الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وهذه مسألة كلامية : هل الله تعالى خالق الشر كما هو خالق الخير ؟ أو لا يخلق الشر ؟ فالأول : قول أهل السنة ، والثاني : قول المعتزلة ، وكل يفسر على مذهبه .

وقرأ الصديق ، وأبو قائلة ، والجراح ( لا تزغ قلوبنا ) بفتح التاء ورفع الباء وقرأ بعضهم ( لا يزغ ) بالياء مفتوحة ، ورفع باء ( قلوبنا ) جعله من زاغ ، وأسنده إلى القلوب ، وظاهره نهي القلوب عن الزيغ ، وإنما هو من باب : لا أرينك هاهنا ، و

لا أعرفن ربربا حورا مدامعه

أي : لا تزغنا فتزيغ قلوبنا بعد إذ هديتنا ، ظاهره الهداية التي هي مقابلة الضلال ، وقيل : بعد إذ هديتنا للعلم بالمحكم ، والتسليم للمتشابه من كتابك ، و ( إذ ) أصلها أن تكون ظرفا ، وهنا أضيف إليها ( بعد ) فصارت اسما غير ظرف ، وهي كانت قبل أن تخرج عن الظرفية تضاف إلى الجملة ، واستصحب فيها حالها من الإضافة إلى الجملة ، وليست الإضافة إليها تخرجها عن هذا الحكم ، ألا ترى إلى قوله تعالى : ( هذا يوم ينفع الصادقين ) ؟ ( يوم لا تملك ) في قراءة من رفع ( يوم ) وقول الشاعر :


على حين عاتبت المشيب على الصبا



على حين من تكتب عليه ذنوبه على حين الكرام قليل ألا ليت أيام الصفاء جديد كيف خرج الظرف هنا عن بابه ، واستعمل خبرا ومجرورا بحرف الجر ، واسم ليت ، وهو مع ذلك مضاف إلى الجملة ؟

( وهب لنا من لدنك رحمة ) سألوا بلفظ الهبة المشعرة بالتفضل والإحسان إليهم من غير سبب ولا عمل ولا معاوضة ؛ لأن الهبة كذلك تكون ، وخصوها بأنها من عنده ، والرحمة إن كانت من صفات الذات فلا يمكن فيها الهبة ، بل يكون المعنى : نعيما ، أو ثوابا صادرا عن الرحمة ، ولما كان المسئول صادرا عن الرحمة ، صح أن يسألوا الرحمة إجراء للسبب مجرى المسبب ، وقيل : معنى ( رحمة ) توفيقا وسدادا وتثبيتا لما نحن عليه من الإيمان والهدى .

( إنك أنت الوهاب ) هذا كالتعليل لقولهم : وهب [ ص: 387 ] لنا ، كقولك : حل هذا المشكل إنك أنت العالم بالمشكلات ، وأتى بصيغة المبالغة التي على فعال ، وإن كانوا قد قالوا : وهوب ، لمناسبة رءوس الآي ، ويجوز في ( أنت ) التوكيد للضمير ، والفصل ، والابتداء .

( ربنا إنك جامع الناس ليوم لا ريب فيه ) لما سألوه تعالى أن لا يزيغ قلوبهم بعد الهداية ، وكانت ثمرة انتفاء الزيغ والهداية إنما تظهر في يوم القيامة ، أخبروا أنهم موقنون بيوم القيامة ، والبعث فيه للمجازاة ، وأن اعتقاد صحة الوعد به هو الذي هداهم إلى سؤال أن لا يزيغ قلوبهم ، ومعنى ليوم لا ريب فيه أي : لجزاء يوم ، ومعنى لا ريب فيه لا شك في وجوده لصدق من أخبر به ، وإن كان يقع للمكذب به ريب فهو بحال ما لا ينبغي أن يرتاب فيه .

