ثم اختلف هؤلاء فيما إذا أراد الله أن يفني شيئا ويعدمه:
فقال البصريون من المعتزلة: يحدث فناء لا في محل، فيفنى به.
كما يقولون في الإيجاد: إنه أحدث لا في محل، فحدث به.
وهذا عند العقلاء معلوم الفساد بالضرورة والنظر من وجوه كثيرة، كما ذلك معلوم الفساد في الإرادة، فإن قيام الصفات بغير محل وحدوث شيء بلا إرادة ومنافاة شيء سموه الفناء لجميع الكائنات كل هذا مما يعلم فساده عند تصور حقيقته.
وقال كثير من متكلمة الإثبات من الأشعرية والحنبلية: عدمه وفناؤه بأن لا يحدث سبب بقائه، إما أن لا يحدث البقاء عند من يقول منهم: إن الباقي باق ببقاء، وإما أن لا يحدث الأعراض عند من يقول منهم: إن العرض لا يبقى زمانين. فإن هؤلاء يقولون: إنما بقاء الأعيان التي هي الجواهر بما يحدثه له من الأعراض، أو بما يحدثه من البقاء، فإذا انتفى شرط بقائها انتفت وعدمت، وانتفاء شرط البقاء يكفي فيه أنه لا يفعله ولا يريده.
وحقيقة قولهم أن العدم الطارئ المتجدد بمنزلة العدم الدائم المستمر، يكفي فيه عدم الإرادة للإيجاد والإبقاء وعدم إيجاده وإبقائه. فالمعتزلة قالوا: يفني الأشياء ويعدمها بإحداث ضد ينافيها هو الفناء، وهؤلاء يقولون بفوات شرطها ومقتضاها، فالنزاع بينهم هل الإعدام والإفناء لإيجاد مانع أو لعدم شرط، وكلهم فروا من كون نفس المعدوم مفعولا بنفسه أو مرادا بنفسه. [ ص: 206 ]
فهذا أحد القولين، وهؤلاء يقولون: المطلوب بالنهي أو المراد بالنهي ليس عدم المنهي عنه، وإنما هو فعل ضد من أضداد المنهي عنه: إما الامتناع من الفعل، وإما البغض له والكراهة ونحو ذلك، حتى يصح أن يكون مطلوبا مرادا للناهي، ويصح أن يكون مقدورا مفعولا مرادا للمنهي. فعلى قول هؤلاء كما أن العلة الفاعلية للأمر الموجود لا تكون عدما بالاتفاق، وإلا لصح [نسبة] الحوادث إلى معدوم، فيبطل الاستدلال بها على الخالق البارئ المصور. كذلك يقولون: العلة الغائية لا يصح أن تكون عدما أيضا، إذ هي مطلوب الفاعل ومراده، والمعدوم لا يكون مطلوبا ولا مرادا.
والقول الثاني في أصل المسألة: إن العدم نوعان كما أن الوجود نوعان، فكما أن الوجود بنفسه هو غني عن الفاعل، وهو الله سبحانه، والممكن بنفسه مفتقر إلى الفاعل محتاج إليه. فكذلك العدم نوعان:
أحدهما: ما انعقد سبب وجوده التام أو المقتضي، وجد أو لم يوجد.
والثاني: ما لم ينعقد سبب وجوده.
فما لم ينعقد سبب وجوده يكفي في عدمه عدم سببه، لا يحتاج إلى فاعل ولا مريد لعدمه.