الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( ربنا آمنا بما أنزلت ) أي : من الآيات الدالة على صدق أنبيائك ، أو : بما أنزلت من كلامك على الرسل ، أو بالإنجيل . ( واتبعنا الرسول ) هو عيسى على قول الجمهور .

( فاكتبنا مع الشاهدين ) هم : محمد - صلى الله عليه وسلم - وأمته ، لأنهم يشهدون للرسل بالتبليغ ، ومحمد - صلى الله عليه وسلم - يشهد لهم بالصدق . روى ذلك عكرمة عن ابن عباس ، أو : من آمن قبلهم ، رواه أبو صالح عن ابن عباس . أو الأنبياء ; لأن كل نبي شاهد على أمته . أو الصادقون ، قاله مقاتل . أو الشاهدون للأنبياء بالتصديق ، قاله الزجاج . أو الشاهدون لنصرة رسلك ، أو الشاهدون بالحق عندك ، رغبوا في أن يكونوا عنده في عداد الشاهدين بالحق من مؤمني الأمم ، وعبروا عن فعل الله ذلك بهم بلفظ : فاكتبنا ، إذ كانت الكتابة تقيد وتضبط ما يحتاج إلى تحقيقه وعلمه في ثاني حال .

( ومكروا ومكر الله ) الضمير في : مكروا ، عائد على من عاد عليه الضمير في : ( فلما أحس عيسى منهم الكفر ) وهم : بنو إسرائيل ، ومكرهم ، هو احتيالهم في قتل عيسى ، بأن وكلوا به من يقتله غيلة ، وسيأتي ذكر كيفية حصره ، وحصر أصحابه في مكان ، ورومهم قتله ، وإلقاء الشبه على رجل ، وقتل ذلك الرجل وصلبه في مكانه ، إن شاء الله .

( ومكر الله ) مجازاتهم على مكرهم سمى ذلك مكرا ; لأن المجازاة لهم ناشئة عن المكر ، كقوله : ( وجزاء سيئة سيئة مثلها ) وقوله ( فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه ) وكثيرا ما تسمى العقوبة باسم الذنب ، وإن لم تكن في معناه . وقيل : مكر الله بهم هو ردهم عما أرادوا برفع عيسى إلى السماء ، وإلقاء شبهه على من أراد اغتياله حتى قتل . وقال الأصم : مكر الله بهم أن سلط عليهم أهل فارس فقتلوهم وسبوا ذراريهم ، وذكر ابن إسحاق : أن اليهود غزوا الحواريين بعد رفع عيسى ، فأخذوهم وعذبوهم ، فسمع بذلك ملك الروم ، وكان ملك اليهود من رعيته ، فأنقذهم ثم غزا بني إسرائيل ، وصار نصرانيا ، ولم يظهر ذلك . ثم ولي ملك آخر بعد ، وغزا بيت المقدس بعد رفع عيسى بنحو من أربعين سنة ، فلم يترك فيه حجرا على آخر ، وخرج عند ذلك قريظة و النضير إلى الحجاز .

وقال المفضل : ودبروا ، ودبر الله ، والمكر : لطف التدبير ، وقال ابن عيسى : المكر قبيح ، وإنما جاز في صفة الله تعالى على مزاوجة الكلام . وقيل : مكر الله بهم إعلاء دينه ، وقهرهم بالذل ، ومكرهم : لزومهم إبطال دينه . والمكر عبارة عن الاحتيال في إيصال الشر في خفية ، وذلك غير ممتنع . وقيل : المكر الأخذ بالغفلة لمن استحقه ، وسأل رجل الجنيد ، فقال : كيف رضي الله - سبحانه - لنفسه المكر ، وقد عاب به غيره ؟ فقال : لا أدري ما تقول ، ولكن أنشدني فلان الظهراني :


ويقبح من سواك الفعل عندي فتفعله فيحسن منك ذاكا



ثم قال : قد أجبتك إن كنت تعقل .