وقيل : اللام ، بمعنى في ، أي : في يوم ، ويكون المجموع لأجله لم يذكر ، وظاهر هذا الجمع أنه الحشر من القبور للمجازاة ، فهو اسم فاعل بمعنى الاستقبال ، ويدل على أنه مستقبل قراءة أبي حاتم ( جامع الناس ) بالتنوين ، ونصب ( الناس )

وقيل : معنى الجمع هنا أنه يجمعهم في القبور ، وكأن اللام تكون بمعنى إلى للغاية ، أي : جامعهم في القبور إلى يوم القيامة ، ويكون اسم الفاعل هنا لم يلحظ فيه الزمان ؛ إذ من الناس من مات ، ومنهم من لم يمت ، فنسب الجمع إلى الله من غير اعتبار الزمان ، والضمير في ( فيه ) عائد على اليوم ؛ إذ الجملة صفة له ، ومن أعاده على الجمع المفهوم من ( جامع ) أو على الجزاء الدال عليه المعنى ، فقد أبعد .

( إن الله لا يخلف الميعاد ) ظاهر العدول من ضمير الخطاب إلى الاسم الغائب يدل على الاستئناف ، وأنه من كلام الله تعالى لا من كلام الراسخين الداعين ، قال الزمخشري : معناه أن الإلهية تنافي خلف الميعاد ، كقولك : إن الجواد لا يخيب سائله ، و ( الميعاد ) الموعد ، انتهى كلامه . وفيه دسيسة الاعتزال بقوله : إن الإلهية تنافي خلف الميعاد ، وقد استدل الجبائي بقوله : ( إن الله لا يخلف الميعاد ) على القطع بوعيد الفساق مطلقا ، وهو عندنا مشروط بعدم العفو ، كما اتفقنا نحن وهم على أنه مشروط بعدم التوبة ، والشرطان يثبتان بدليل منفصل ، ولئن سلمنا ما يقولونه فلا نسلم أن الوعيد يدخل تحت الوعد .

وقال الواحدي : يجوز حمله على ميعاد الأولياء دون وعيد الأعداء ؛ لأن خلف الوعيد كرم عند العرب ، ولذلك يمدحون به ، قال الشاعر :


إذا وعد السراء أنجز وعده     وإن وعد الضراء فالعفو مانعه



ويحتمل أن تكون هذه الجملة من كلام الداعين ، ويكون ذلك من باب الالتفات ؛ إذ هو خروج من خطاب إلى غيبة لما في ذكره باسمه الأعظم من التفخيم والتعظيم والهيبة ، وكأنهم لما والوا الدعاء بقولهم : ربنا ، أخبروا عن الله تعالى بأنه الوفي بالوعد ، وتضمن هذا الكلام الإيمان بالبعث والمجازاة والإيفاء بما وعد تعالى .

( إن الذين كفروا لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئا ) قيل : المراد وفد نجران ؛ لأنه روي أن أبا حارثة بن علقمة قال لأخيه : إني أعلم أنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولكني إن أظهرت ذلك أخذ ملوك الروم مني ما أعطوني من المال ، وقيل : الإشارة إلى معاصري رسول الله - صلى الله عليه وسلم . قال ابن عباس : قريظة ، والنضير ، وكانوا يفخرون بأموالهم وأبنائهم ، وهي عامة تتناول كل كافر .

ومعنى ( من الله ) أي : من عذابه الدنيوي والأخروي ، ومعنى أغنى عنه ، دفع عنه ومنعه ، ولما كان المال في باب المدافعة والتقرب والفتنة أبلغ من الأولاد ، قدم في هذه الآية ، وفي قوله : ( وما أموالكم ولا أولادكم بالتي تقربكم عندنا زلفى ) وفي قوله : ( إنما أموالكم وأولادكم فتنة ) وفي قوله : ( وتكاثر في الأموال والأولاد ) وفي قوله : ( لا ينفع مال ولا بنون ) بخلاف قوله تعالى : ( زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة ) إلى آخرها ، فإنه ذكر هنا حب الشهوات ، فقدم فيه النساء والبنين على ذكر الأموال ، وسيأتي الكلام على ذلك إن شاء الله .

