الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه ) كان المشركون يزعمون أن الأصنام تشفع لهم عند الله ، وكانوا يقولون : إنما نعبدهم ليقربونا إلى الله زلفى . وفي هذه الآية أعظم دليل على ملكوت الله ، وعظم كبريائه ، بحيث لا يمكن أن يقدم أحد على الشفاعة عنده إلا بإذن منه تعالى ، كما قال تعالى : ( لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن ) ودلت الآية على وجود الشفاعة بإذنه تعالى ، والإذن هنا معناه الأمر ، كما ورد " اشفع تشفع " أو العلم أو التمكين إن شفع أحد بلا أمر . و ( من ) رفع على الابتداء ، وهو استفهام في معنى النفي ، ولذلك دخلت إلا ، في قوله : ( إلا بإذنه ) وخبر المبتدأ قالوا ( ذا ) ويكون ( الذي ) نعتا لذا ، أو بدلا منه ، وعلى هذا الذي قالوا : يكون ( ذا ) اسم إشارة ، وفي ذلك بعد ؛ لأن ذا ، إذا كان اسم إشارة وكان خبرا عن ( من ) استقلت بهما الجملة ، وأنت ترى احتياجها إلى الموصول بعدها . والذي يظهر أن ( من ) الاستفهامية ركب [ ص: 279 ] معها ( ذا ) وهو الذي يعبر عنها بعض النحويين أن ( ذا ) لغو ، فيكون ( من ذا ) كله في موضع رفع بالابتداء ، والموصول بعدهما هو الخبر ، إذ به يتم معنى الجملة الابتدائية ، و ( عنده ) معمول لـ ( يشفع ) وقيل : يجوز أن يكون حالا من الضمير في ( يشفع ) فيكون التقدير : يشفع مستقرا عنده ، وضعف بأن المعنى على يشفع إليه . وقيل : الحال أقوى ؛ لأنه إذا لم يشفع من هو عنده وقريب منه ، فشفاعة غيره أبعد ، و ( بإذنه ) متعلق بـ ( يشفع ) والباء للمصاحبة ، وهي التي يعبر عنها بالحال ، أي : لا أحد يشفع عنده إلا مأذونا له .

( يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ) الضمير يعود على ( ما ) وهم الخلق ، وغلب من يعقل ، وقيل : الضميران في ( أيديهم ) و ( خلفهم ) عائدان على كل من يعقل ممن تضمنه قوله : ( له ما في السماوات وما في الأرض ) قاله ابن عطية ، وجوز ابن عطية أن يعود على ما دل عليه ( من ذا ) من الملائكة والأنبياء . وقيل : على الملائكة ، قاله مقاتل ، و ( ما بين أيديهم ) أمر الآخرة ( وما خلفهم ) أمر الدنيا . قاله ابن عباس وقتادة ، أو العكس قاله مجاهد ، وابن جريج ، والحكم بن عتبة ، والسدي وأشياخه . و ( ما بين أيديهم ) هو ما قبل خلقهم ( وما خلفهم ) هو ما بعد خلقهم ، أو ما بين أيديهم ما أظهروه ، وما خلفهم ما كتموه . قاله الماوردي ، أو ما بين أيديهم من السماء إلى الأرض ، وما خلفهم ما في السماوات . أو ما بين أيديهم الحاضر من أفعالهم وأحوالهم ، وما خلفهم ما سيكون . أو عكسه ، ذكر هذين القولين تاج القراء في تفسيره . أو ما بين أيدي الملائكة من أمر الشفاعة ، وما خلفهم من أمر الدنيا ، أو بالعكس قاله مجاهد . أو ما فعلوه وما هم فاعلوه ، قاله مقاتل . والذي يظهر أن هذا كناية عن إحاطة علمه تعالى بسائر المخلوقات من جميع الجهات وكنى بهاتين الجهتين عن سائر جهات من أحاط علمه به ، كما تقول : ضرب زيد الظهر والبطن ، وأنت تعني بذلك جميع جسده ، واستعيرت الجهات لأحوال المعلومات ، فالمعنى أنه تعالى عالم بسائر أحوال المخلوقات ، لا يعزب عنه شيء ، فلا يراد بما بين الأيدي ولا بما خلفهم شيء معين ، كما ذهبوا إليه .

التالي السابق


الخدمات العلمية