قال : إن في المال حقا سوى الزكاة وتلا هذه الآية . وقيل : رفع الحاجات الضرورية مثل الشعبي للمضطر ، فأما ما روي على أن الزكاة تنحت كل حق ، فيحمل على الحقوق المقدرة . أما ما لا يكون مقدرا فغير منسوخ ، بدليل وجوب التصدق عند الضرورة ، ووجوب النفقة على الأقارب وعلى المملوك ، وذلك كله غير مقدر . ( على حبه ) متعلق بـ ( آتى ) وهو حال ، والمعنى : أنه يعطي المال محبا له ، أي : في حال محبته للمال واختياره وإيثاره ، وهذا وصف عظيم ، أن تكون نفس الإنسان متعلقة بشيء تعلق المحب بمحبوبه ، ثم يؤثر به غيره ابتغاء وجه الله ، كما جاء : إطعام الطعام ، والظاهر أن الضمير في : ( حبه ) ، عائد على المال : لأنه أقرب مذكور ، ومن قواعد النحويين أن الضمير لا يعود على غير الأقرب إلا بدليل ، والظاهر أن المصدر فاعله المؤتي ، كما فسرناه ، وقيل : الفاعل المؤتون ، أي : حبهم له واحتياجهم إليه وفاقتهم ، وإلى الأول ذهب أن تصدق وأنت صحيح شحيح تخشى الفقر وتأمل الغنى ، أي : أعطى المال في حال صحته ومحبته له فآثر به غيره ، فقول ابن عباس ابن الفضل : أنه أعاده على المصدر المفهوم من " آتى " ، أي : على حب الإيتاء ، بعيد من حيث اللفظ ومن حيث المعنى ، أما من حيث اللفظ فإنه يعود على غير مصرح به ، وعلى أبعد من المال ، وأما المعنى فلأن من فعل شيئا وهو يحب أن يفعله لا يكاد يمدح على ذلك : لأن في فعله ذلك هوى نفسه ومرادها ، وقال زهير :
تراه إذا ما جئته متهللا كأنك تعطيه الذي أنت سائله
وقول من أعاده على الله تعالى أبعد : لأنه أعاده على لفظ بعيد مع حسن عوده على لفظ قريب ، وفي هذه الأوجه الثلاثة يكون المصدر مضافا للفاعل ، وهو أيضا بعيد . قال ابن عطية : ويجيء قوله : ( على حبه ) اعتراضا بليغا أثناء القول انتهى كلامه . فإن كان أراد - بالاعتراض - المصطلح عليه في النحو فليس كذلك : لأن شرط ذلك أن تكون جملة ، وأن لا يكون لها محل من الإعراب ، وهذه ليست بجملة ، ولها محل من الإعراب . وإن أراد بالاعتراض فصلا بين المفعولين بالحال فيصح ، لكن فيه إلباس ، فكان ينبغي أن يقول فصلا بليغا بين أثناء القول .
( ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب ) ، أما ذوو القربى فالأولى حملها على العموم ، وهو : من تقرب إليك بولادة ، ولا وجه لقصر ذلك على الرحم المحرم ، كما ذهب إليه قوم : لأن الحرمة حكم شرعي ، وأما القرابة فهي لفظة لغوية موضوعة للقرابة في النسب ، وإن كان من يطلق عليه ذلك يتفاوت في القرب والبعد . وقد رويت أحاديث كثيرة في صلة القرابة ، وقد تقدم لنا الكلام على ذوي القربى ، واليتامى ، والمساكين ، في قوله ( وبالوالدين إحسانا وذي القربى واليتامى والمساكين وقولوا للناس حسنا ) فأغنى عن إعادته . و ( ذوي القربى ) وما بعده من المعطوفات ، هو المفعول الأول على مذهب الجمهور ، و ( المال ) هو المفعول الثاني . ولما كان المقصود الأعظم هو إيتاء المال على حبه قدم المفعول الثاني اعتناء به لهذا المعنى . وأما على مذهب السهيلي فإن ( المال ) عنده هو المفعول الأول ، و ( ذوي القربى ) ، وما بعده هو المفعول الثاني ، فأتى التقديم على أصله عنده . و ( اليتامى ) معطوف على ( ذوي القربى ) حمله بعضهم على حذف ، أي ذوي اليتامى ، قال : لأنه لا يحسن من المتصدق أن يدفع المال إلى اليتيم الذي لا يميز ولا يعرف وجوه منافعه ، ومتى فعل ذلك أخطأ ، فإن كان مراهقا عارفا بمواقع حقه ، والصدقة تؤكل أو تلبس ، جاز دفعها إليه ، وهذا على قول من خص اليتيم بغير البالغ ، وأما من البالغ والصغير عنده ينطلق عليهما يتيم ، فيدفع للبالغ ولولي [ ص: 6 ] الصغير ، انتهى .