وقرأ أبو عبد الرحمن : [ ص: 388 ] ( لن يغني ) بالياء على تذكير العلامة ، وقرأ علي ( لن يغني ) بسكون الياء ، وقرأ الحسن ( لن يغني ) بالياء أولا وبالياء الساكنة آخرا ، وذلك لاستثقال الحركة في حرف اللين ، وإجراء المنصوب مجرى المرفوع ، وبعض النحويين يخص هذا بالضرورة ، وينبغي أن لا يخص بها ، إذ كثر ذلك في كلامهم .

و ( من ) لابتداء الغاية عند المبرد ، وبمعنى عند ، قاله أبو عبيدة ، وجعله كقوله تعالى : ( أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف ) قال : معناه عند جوع وعند خوف ، وكون ( من ) بمعنى عند ضعيف جدا .

وقال الزمخشري : قوله : ( من الله ) مثله في قوله : ( إن الظن لا يغني من الحق شيئا ) والمعنى : لن تغني عنهم من رحمة الله ، أو من طاعة الله شيئا ، أي : بدل رحمته وطاعته ، وبدل الحق ، ومنه : ولا ينفع ذا الجد منك الجد أي : لا ينفعه جده وحظه من الدنيا بذلك ، أي : بدل طاعتك وعبادتك ، وما عندك ، وفي معناه قوله تعالى : ( وما أموالكم ولا أولادكم بالتي تقربكم عندنا زلفى ) انتهى كلامه .

وإثبات البدلية : لمن ، فيه خلاف أصحابنا ينكرونه ، وغيرهم قد أثبته ، وزعم أنها تأتي بمعنى البدل ، واستدل بقوله تعالى : ( أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة ) ( لجعلنا منكم ملائكة ) أي : بدل الآخرة وبدلكم ، وقال الشاعر :


أخذوا المخاض من الفصيل غلبة     ظلما ويكتب للأمير أفيلا



أي : بدل الفصيل ، وشيئا ينتصب على أنه مصدر ، كما تقول : ضربت شيئا من الضرب ، ويحتمل أن ينتصب على المفعول به ؛ لأن معنى ( لن تغني ) لن تدفع أو تمنع ، فعلى هذا يجوز أن يكون ( من ) في موضع الحال من ( شيئا ) لأنه لو تأخر لكان في موضع النعت لها ، فلما تقدم انتصب على الحال ، وتكون ( من ) إذ ذاك للتبعيض .

فتلخص في ( من ) أربعة أقوال : ابتداء الغاية ، وهو قول المبرد ، والكلبي ، وكونها بمعنى ( عند ) وهو قول أبي عبيدة ، والبدلية ، وهو قول الزمخشري ، والتبعيض ، وهو الذي قررناه .

( وأولئك هم وقود النار ) لما قدم إن الذين كفروا لن تغني عنهم كثرة أموالهم ، ولا تناصر أولادهم ، أخبر بمآلهم ، وأن غاية من كفر ، ومنتهى من كذب بآيات الله النار ، فاحتملت هذه الجملة أن تكون معطوفة على خبر إن ، واحتمل أن تكون مستأنفة عطفت على الجملة الأولى ، وأشار : بأولئك إلى بعدهم ، وأتى بلفظ : هم ، المشعرة بالاختصاص ، وجعلهم نفس الوقود مبالغة في الاحتراق ، كأن النار ليس لها ما يضرمها إلا هم ، وتقدم الكلام في الوقود في قوله : ( وقودها الناس والحجارة ) .

وقرأ الحسن ومجاهد وغيرهما ( وقود ) بضم الواو ، وهو مصدر : وقدت النار تقد وقودا ، ويكون على حذف مضاف ، أي : أهل وقود النار ، أو حطب وقود ، أو جعلهم نفس الوقود مبالغة ، كما تقول : زيد رضا .

وقد قيل في المصدر أيضا : وقود ، بفتح الواو ، وهو من المصادر التي جاءت على فعول بفتح الواو ، وتقدم ذكر ذلك ، وهم يحتمل أن يكون مبتدأ ، ويحتمل أن يكون فصلا .

