الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وقد سلك نحوا من سبيلهم أبو حامد في "المقصد الأسنى في شرح الأسماء الحسنى"، وهم يزعمون أن الأفلاك إنما تتحرك للتشبيه في قوتها، وهم في هذا ضالون من وجوه:

أحدها: جعلهم غاية العبادة مجرد العلم، والنفس لها قوة العلم وقوة الحب والإرادة، فإذا حصل مجرد العلم من غير معلوم محبوب مراب لذاته فسدت النفس، فكيف يكمل مجرد ذلك؟ [ ص: 124 ] ومن هنا تجدهم معرضين عن العبادات، بل مستخفين بأهلها، وقد يظنون أن الرسل إنما أمروا بحفظ قانون يستعان به على نيل الحكمة النظرية فقط، كما ذكر ذلك من ذكره من متفلسفة المسلمين واليهود وغيرهم. وأما الرسل فأول دعوتهم الأمر بعبادة الله، ولهذا كان نهاية المتفلسف أول قدم يدخل به الإنسان في الإسلام.

الوجه الثاني: أنهم جعلوا المعلوم الذي تكمل به النفوس هو العلم بالمجردات التي عند التحقيق لا وجود لها إلا في الأذهان لا في الأعيان، كما قد بسطناه في غير هذا الموضع. فأما الموجودات الخارجية فهم لا يعلمونها بأنفسها، ولا يعترفون بالله ولا ملائكته، وإنما يقرون بوجود مطلق بشرط الإطلاق لا حقيقة له في الخارج.

الثالث: جعلهم غاية كمال الإنسان التشبه بالإله، وأن المتحركات العلوية إنما تتحرك للتشبه بمن فوقها، مع أنهم أشد الناس إنكارا للتشبيه، وأدخلهم في التعطيل، [فينكرون] من التشبيه ما يخلقه الله، ويدعون من التشبيه ما يفعلونه بكسبهم.

وقد استدل أبو حامد بحديث ذكره مرفوعا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "تخلقوا بأخلاق الله " . [ ص: 125 ]

وأنكر أبو عبد الله المازري وغيره ذلك، وقالوا: ليس للرب خلق يتخلق به العبد. وتحقيق هذا في موضع آخر.

وذكر هذا أبو طالب المكي، وأنكره عليه الشيخ أبو البيان الدمشقي، فيما أنكر عليه.

الرابع: أن هذا القدر في ثبوته نزاع مذكور في غير هذا الموضع، كما قرره أبو حامد وغيره، فليس الكمال والسعادة في أن يقصد العبد التشبه بالرب فقط، بل أن يقصد عبادته، فإنه بدون أن يكون معبودا له مقصودا، يفسد حاله، فلا تكون له سعادة بحال، وإذا عبده مع نقيض اتصافه بصفات الكمال حصل له من السعادة بقدر ما عبده، فإذا اتصف مع ذلك بما يحبه الرب كانت سعادته أكمل، وجميع ما في العباد من صفات المدح والكمال التي يوصف الرب بالكمال المطلق فيها كالعلم والرحمة والقدرة ونحو ذلك، إنما يصير صاحبها سعيدا كاملا نائلا سعادته إذا قصد المقصود المعبود لذاته، فأما بدون ذلك فلا سعادة له أصلا. فمثل هذه الصفات من توابع الكمال والسعادة ومكملات ذلك، وأما عبادة المعبود المقصود لذاته فإنه من لوازم السعادة والفلاح، فلا يتصور وجود السعادة والفلاح بدون ذلك.

فالمتحركات العلوية جميعها حركاتها عبادة لله، كما وصف الله بذلك الملائكة وغيرهم، وقال: ألم تر أن الله يسجد له من في السماوات ومن في الأرض والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب وكثير من الناس ثم قال وكثير حق عليه العذاب ، فبين بذلك أنه ليس [ ص: 126 ] المراد بالسجود مجرد دلالتها على الخالق وشهادتها، بل إن الحال له فإن هذا يشترك فيه جميع الناس فالذين عند ربك يسبحون له بالليل والنهار وهم لا يسأمون ، وقال تعالى: إنا سخرنا الجبال معه يسبحن بالعشي والإشراق والطير محشورة كل له أواب .

ولهذا عدل أبو الحكم بن برجان في شرحه للأسماء الحسنى من لفظ التخلق والتشبه إلى لفظ التعبد، فصار يذكر معنى الاسم واشتقاقه، ثم الاعتبار بإثبات مقتضاه في المخلوقات، ثم تعبد العبد بما شرع له من مقتضاه.

فقد تبين بذلك أنه لا يصلح أن يكون شيء من المخلوقات مقصودا لنفسه، لا مقصودا له ولا مقصودا لغيره، وأن ذلك مستلزم لكون شيء من المخلوقات لا يكون ربا بنفسه، لا ربا لنفسه ولا ربا لغيره.

لكن هذا ممتنع الوقوع كما اعترف به المشركون.

وأما الأول فهو محرم الوقوع، بمعنى أنه إذا وقع كان فيه فساد، لكون الحركات إلى غير غاية نافعة، بل إلى غاية ضارة، كما قال تعالى: لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا ، ولم يقل: عدمتا، إذ لو جاز أن يشرع أن تكون المخلوقات آلهة مقصودة معبودة لذواتها لزم من [ ص: 127 ] ذلك تجويز عبادة كل شيء، وتجويز كل فعل وكل قصد، وذلك مستلزم فساد السماوات والأرض، قال الله تعالى: وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله ، فإذا لم يكن الدين لله فتكون حركات العباد لغير الله، كانت الفتنة والفساد، فالصلاح أن تكون الحركات لله، والفساد أن تكون لغير الله، وهذا- والله أعلم- من أحسن الأمور، لكنه يحتاج إلى بسط وإكمال.

ولهذا يستدل بالحركات السماوية على وجود الرب وعلى أنه هو الإله المعبود، فإن الحركة تستلزم وجود مبدأ هو السبب الفاعل، وغاية هي المنتهى المقصود، والمقصود بتلك الحركات لو كانت المتحركات يقصد بها غير الله لزم الفساد في المتحركات.

كما بيناه في أنه متى قدر أن يكون المخلوق مقصودا لذاته لزم الفساد، ومعلوم أن الحركات السماوية جارية على انتظام لا فساد فيها، فعلم أنها عائدة بهذه الحركات لله قاصدة له، كما دل على [ذلك] الكتاب والسنة، لا كما يقوله المشاؤون من الفلاسفة أن ذلك لاستخراج الأيون والأوضاع، فإن ذلك من أفسد الكلام.

وأما المبدأ فقد علم أن الحركة ليست طبيعية، لأن تلك إنما تكون إذا خرج المتحرك عن مستقره، وذلك إنما يكون في الحركات المستقيمة، فأما إذا كان المطلوب من جنس المتروك امتنع أن يكون تاركا لأحدهما طالبا للآخر، فعلم أن الحركة إرادية.

التالي السابق


الخدمات العلمية