ولا يحتاج إلى تقدير هذا المضاف لصدق : آتيت زيدا مالا ، وإن لم يباشر هو الأخذ بنفسه بل بوكيله . ( وابن السبيل ) الضيف ، قاله : قتادة ، ، وابن جبير والضحاك ، ومقاتل ، ، والفراء وابن قتيبة ، : أو المسافر يمر عليك من بلد إلى بلد ، قاله : والزجاج مجاهد ، وقتادة أيضا ، . وسمي ابن السبيل بملازمته السبيل ، وهو الطريق ، كما قيل لطائر يلازم الماء ابن ماء ، ولمن مرت عليه دهور : ابن الليالي والأيام . وقيل : سمي ابن سبيل : لأن السبيل تبرزه ، شبه إبرازها له بالولادة ، فأطلقت عليه البنوة مجازا ، أو المنقطع في بلد دون بلده ، وبين البلد الذي انقطع فيه وبين بلده مسافة بعيدة ، قاله : والربيع بن أنس أبو حنيفة ، وأحمد ، ، وابن جرير وأبو سليمان الدمشقي ، : أو الذي يريد سفرا ولا يجد نفقة ، قاله : والقاضي أبو يعلى الماوردي وغيره عن . والسائلون : هم المستطعمون ، وهو الذي تدعوه الضرورة إلى السؤال في سد خلته ، إذ لا تباح له المسألة إلا عند ذلك . ومن جعل إيتاء المال لهؤلاء ليس هو الزكاة ، أجاز إيتاءه للمسلم والكافر ، وقد ورد في الحديث ما يدل على الشافعي ويحمل على غير حال الضرورة . ذم السؤال
و ( الرقاب ) : هم المكاتبون يعانون في فك رقابهم ، قاله : علي ، وابن عباس والحسن ، وابن زيد ، . أو عبيد يشترون ويعتقون ، قاله : والشافعي مجاهد ، ومالك ، وأبو عبيد ، . وروي عن وأبو ثور أحمد القولان السابقان . أو الأسارى يفدون وتفك رقابهم من الأسر : وقيل : هؤلاء الأصناف الثلاثة ، وهو الظاهر . فإن كان هذا الإيتاء هو الزكاة فاختلفوا ، فقيل : لا يجوز إلا في إعانة المكاتبين ، وقيل : يجوز في ذلك ، وفيمن يشتريه فيعتقه . وإن كان غير الزكاة فيجوز الأمران ، وجاء هذا الترتيب فيمن يؤتي المال تقديما ، الأولى فالأولى : لأن الفقير القريب أولى بالصدقة من غيره للجمع فيها بين الصلة والصدقة ، ولأن القرابة من أوكد الوجوه في صرف المال إليها ، ولذلك يستحق بها الإرث ، فلذلك قدم ثم أتبع باليتامى : لأنه منقطع الحيلة من كل الوجوه لصغره ، ثم أتبع بالمساكين لأن الحاجة قد تشتد بهم ، ثم بابن السبيل لأنه قد تشتد حاجته في الرجوع إلى أهله ، ثم بالسائلين وفي الرقاب : لأن حاجتهما دون حاجة من تقدم ذكره . قال الراغب : اختير هذا الترتيب لما كان أولى من يتفقد الإنسان لمعروفه أقاربه ، فكان تقديمه أولى ، ثم عقبه باليتامى ، والناس في المكاسب ثلاثة : معيل غير معول ، ومعول معيل ، ومعول غير معيل . واليتيم : معول غير معيل ، فمواساته بعد الأقارب أولى . ثم ذكر المساكين الذين لا مال لهم حاضرا ولا غائبا ، ثم ذكر ابن السبيل الذي يكون له مال غائب ، ثم ذكر السائلين الذين منهم صادق وكاذب ، ثم ذكر الرقاب الذين لهم أرباب يعولونهم ، فكل واحد ممن أخر ذكره أقل فقرا ممن قدم ذكره عليه ، انتهى كلامه .
وأجمع المسلمون على أنه إذا نزل بالمسلمين حاجة وضرورة بعد أداء الزكاة ، فإنه يجب صرف المال إليها . وقال مالك : يجب على الناس فك أسراهم وإن استغرق ذلك أموالهم ، واختلفوا في اليتيم : هل يعطى من صدقة التطوع بمجرد اليتم على جهة الصلة وإن كان غنيا ؟ أو لا يعطي حتى يكون فقيرا ؟ قولان لأهل العلم .