( كدأب آل فرعون ) لما ذكر أن من كفر وكذب بالله مآله إلى النار ، ولن يغني عنه [ ص: 389 ] ماله ولا ولده ، ذكر أن شأن هؤلاء في تكذيبهم لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وترتب العذاب على كفرهم ، كشأن من تقدم من كفار الأمم ، أخذوا بذنوبهم ، وعذبوا عليها ، ونبه على آل فرعون ؛ لأن الكلام مع بني إسرائيل ، وهم يعرفون ما جرى لهم حين كذبوا بموسى من إغراقهم وتصييرهم آخرا إلى النار ، وظهور بني إسرائيل عليهم ، وتوريثهم أماكن ملكهم ، ففي هذا كله بشارة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولمن آمن به ، أن الكفار مآلهم في الدنيا إلى الاستئصال ، وفي الآخرة إلى النار ، كما جرى لآل فرعون ، أهلكوا في الدنيا وصاروا إلى النار .

واختلفوا في إعراب ( كدأب ) فقيل : هو خبر مبتدأ محذوف ، فهو في موضع رفع ، التقدير : دأبهم كدأب ، وبه بدأ الزمخشري وابن عطية ، وقيل : هو في موضع نصب بـ ( وقود ) أي : توقد النار بهم ، كما توقد بآل فرعون ، كما تقول : إنك لتظلم الناس كدأب أبيك ، تريد : كظلم أبيك ، قاله الزمخشري .

وقيل : بفعل مقدر من لفظ الوقود ، ويكون التشبيه في نفس الاحتراق ، قاله ابن عطية ، وقيل : من معناه أي : عذبوا تعذيبا كدأب آل فرعون ، ويدل عليه وقود النار .

وقيل : بـ ( لن تغني ) أي : لن تغني عنهم مثل ما لم تغن عن أولئك ، قاله الزمخشري ، وهو ضعيف ، للفصل بين العامل والمعمول بالجملة التي هي : ( وأولئك هم وقود النار ) على أي التقديرين اللذين قدرناهما ، فيها من أن تكون معطوفة على خبر إن ، أو على الجملة المؤكدة بإن ، فإن قدرتها اعتراضية ، وهو بعيد ، جاز ما قاله الزمخشري ، وقيل : بفعل منصوب من معنى ( لن تغني ) أي : بطل انتفاعهم بالأموال والأولاد بطلانا كعادة آل فرعون .

وقيل : هو نعت لمصدر محذوف تقديره : كفرا كدأب والعامل فيه ( كفروا ) قاله الفراء وهو خطأ ؛ لأنه إذا كان معمولا للصلة كان من الصلة ، ولا يجوز أن يخبر عن الموصول حتى يستوفي صلته ومتعلقاتها ، وهنا قد أخبر ، فلا تجوز أن يكون معمولا لما في الصلة ، وقيل : بفعل محذوف يدل عليه : كفروا ، التقدير : كفروا كفرا كعادة آل فرعون .

وقيل : العامل في الكاف كذبوا بآياتنا ، والضمير في ( كذبوا ) على هذا لكفار مكة وغيرهم من معاصري رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أي : كذبوا تكذيبا كعادة آل فرعون .

وقيل : يتعلق بقوله : ( فأخذهم الله بذنوبهم ) أي : أخذهم أخذا كما أخذ آل فرعون ، وهذا ضعيف ؛ لأن ما بعد الفاء العاطفة لا يعمل فيما قبلها ، وحكى بعض أصحابنا عن الكوفيين أنهم أجازوا : زيدا قمت فضربت ، فعلى هذا يجوز هذا القول . فهذه عشرة أقوال في العامل في الكاف .

