الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه ) ، طول المفسرون في ذكر سبب نزول هذه الآية في عدة أوراق ، وملخصها وأشهرها : أنها نزلت في قصة عبد الله بن جحش الأسدي حين بعثه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ثمانية معه : سعد بن أبي وقاص ، وعكاشة بن محصن ، وعقبة بن غزوان ، وأبي حذيفة بن عتبة بن ربيعة ، وسهيل بن بيضاء ، وعامر بن ربيعة ، ووافد بن عبد الله ، وخال بن بكير ، وأميرهم عبد الله يترصدون عير قريش ببطن نخلة ، فوصلوها ، ومرت العير ، فيها عمرو بن الحضرمي ، والحكم بن كيسان ، وعثمان بن عبد الله بن المغيرة ، ونوفل بن عبد الله ، وكان ذلك في آخر يوم من جمادى على ظنهم ، وهو أول يوم من رجب ، فرمى وافد عمرا بسهم فقتله ، وكان أول قتيل من المشركين ، وأسروا الحكم ، وعثمان ، وكانا أول أسيرين في الإسلام ، وأفلت نوفل ، وقدموا بالعير المدينة ، فقالت قريش : استحل محمد الشهر الحرام ، وأكثر الناس في ذلك ، فوقف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - العير ، وقال أصحاب السرية : ما نبرح حتى تنزل توبتنا ؛ فنزلت الآية ؛ فخمس العير رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فكان أول خمس في الإسلام ، فوجهت قريش في فداء الأسيرين ، فقيل : حتى يقدم سعد وعتبة ، وكانا قد أضلا بعيرا لهما قبل لقاء العير [ ص: 145 ] فخرجا في طلبه ، فقدما ، وفودي الأسيران ، فأما الحكم فأسلم وأقام ب المدينة وقتل شهيدا ببئر معونة ، وأما عثمان فمات ب مكة كافرا ، وأما نوفل فضرب بطن فرسه يوم الأحزاب ليدخل الخندق على المسلمين ، فوقع بالخندق مع فرسه ، فتحطما وقتلهما الله . وفي هذه القصة اختلاف في مواضع ، وقد لخص السجاوندي هذا السبب فقال : نزلت في أول سرية الإسلام ، أميرهم عبد الله بن جحش ، أغاروا على عير ل قريش قافلة من الطائف وقتلوا عمرو بن الحضرمي آخر يوم من جمادى الآخرة ، فاشتبه بأول رجب ، فعيرهم أهل مكة باستحلاله . وقيل : نزلت حين عاب المشركون القتال في شهر حرام عام الفتح . وقيل : نزلت في قتل عمرو بن أمية الضمري رجلين من كلاب كانا عند النبي - صلى الله عليه وسلم - وعمرو لا يعلم بذلك ، وكان في أول يوم من رجب ، فقالت قريش : قتلهما في الشهر الحرام ، فنزلت . ومناسبة هذه الآية لما قبلها أنه لما فرض القتال لم يخص بزمان دون زمان ، وكان من العوائد السابقة أن الشهر الحرام لا يستباح فيه القتال ، فبين حكم القتال في الشهر الحرام . وسيأتي معنى قوله ( قل قتال فيه كبير ) ، كما جاء : ( واقتلوهم حيث ثقفتموهم ) ، وجاء بعده : ( ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام ) ، ذلك التخصيص في المكان ، وهذا في الزمان . وضمير الفاعل في يسألونك ، قيل : يعود على المشركين ، سألوا تعييبا لهتك حرمة الشهداء ، وقصدا للفتك ، وقيل : يعود على المؤمنين ، سألوا استعظاما لما صدر من ابن جحش واستيضاحا للحكم . والشهر الحرام هنا هو رجب بلا خلاف ، هكذا قالوا ، وذلك على أن تكون الألف واللام فيه للعهد ، ويحتمل أن تكون للجنس ، فيراد به الأشهر الحرام وهي : ذو القعدة ، وذو الحجة ، والمحرم ، ورجب . وسميت حرما لتحريم القتال فيها ، وتقدم شيء من هذا في قوله : ( الشهر الحرام بالشهر الحرام ) . وقرأ الجمهور " قتال فيه " بالكسر ، وهو بدل من الشهر ، بدل اشتمال ، وقال الكسائي : هو مخفوض على التكرير ، وهو معنى قول الفراء ؛ لأنه قال : مخفوض بعن مضمرة ، ولا يجعل هذا خلافا كما يجعله بعضهم ؛ لأن قول البصريين إن البدل على نية تكرار العامل هو قول الكسائي والفراء ، لا فرق بين هذه الأقوال ، هي كلها ترجع لمعنى واحد .

وقال أبو عبيدة : " قتال فيه " خفض على الجوار ، قال ابن عطية : هذا خطأ . انتهى . فإن كان أبو عبيدة عنى الخفض على الجوار الذي اصطلح عليه النحاة ، فهو كما قال ابن عطية : وجه الخطأ فيه هو أن يكون تابعا لما قبله في رفع أو نصب من حيث اللفظ والمعنى ، فيعدل به عن ذلك الإعراب إلى إعراب الخفض لمجاورته لمخفوض لا يكون له تابعا من حيث المعنى ، وهنا لم يتقدم لا مرفوع ولا منصوب ، فيكون " قتال " تابعا له ، فيعدل به عن إعرابه إلى الخفض على الجوار ، وإن كان أبو عبيدة عنى الخفض على الجوار أنه تابع لمخفوض ؛ فخفضه بكونه جاور مخفوضا ، أي : صار تابعا له ، ولا نعني به المصطلح عليه ؛ جاز ذلك ولم يكن خطأ ، وكان موافقا لقول الجمهور ، إلا أنه أغمض في العبارة ، وألبس في المصطلح .

وقرأ ابن عباس ، والربيع ، والأعمش : " عن قتال فيه " بإظهار " عن " ، وهكذا هو في مصحف عبد الله . وقرئ شاذا : " قتال فيه " بالرفع ، وقرأ عكرمة : " قتل فيه قل قتل فيه " بغير ألف فيهما . ووجه الرفع في قراءة " قتال فيه " أنه على تقدير الهمزة فهو مبتدأ ، وسوغ جواز الابتداء فيه ، وهو نكرة ، لنية همزة الاستفهام ، وهذه الجملة المستفهم عنها هي في موضع البدل من " الشهر الحرام " ؛ لأن " سأل " قد أخذ مفعوليه ، فلا يكون في موضع المفعول ، وإن كانت هي محط السؤال ، وزعم بعضهم أنه مرفوع على إضمار اسم فاعل تقديره : أجائز قتال فيه ؟ قيل : ونظير هذا ؛ لأن السائلين لم يسألوا عن كينونة القتال في الشهر الحرام ، إنما سألوا : أيجوز القتال في الشهر الحرام ؟ فهم سألوا عن مشروعيته لا عن كينونته فيه .

التالي السابق


الخدمات العلمية