( والله خير الماكرين ) معناه أي : المجازين أهل الخير بالفضل ، وأهل الجور بالعدل ، لأنه فاعل حق في ذلك ، والماكر من البشر فاعل باطل في الأغلب ، وقال تعالى : ( والله أشد بأسا وأشد تنكيلا ) . وقيل : خير ، هنا ليست للتفضيل ، بل هي : كهي في قوله : ( أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرا ) وقال حسان :


فشركما لخيركما الفداء



وفي هذه الآية من ضروب البلاغة : الاستعارة في أحس : إذ لا يحس إلا ما كان متجسدا ، والكفر ليس بمحسوس ، وإنما يعلم ، ويفطن به ، ولا يدرك بالحس إلا إن كان أحس ، بمعنى رأى ، أو بمعنى سمع منهم كلمة الكفر ، فيكون أحس لا استعارة فيه ، إذ يكون أدرك ذلك منهم بحاسة البصر ، أو بحاسة الأذن ، وتسمية الشيء باسم ثمرته . قال الجمهور : أحس منهم القتل ، وقتل نبي من أعظم ثمرات الكفر .

والسؤال والجواب في : قال ( من أنصاري إلى الله قال الحواريون ) [ ص: 473 ] والتكرار في : من أنصاري إلى الله ، وأنصار الله ، وآمنا بالله ، وآمنا بما أنزلت ، ومكروا ومكر الله ، والماكرين ، وفي هذا التجنيس المماثل ، والمغاير ، والحذف في مواضع .

( إذ قال الله يا عيسى إني متوفيك ) العامل في : إذ ، ومكر الله ، قاله الطبري ، أو اذكر ، قاله بعض النحاة ، أو : خير الماكرين ، قاله الزمخشري . وهذا القول هو بواسطة الملك ، لأن عيسى ليس بمكلم ، قاله ابن عطية . ومتوفيك : هي وفاة يوم رفعه الله في منامه ، قاله الربيع من قوله : ( وهو الذي يتوفاكم بالليل ) أي : ورافعك ، وأنت نائم ، حتى لا يلحقك خوف ، وتستيقظ وأنت في السماء آمن مقرب . أو : وفاة موت ، قاله ابن عباس . وقال وهب : مات ثلاث ساعات ، ورفعه فيها ثم أحياه الله بعد ذلك في السماء ، وفي بعض الكتب : سبع ساعات . وقال الفراء : هي وفاة موت ، ولكن المعنى : متوفيك في آخر أمرك عند نزولك ، وقتلك الدجال ، وفي الكلام تقديم وتأخير . وقال الزمخشري : مستوفي أجلك ، ومعناه أي : عاصمك من أن يقتلك الكفار ، ومؤخرك إلى أجل كتبته لك ، ومميتك حتف أنفك ، لا قتلا بأيديهم . وقيل : متوفيك : قابضك من الأرض من غير موت ، قاله الحسن ، والضحاك ، وابن زيد ، وابن جريج ، و مطر الوراق ، ومحمد بن جعفر بن الزبير ، من توفيت مالي على فلان إذا استوفيته .

وقيل : أجعلك كالمتوفى ; لأنه بالرفع يشبهه . وقيل : آخذك وافيا بروحك وبدنك . وقيل : متوفيك : متقبل عملك ، ويضعف هذا من جهة اللفظ ، وقال أبو بكر الواسطي : متوفيك عن شهواتك . قال ابن عطية : وأجمعت الأمة على ما تضمنه الحديث المتواتر من : " أن عيسى في السماء حي ، وأنه ينزل في آخر الزمان ، فيقتل الخنزير ، ويكسر الصليب ، ويقتل الدجال ، ويفيض العدل ، وتظهر به الملة ، ملة محمد - صلى الله عليه وسلم - ويحج البيت ، ويعتمر ، ويبقى في الأرض أربعا وعشرين سنة " وقيل : أربعين سنة انتهى .

( ورافعك إلي ) الرفع نقل من سفل إلى علو ، وإلي : إضافة تشريف . والمعنى : إلى سمائي ومقر ملائكتي . وقد علم أن الباري تعالى ليس بمتحيز في جهة ، وقد تعلق بهذا المشبهة في ثبوت المكان له تعالى وقيل : إلى مكان لا يملك الحكم فيه في الحقيقة ، ولا في الظاهر إلا أنا ، بخلاف الأرض ، فإنه قد يتولى المخلوقون فيها الأحكام ظاهرا . وقيل : إلى محل ثوابك . قال ابن عباس : رفعه إلى السماء ، سماء الدنيا ، فهو فيها يسبح مع الملائكة ، ثم يهبطه الله عند ظهور الدجال على صخرة بيت المقدس . قيل : كان عيسى على طور سيناء ، وهبت ريح فهرول عيسى ، فرفعه الله في هرولته ، وعليه مدرعة من شعر . وقال الزجاج : كان عيسى في بيت له كوة ، فدخل رجل ليقتله ، فرفع عيسى من البيت ، وخرج الرجل في شبه عيسى يخبرهم أن عيسى ليس في البيت ، فقتلوه . وروي أبو بكر بن أبي شيبة ، عن ابن عباس قال : رفع الله عيسى من روزنة كانت في البيت .