قال ابن عطية : والدأب ، بسكون الهمزة وفتحها ، مصدر دأب يدأب ، إذا لازم فعل شيء ودام عليه مجتهدا فيه ، ويقال للعادة : دأب ، وقال أبو حاتم : وسمعت يعقوب يذكر ( كدأب ) بفتح الهمزة ، وقال لي : وأنا غليم على أي شيء يجوز كدأب ؟ فقلت له : أظنه من دئب يدأب دأبا ، فقبل ذلك مني ، وتعجب من جودة تقديري على صغري ، ولا أدري : أيقال أم لا ؟ قال النحاس : لا يقال دئب ألبتة ، وإنما يقال : دأب يدأب دؤبا هكذا حكى النحويون ، منهم الفراء ، حكاه في كتاب ( المصادر ) .

و ( آل فرعون ) أشياعه وأتباعه . ( والذين من قبلهم ) هم كفار الأمم السالفة ، كقوم نوح ، وقوم هود ، وقوم شعيب ، وغيرهم ، فالضمير على هذا عائد على آل فرعون ، ويحتمل أن يعود الضمير على الذين كفروا وهم معاصرو رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وموضع ( والذين ) جر عطفا على آل فرعون .

( كذبوا بآياتنا ) هذه الجملة تفسير للدأب ، كأنه قيل : ما فعلوا ؟ وما فعل بهم ؟ فقيل : كذبوا بآياتنا ، فهي كأنها جواب سؤال مقدر ، وجوزوا أن تكون في موضع الحال ، أي : مكذبين ، وجوزوا أن يكون الكلام تم عند قوله : ( كدأب آل فرعون ) ثم ابتدأ فقال : ( والذين من قبلهم كذبوا ) فيكون ( الذين ) مبتدأ ، و ( كذبوا ) خبره وفي قوله : ( بآياتنا ) التفات ؛ إذ قبله ( من الله ) ، فهو اسم غيبة ، فانتقل منه إلى التكلم .

والآيات يحتمل أن تكون المتلوة في كتب الله ، ويحتمل [ ص: 390 ] أن تكون العلامات الدالة على توحيد الله وصدق أنبيائه .

( فأخذهم الله بذنوبهم ) رجع من التكلم إلى الغيبة ، ومعنى الأخذ بالذنب : العقاب عليه ، والباء في بذنوبهم للسبب .

( والله شديد العقاب ) تقدم تفسير مثل هذا ، وفيه إشارة إلى سطوة الله على من كفر بآياته وكذب بها ، قيل : وتضمنت هذه الآيات من ضروب الفصاحة حسن الإبهام ، وهو فيما افتتحت به ، لينبه الفكر إلى النظر فيما بعده من الكلام .

ومجاز التشبيه في مواضع منها ( نزل عليك الكتاب بالحق ) وحقيقة النزول طرح جرم من علو إلى أسفل ، والقرآن مثبت في اللوح المحفوظ ، فلما أثبت في القلب صار بمنزلة جرم ألقي من علو إلى أسفل فشبه به ، وأطلق عليه لفظ الإنزال وفي قوله : ( لما بين يديه ) القرآن مصدق لما تقدمه من الكتب ، شبه بالإنسان الذي بين يديه شيء يناله شيئا فشيئا ، وفي قوله : ( وأنزل التوراة والإنجيل من قبل هدى للناس وأنزل الفرقان ) أقام المصدر فيه مقام اسم الفاعل ، فجعل التوراة كالرجل الذي يوري عنك أمرا ، أي : يستره لما فيها من المعاني الغامضة ، والإنجيل شبه لما فيه من اتساع الترغيب والترهيب والمواعظ والخضوع بالعين النجلاء ، وجعل ذلك هدى لما فيه من الإرشاد ، كالطريق الذي يهديك إلى المكان الذي ترومه ، وشبه الفرقان بالجرم الفارق بين جرمين ، وفي قوله : ( عذاب شديد ) شبه ما يحصل للنفس من ضيق العذاب وألمه بالمشدود الموثق المضيق عليه ، وفي قوله : ( يصوركم ) شبه أمره بقوله : كن أو تعلق إرادته بكونه جاء على غاية من الإحكام والصنع بمصور يمثل شيئا ، فيضم جرما إلى جرم ، ويصور منه صورة وفي قوله : ( منه آيات محكمات ) جعل ما اتضح من معاني كتابه ، وظهرت آثار الحكمة عليه محكما ، وشبه المحكم لما فيه من أصول المعاني التي تتفرع منها فروع متعددة ترجع إليها بالأم التي ترجع إليها ما تفرع من نسلها ويؤمونها ، وشبه ما خفيت معانيه لاختلاف أنحائه كالفواتح ، والألفاظ المحتملة معاني شتى ، والآيات الدالة على أمر المعاد والحساب بالشيء المشتبه الملبس أمره الذي وجم العقل عن تكييفه ، وفي قوله : ( في قلوبهم زيغ ) شبه القلب المائل عن القصد بالشيء الزائغ عن مكانه ، وفي قوله : ( وهب لنا من لدنك رحمة ) شبه المعقول من الرحمة عن إرادة الخير بالمحسوس من الأجرام من العوض والمعوض في الهبة ، وفي قوله : ( وقود النار ) شبههم بالحطب الذي لا ينتفع به إلا في الوقود ، وقال تعالى : ( إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم ) والحصب الحطب بلغة الحبشة ، وفي قوله : ( فأخذهم الله بذنوبهم ) شبه إحاطة عذابه بهم بالمأخوذ باليد المتصرف فيه بحكم إرادة الأخذ .

