الجمهور فعنه جوابان:

أحدهما: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان مشغولا بقتالهم في النهار، ولم يعلم أنه يفرغ للصلاة بعد الزوال دون ما بعد العصر فإذا كان كذلك لم يكن هذا مما نحن فيه، فإن الكلام إنما هو فيمن تفرغ للجمع في أول وقت الظهر، كما تفرغ النبي - صلى الله عليه وسلم - لذلك يوم عرفة.

الثاني: أن هذا التأخير منسوخ بقوله: حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وقوموا لله قانتين ، فإنها نزلت في ذلك، والوسطى هي العصر، ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم الخندق: "ملأ الله أجوافهم وقبورهم نارا كما شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر" . وأيضا فقد ثبت عنه في الصحيح أنه قال: "من فاتته صلاة العصر فكأنما وتر أهله وماله" . وعلق إدراكها بإدراك ركعة منها فقال: "من أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك" . [ ص: 354 ]

وأما صلاتها مع الظهر فقد سنه في الجملة، ومعلوم أن جنس ما توعد عليه محرم، وجنس ما فعله مشروع، فعلم أن الجمع بينهما في وقت الظهر خير من التأخير إلى أن تفوت. وهذا مذهب جماهير العلماء كمالك والشافعي وأحمد في المشهور عنه، بل لا يجوزون التأخير ولا غيره، ويجوزون الجمع لما هو دون القتال. وأحمد وإن قال في رواية عنه: إن المقاتل يخير بين الصلاة في الوقت والتأخير، فلا يختلف قوله: إن الجمع أولى من التفويت، وإنما يقول -على تلك الرواية-: إذا لم يمكنه أن يصلي بالنهار لأجل القتال خير بين الصلاة حال القتال في الوقت وبين الصلاة بعد المغرب. وأما على ظاهر مذهبه فلا يجوز تفويتها إلى الغروب بحال.

والمقصود هنا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا كان قد صلاهما بالمسلمين في وقت الظهر لاشتغاله عن فعلهما في الوقت المختص باتصال الدعاء والذكر، فالجمع للاشتغال بالجهاد أولى وأحرى. هذا إذا أمكنه أن يصلي مع الجهاد صلاة تامة، لكن يتعطل عن بعض مصلحة الجهاد.

التالي السابق


الخدمات العلمية