( ومطهرك من الذين كفروا ) جعل الذين كفروا دنسا ، ونجسا فطهره منهم ; لأن صحبة الأشرار وخلطة الفجار تتنزل منزلة الدنس في الثوب ، والمعنى : أنه تعالى يخلصه منهم ، فكنى عن إخراجه منهم وتخليصه بالتطهير ، وأتى بلفظ الظاهر لا بالضمير ، وهو الذين كفروا ، إشارة إلى علة الدنس والنجس ، وهو الكفر ، كما قال : ( إنما المشركون نجس ) وكما جاء في الحديث : " المؤمن لا ينجس " فجعل علة تطهيره الإيمان .

وقيل : مطهرك من أذى الكفرة . وقيل : من الكفر والفواحش . وقيل : مما قالوه فيك ، وفي أمك . وقيل : ومطهرك ؛ أي : مطهر بك وجه الناس من نجاسة الكفر والعصيان . وقال الراغب : متوفيك : آخذك عن هواك ، ورافعك إلي عن شهواتك ، ولم يكن ذلك رفعا مكانيا ، وإنما هو رفعة المحل ، وإن كان قد رفع إلى السماء ، وتطهيره من الكافرين إخراجه من بينهم . وقيل : تخليصه من قتلهم ; لأن ذلك نجس طهره الله منه . قال أبو مسلم : التخليص والتطهير واحد ، إلا أن لفظ التطهير [ ص: 474 ] فيه رفعة للمخاطب ، كما أن الشهود والحضور واحد ، وفي الشهود رفعة . ولهذا ذكره الله في المؤمنين ، وذكر الحضور والإحضار في الكافرين .

( وجاعل الذين اتبعوك ) الكاف : ضمير عيسى كالكاف السابقة . وقيل : هو خطاب للنبي - صلى الله عليه وسلم - وهو من تلوين الخطاب انتهى هذا القول ، ولا يظهر . ومعنى اتبعوك : أي في الدين والشريعة ، وهم المسلمون ; لأنهم متبعوه في أصل الإسلام ، وإن اختلفت الشرائع .

( فوق الذين كفروا ) يعلونهم بالحجة ، وفي أكثر الأحوال بها وبالسيف ، والذين كفروا هم الذين كذبوه وكذبوا عليه من اليهود والنصارى ، قاله الزمخشري ، بتقديم وتأخير في كلامه .

فالفوقية هنا بالحجة والبرهان ، قاله الحسن . أو : بالعز والمنعة ، قاله ابن زيد . فهم فوق اليهود ، فلا تكون لهم مملكة كما للنصارى . فالآية ، على قوله مخبرة عن إذلال اليهود وعقوبتهم بأن النصارى فوقهم في جميع أقطار الأرض إلى يوم القيامة ، فخصص ابن زيد المتبعين والكافرين ، وجعله حكما دنيويا لا فضيلة فيه للمتبعين الكفار ، بل كونهم فوق اليهود عقوبة لليهود . وقال الجمهور بعموم المتبعين ، فتدخل في ذلك أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - نص عليه قتادة ، وبعموم الكافرين .

والآية تقتضي إعلام عيسى أن أهل الإيمان به كما يحب هم فوق الذين كفروا بالحجة والبرهان والعزة والمنعة والغلبة ، ويظهر عن عبارة ابن جريج أن المتبعين له هم في وقت استنصاره ، وهم الحواريون ، جعلهم الله فوق الكافرين لأنه شرفهم ، وأبقى لهم في الصالحين ذكرا ، فهم فوقهم بالحجة والبرهان ، وما ظهر عليهم من رضوان الله .