وقيل : هذه كلها استعارات ، ولا تشبيه فيها إلا كدأب آل فرعون فإنه صرح فيه بذكر أداة التشبيه .

والاختصاص في مواضع ، منها في قوله : نزل عليك الكتاب إلى وأنزل الفرقان على من فسره بالزبور ، واختص الأربعة دون بقية ما أنزل ؛ لأن أصحاب الكتب إذ ذاك : المؤمنون ، واليهود ، والنصارى ، وفي قوله : لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء خصهما لأنهما أكبر مخلوقاته الظاهرة لنا ، ولأنهما محلان للعقلاء ، ولأن منهما أكثر المنافع المختصة بعباده ، وفي قوله : والراسخون اختصهم بخصوصية الرسوخ في العلم بهم ، وفي قوله : أولو الألباب لأن العقلاء لهم خصوصية التمييز ، والنظر ، والاعتبار ، وفي قوله : لا تزغ قلوبنا اختص القلوب لأن بها صلاح الجسد وفساده ، وليس كذلك بقية الأعضاء ، ولأنها محل الإيمان ومحل العقل على قول من يقول ذلك ، وفي قوله : إنك جامع الناس ليوم وهو جامعهم في الدنيا على وجه الأرض أحياء وفي بطنها أمواتا ؛ لأن في ذلك اليوم الجمع الأكبر ، وهو الحشر ، ولا يكون إلا في ذلك اليوم ، ولا جامع إلا هو تعالى ، وفي قوله : إن الذين كفروا لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم اختص الكفار ؛ لأن المؤمنين تغني عنهم أموالهم التي ينفقونها في وجوه البر ، فهم يجنون ثمرتها في الآخرة ، وتنفعهم [ ص: 391 ] أولادهم في الآخرة ، يسقونهم ويكونون لهم حجابا من النار ، ويشفعون فيهم إذا ماتوا صغارا ، وينفعونهم بالدعاء الصالح كبارا . وكل هذا ورد به الحديث الصحيح .

وفي قوله : ( كدأب آل فرعون ) خصهم بالذكر ، وقدمهم ; لأنهم أكثر الأمم طغيانا ، وأعظمهم تعنتا على أنبيائهم ، فكانوا أشد الناس عذابا .

والحذف في مواضع ، في قوله : ( لما بين يديه ) أي : من الكتب ، و ( أنزل التوراة والإنجيل ) أي : وأنزل الإنجيل ; لأن الإنزالين في زمانين .

( هدى للناس ) أي : الذين أراد هداهم . ( عذاب شديد ) : أي : يوم القيامة .

