الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
والتحقيق أن هذه المعاملات هي من باب المشاركات لا من باب المؤاجرات، فالمضاربة والمساقاة والمزارعة مشاركة، هذا يشارك بنفع بدنه، وهذا بنفع ماله، وما قسم الله من ربح كان بينهما كشريكي العنان. ولهذا ليس العمل فيها مقصودا ولا معلوما كما يقصد ويعلم في الإجارة، ولو كانت إجارة لوجب أن يكون العمل فيها معلوما.

لكن إذا قيل: هي جعالة كان أشبه، فإن الجعالة لا يكون العمل فيها معلوما، وكذلك في كل عقد جائز غير لازم، لكن هي جعالة شرط فيها للعامل جزءا مما يحصل بعمله. كما إذا قال الأمير في الغزو: من دل على مال للعدو فله الربع بعد الخمس، أو الثلث بعد الخمس، فإن هذا جائز.

(ومثل بغير هذا في جوابه، ثم قال) : والذي نهى عنه النبي - صلى الله عليه وسلم - من بيع الثمرة ليس للمشتري في حصوله عمل أصلا، بل العمل كله على البائع، فإذا استأجر الأرض والشجر حتى حصل له ثمر وزرع كان كما إذا استأجر الأرض حتى يحصل له الزرع.

الوجه الثالث: أن الثمرة تجري مجرى المنافع والفوائد في الوقف والعارية ونحوهما، فيجوز أن يقف الشجر لينتفع أهل الوقف بممرها، كما يقف الأرض لينتفع أهل الوقف بغلتها.

(ثم تكلم كلاما طويلا في المعنى وضرب أمثلة، ثم قال) : [ ص: 412 ] فإن قيل: ابن عقيل جوز إجارة الأرض والشجر جميعا لأجل الحاجة، وسلك مسلك مالك، لكن مالك اعتبر القلة في الشجر، وابن عقيل عمم، فإن الحاجة داعية إلى إجارة الأرض التي فيها شجر، وإفراده عنها بالإجارة متعذر أو متعسر لما فيه من الضرر، فجوز دخولها في الإجارة، كما جوز الشافعي دخول الأرض مع الشجر تبعا في باب المساقاة. ومن حجة ابن عقيل أن غاية ما في ذلك جواز بيع ثمر قبل بدو صلاحه تبعا لغيره لأجل الحاجة، وهذا يجوز بالنص والإجماع فيما إذا باع شجرا وعليها ثمر باد، كالنخل المؤبر إذا اشترط المبتاع، فإنه اشترى شجرا وثمرا قبل بدو صلاحه. وما ذكرتموه يقتضي أن جواز هذا هو القياس، وأنه جائز بدون الحاجة حتى مع الانفراد.

قيل: هذا زيادة توكيد، فإن هذه المسألة لها مأخذان:

أحدهما: أن يسلم أن الأصل يقتضي المنع، لكن يجوز ذلك لأجل الحاجة، كما في نظائره.

والثاني: أن يمنع هذا، ويقال: لا نسلم أن الأصل يقتضي المنع، بل نهى النبي عن بيع الثمر حتى يبدو صلاحها، فإنه إنما نهى عن بيع لا عن إجارة، فنهيه لا يتناول مثل هذه الصورة وأمثالها من أنواع الإجارة، لا لفظا ولا معنى.

أما اللفظ فإن هذا لم يبع ثمرة قبل بدو صلاحها، ولو كان قد باع ثمرة لكان عليه مؤونة التوفية، كما لو باعها بعد بدو صلاحها، فإن مؤونة التوفية عليه، وهنا المستأجر للبستان كالمستأجر للأرض سواء [ ص: 413 ] بسواء إنما يتسلم الأصول، وهو الذي يقوم عليها حتى يشتد الزرع ويبدو صلاح الثمر، كما يقوم على ذلك العامل في المساقاة والمزارعة، فإن جاز أن يقال: إن هذا مشتر للثمر فلنقل: إن المستأجر مشتر للزرع، وإن العامل في المساقاة والمزارعة والمضاربة مشتر لما يحصل من النماء. فإذا كان هذا لا يدخل في مسمى البيع امتنع شمول العموم له لفظا.

ويمتنع إلحاقه بذلك من جهة القياس وشمول العموم المعنوي له، لأن الفرق بينهما في غاية الظهور، فإن إلحاق هذه الإجارة بإجارة الأرض لاشتراكهما في المساقاة والمزارعة وفي العارية والوقف وغير ذلك مما يجعل حكم أحدهما حكم الآخر أولى من إلحاقها بالبيع كما تقدم. فكل من نظر في هذا نظرا صحيحا سليما تبين له أن هذا من باب الإجارات والقبالات التي تسمى الضمانات، كما تسميه العامة ضمانا، وكما سماه السلف قبالة، وليس هو من باب المبايعات، وأحكام البيع منتفية في مثل هذا، مثل كون مؤونة التوفية على البائع، ومثل أنه لو باع الحب بعد اشتداده وفرط في سقي الحنطة حتى لم يكمل صلاحها، كان ذلك من ضمانه ولم يستحق الثمن. ولو قصر المستأجر للأرض في السقي وغيره حتى لم ينبت الزرع كان ذلك من ضمانه، لا من ضمان المؤجر. وكذلك بائع الثمرة إذا لم يقم بما يجب عليه من خدمتها حتى لم يكمل صلاحها كان النقص من ضمانه.

ومستأجر الشجر إذا قصر في خدمتها حتى لم تثمر، أو أثمرت ثمرا ناقصا، كان ذلك من ضمانه.

التالي السابق


الخدمات العلمية