وقيل : فوق الذين كفروا يوم القيامة في الجنة ، إذ هم في الغرفات ، والذين كفروا في أسفل سافلين في الدركات . وتلخص من أقوال هؤلاء المفسرين أن متبعيه ، هم متبعوه في أصل الإسلام ، فيكون عاما في المسلمين ، وعاما في الكافرين ، أو هم متبعوه في الانتماء إلى شريعته ، وإن لم يتبعوها حقيقة ، ويكون الكافرون خاصا باليهود ، أو متبعوه هم الحواريون ، والكافرون : من كفر به . وأما الفوقية فإما حقيقة ، وذلك بالجنة والنار ، وإما مجازا أي : بالحجة والبرهان ، فيكون ذلك دينيا ، وإما : بالعزة والغلبة ، فيكون ذلك دنيويا ، وإما بهما .

( إلى يوم القيامة ) الظاهر أن : إلى ، تتعلق بمحذوف ، وهو العامل في : فوق ، وهو المفعول الثاني : لـ " جاعل " ، إذ معنى " جاعل " هنا : مصير ، فالمعنى كائنين فوقهم إلى يوم القيامة ، وهذا على أن الفوقية مجاز ، وأما إن كانت الفوقية حقيقة ، وهي الفوقية بالجنة ، فلا تتعلق : إلى ، بذلك المحذوف ، بل بما تقدم من : متوفيك ، أو من : رافعك ، أو من : مطهرك ، إذ يصح تعلقه بكل واحد منها ، إما برافعك أو مطهرك ، فظاهر . وإما بمتوفيك فعلى بعض الأقوال . وهذه الأخبار الأربعة ترتيبها في غاية الفصاحة ، بدأ أولا : بإخباره تعالى ل عيسى أنه متوفيه ، فليس للماكرين به تسلط عليه ، ولا توصل إليه ، ثم بشره ثانيا برفعه إلى سمائه ، وسكناه مع ملائكته وعبادته فيها ، وطول عمره في عبادة ربه ، ثم ثالثا برفعه إلى سمائه بتطهيره من الكفار ، فعم بذلك جميع زمانه حين رفعه ، وحين ينزله في آخر الدنيا ، فهي بشارة عظيمة له أنه مطهر من الكفار أولا وآخرا . ولما كان التوفي والرفع كل منهما خاص بزمان ، بدئ بهما . ولما كان التطهير عاما يشمل سائر الأزمان أخر عنهما ، ولما بشره بهذه البشائر الثلاث ، وهي أوصاف له في نفسه ، بشره برفعة أتباعه فوق كل كافر ، لتقر بذلك عينه ، ويسر قلبه .

ولما كان هذا الوصف من اعتلاء تابعيه على الكفار من أوصاف تابعيه ، تأخر عن الأوصاف الثلاثة التي لنفسه ، إذ البداءة بالأوصاف التي للنفس أهم ، ثم أتبع بهذا الوصف الرابع على سبيل التبشير بحال تابعيه في الدنيا ، ليكمل بذلك سروره بما أوتيه ، وأوتي تابعوه من الخير .

( ثم إلي مرجعكم فأحكم بينكم فيما كنتم فيه تختلفون ) هذا إخبار بالحشر والبعث ، والمعنى [ ص: 475 ] ثم إلى حكمي ، وهذا عندي من الالتفات ; لأنه سبق ذكر مكذبيه وهم اليهود ، وذكر من آمن به ، وهم الحواريون . وأعقب ذلك قوله : ( وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا ) فذكر متبعيه والكافرين ، فلو جاء على نمط هذا السابق لكان التركيب : ثم إلي مرجعهم ، ولكنه التفت على سبيل الخطاب للجميع ، ليكون الإخبار أبلغ في التهديد ، وأشد زجرا لمن يزدجر . ثم ذكر لفظة : إلي ، ولفظة : فأحكم ، بضمير المتكلم ، ليعلم أن الحاكم هناك من لا تخفى عليه خافية ، وذكر أنه يحكم فيما اختلفوا فيه من أمر الأنبياء واتباع شرائعهم ، وأتى بالحكم مبهما ، ثم فصل المحكوم بينهم إلى كافر ومؤمن ، وذكر جزاء كل واحد منهم .

وقال ابن عطية : مرجعكم ، الخطاب ل عيسى ، والمراد الإخبار بالقيامة والحشر ، فلذلك جاء اللفظ عاما من حيث الأمر في نفسه لا يخص عيسى وحده ، فخاطبه كما يخاطب الجماعة ، إذ هو أحدها ، وإذ هي مرادة في المعنى انتهى كلامه . والأولى عندي أن يكون من الالتفات كما ذكرته .

التالي السابق


الخدمات العلمية