الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وإذا لم يصلح أن يكون هوى العبد هو الغاية المقصودة لذاتها مطلقا، تبين فساد حال من اتخذ إلهه هواه،ومن عبد ما استحسن من دون الله، وهؤلاء المشركون المتبعون لأهوائهم المتخذون آلهتهم أهواءهم. ويحكى ذلك عن البراهمة منكري النبوات، كما حكاه أبو الحسن الربعي في كتاب "اتباع المرسلين في الاحتياط للدين "، قال: وقال قوم يقال لهم البرهمية بقول عبدة الأصنام: ما استحسنه العبد فهو معبوده.

وهذا أيضا حقيقة قول الاتحادية القائلين بوحدة الوجود، إذ عندهم كل ما كان موجودا يصلح أن يكون لكل عابد معبودا، وإن كان عندهم كل عابد فهو أيضا معبود، كما قال شيخهم صاحب الفصوص: [ ص: 158 ]

"فليعبدني وأعبده" . وقال: "أعظم معبود عبد فيه الهوى" .

وإذا تبين أنه لا يصلح أن يكون كل ما يهواه العبد ويريده مقصودا ... تبين من ذلك أنه لا يصلح أن يكون ما يوجد من اللذة هي الغاية المقصودة بفعله، لأن اللذة تتبع الشهوة، فإذا حصل ما يشتهيه وجد اللذة، فإذا امتنع أن يكون المنتهى مطلقا مقصودا، امتنع أن تكون اللذة مطلقا غاية مقصودة، لما بيناه من أن وجود ذلك يمنع وجوده، لما فيه من الفساد، ولكن لا بد في فعله من حب، ولا بد له من لذة، فالشهوة واللذة سببان في فعله، ذلك سبب فاعلي، وهذا سبب غالي، بهما كان الإنسان من وجه فاعلا لفعله، ومن وجه غاية لفعله، كما تقدم بيانه.

لكن كما بينا أن هذا السبب فيه لم يحصل به مستقلا، بل بالرب الذي خلقه وأعانه، فكذلك هذه اللذة لم يحصل الفعل لأجلها فقط، بل للغاية التي هي الرب الذي هو إلهه.

وكما أنه بدون الرب يمتنع الفعل، فبدون الإله لا يصلح الفعل، بل لا يكون إلا فساد، فإن ما في العبد من القوة والإرادة محدث من جهة الله، كذلك كون لذته العاجلة غاية إنما كان لغاية أخرى من جهة الله، وذلك أنه كما كان المحدث عن عدم فلا بد له من محدث، فهذه الغاية منقطعة يتعقبها العدم والزوال، فلا بد له من غاية أخرى باقية [ ص: 159 ] دائمة، إذ كل ما يمنع أن تكون الحوادث مستغنية عن الفاعل يمنع أن تكون المنقطعة مقصودة بالذات، فجعله نفسه الغاية مثل جعله نفسه السبب، فكما أنه لا يجوز أن يكون معينه وممده لحصول قوته وقصده وعمله هو نفسه، بل من توكل على [نفسه] خذل، كذلك لا يجوز أن يكون ما يطلبه ويقصده ويحبه ويعمله هو نفسه، بل من عبد نفسه واتبع هواه ضل وخسر، وما أكثر ما يتخذ العبد إلهه هواه، فيكون ما يهواه إلهه، وهو يهوى نفسه كثيرا، فيعبد نفسه. كما يستعين بنفسه إذا أعجب بها.

التالي السابق


الخدمات العلمية