( ذو انتقام ) أي : ممن أراد عقوبته . ( في الأرض ولا في السماء ) أي : ولا في غيرهما ( العزيز ) أي : في ملكه . ( الحكيم ) أي : في صنعه . ( وأخر ) أي : آيات أخر . ( زيغ ) أي : عن الحق . ( ابتغاء الفتنة ) أي : لكم . ( وابتغاء تأويله ) أي : على غير الوجه المراد منه ، ( وما يعلم تأويله ) أي : على الحقيقة المطلوبة . ( ربنا ) أي : يا ربنا ، ( ربنا لا تزغ قلوبنا ) أي : عن الحق ، ( بعد إذ هديتنا ) أي : إليه ، ( كذبوا بآياتنا ) أي : المنزلة على الرسل ، أو المنصوبات علما على التوحيد ، ( بذنوبهم ) أي : السالفة .

والتكرار : نزل عليك الكتاب ، وأنزل التوراة ، وأنزل الفرقان . كرر لاختلاف الإنزال ، وكيفيته ، وزمانه . بآيات الله ، والله كرر اسمه تعالى تفخيما ; لأن في ذكر المظهر من التفخيم ما ليس في المضمر . ( لا إله إلا هو الحي القيوم ) ( لا إله إلا هو العزيز ) . كرر الجملة تنبيها على استقرار ذلك في النفوس ، وردا على من زعم أن معه إلها غيره . ( ابتغاء تأويله ) ، ( وما يعلم تأويله ) كرر لاختلاف التأويلين ، أو للتفخيم لشأن التأويل . ( ربنا لا تزغ ) ، ( ربنا إنك ) . كرر الدعاء ; تنبيها على ملازمته ، وتحذيرا من الغفلة عنه ، لما فيه من إظهار الافتقار .

والتقديم والتأخير وذلك في ذكر إنزال الكتب ، لم يجيء الإخبار عن ذلك على حسب الزمان ، إذ التوراة أولا ، ثم الزبور ، ثم الإنجيل ، ثم القرآن . وقدم القرآن ; لشرفه ، وعظم ثوابه ، ونسخه لما تقدم ، وبقائه ، واستمرار حكمه إلى آخر الزمان . وثنى بالتوراة ; لما فيها من الأحكام الكثيرة ، والقصص ، وخفايا الاستنباط .

وروى المفضل : أن التوراة حين نزلت كانت سبعين وسقا ، ثم ثلث بالإنجيل ; لأنه كتاب فيه من المواعظ والحكم ما لا يحصى ، ثم تلاه بالزبور ; لأن فيه مواعظ وحكما لم تبلغ مبلغ الإنجيل ، وهذا إذا قلنا إن الفرقان هو الزبور ، وفي قوله : ( في الأرض ولا في السماء ) قدم الأرض على السماء ، وإن كانت السماء أكثر في العوالم ، وأكبر في الأجرام ، وأكبر في الدلائل والآيات ، وأجزل في الفضائل لطهارة سكانها ، بخلاف سكان الأرض ; ليعلمهم اطلاعه على خفايا أمورهم ، فاهتم بتقديم محلهم عسى أن يزدجروا عن قبيح أفعالهم ; لأنه إذا أنبه على أن الله لا يخفى عليه شيء من أمره ، استحيا منه .

والالتفات ( ربنا إنك جامع ) ثم قال : ( إن الله ) وفي قوله : ( كذبوا بآياتنا ) ثم قال : ( والله شديد العقاب ) .

والتأكيد : ( وأولئك هم وقود النار ) فأكد بلفظة : هم ، وأكد بقوله : ( هو الذي يصوركم ) قوله ( لا إله إلا هو ) وأكد بقوله : ( هو الذي أنزل عليك الكتاب ) قوله : ( نزل عليك الكتاب ) .

والتوسع بإقامة المصدر ، مقام اسم الفاعل في قوله : هدى ، والفرقان ، أي : هاديا ، والفارق . وبإقامة الحرف مقام الظرف في قوله : من الله ، أي : عند الله ، على قول من أول من : بمعنى " عند " . والتجنيس المغاير في قوله : وهب ، والوهاب .

التالي السابق


الخدمات العلمية