الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( فعدة من أيام أخر ) قراءة الجمهور برفع " عدة " على أنه مبتدأ محذوف الخبر ، وقدر قبل ، أي : فعليه عدة ، وبعد ، أي : أمثل له ، أو خبر مبتدأ محذوف ، أي : فالواجب ، أو : فالحكم عدة . وقرئ " فعدة " بالنصب على إضمار فعل ، أي : فليصم عدة ، وعدة هنا بمعنى معدود ، كالرعي [ ص: 33 ] والطحن ، وهو على حذف مضاف ، أي : فصوم عدة ما أفطر ، وبين الشرط وجوابه محذوف به يصح الكلام ، والتقدير : فأفطر فعدة ، ونظيره في الحذف : ( أن اضرب بعصاك البحر فانفلق ) أي : فضرب فانفلق . ونكر ( عدة ) ولم يقل - فعدتها - أي : فعدة الأيام التي أفطرت اجتزاء ، إذ المعلوم أنه لا يجب عليه عدة غير ما أفطر فيه مما صامه ، والعدة هي المعدود ، فكان التنكير أخصر ، و ( من أيام ) في موضع الصفة لقوله فعدة ، وأخر : صفة لأيام ، وصفة الجمع الذي لا يعقل تارة يعامل معاملة الواحدة المؤنثة ، وتارة يعامل معاملة جمع الواحدة المؤنثة . فمن الأول : ( إلا أياما معدودة ) ، ومن الثاني : ( إلا أياما معدودات ) ، فـ " معدودات " : جمع لمعدودة . وأنت لا تقول : يوم معدودة ، إنما تقول معدود : لأنه مذكر ، لكن جاز ذلك في جمعه ، وعدل عن أن يوصف الأيام بوصف الواحدة المؤنثة ، فكان يكون : من أيام أخرى ، وإن كان جائزا فصيحا كالوصف بأخر : لأنه كان يلبس أن يكون صفة لقوله ( فعدة ) ، فلا يدرى أهو وصف لعدة ، أم لأيام ، وذلك لخفاء [ ص: 34 ] الإعراب لكونه مقصورا ، بخلاف : ( أخر ) ، فإنه نص في أنه صفة لأيام ، لاختلاف إعرابه مع إعراب " فعدة " ، أفلا ينصرف للعلة التي ذكرت في النحو ، وهي جمع أخرى مقابلة أخر ، وأخر مقابل آخرين ، لا جمع أخرى لمعنى أخرة ، مقابلة الأخر المقابل للأول ، فإن أخر تأنيث أخرى لمعنى أخرة مصروفة . وقد اختلفا حكما ومدلولا . أما اختلاف الحكم : فلأن تلك غير مصروفة ، وأما اختلاف المدلول : فلأن مدلول أخرى ، التي جمعها أخر التي لا تنصرف ، مدلول غير ، ومدلول أخرى التي جمعها ينصرف مدلول متأخرة ، وهي قابلة الأولى . قال تعالى : ( قالت أولاهم لأخراهم ) فهي بمعنى : الآخرة ، كما قال تعالى : ( وإن لنا للآخرة والأولى ) ، وأخر الذي مؤنثه أخرى مفرده آخر التي لا تنصرف بمعنى غير ، لا يجوز أن يكون ما اتصل به إلا من جنس ما قبله ، تقول : مررت بك وبرجل آخر ، ولا يجوز : اشتريت هذا الفرس وحمارا آخر : لأن الحمار ليس من جنس الفرس ، فأما قوله :


صلى على عزة الرحمان وابنتها ليلى ، وصلى على جاراتها الأخر



فإنه جعل ابنتها جارة لها ، ولولا ذلك لم يجز ، وقد أمعنا الكلام على مسألة أخرى في كتابنا ( التكميل ) .

قالوا : واتفقت الصحابة ومن بعدهم من التابعين ، وفقهاء الأمصار على جواز الصوم للمسافر ، وأنه لا قضاء عليه إذا صام : لأنهم كما ذكرنا ، قدروا حذفا في الآية ، والأصل أن لا حذف ، فيكون الظاهر أن الله تعالى أوجب على المريض والمسافر عدة من أيام أخر ، فلو صاما لم يجزهما ، ويجب عليهما صوم عدة ما كانا فيه من الأيام الواجب صومها على غيرهما . قالوا : وروي عن أبي هريرة أنه قال : من صام في السفر فعليه القضاء ، وتابعه عليه شواذ من الناس ، ونقل ذلك ابن عطية عن عمر وابنه عبد الله ، وعن ابن عباس : أن الفطر في السفر عزيمة ، ونقل غيره عن عبد الرحمن بن عوف : الصائم في السفر كالمفطر في الحضر ، وقال به قوم من أهل الظاهر ، وفرق أبو محمد بن حزم بين المريض والمسافر ، فقال فيما لخصناه في كتابنا المسمى بـ - الأنوار الأجلى في اختصار المحلى - ما نصه : ويجب على من سافر ولو عاصيا ميلا فصاعدا الفطر إذا فارق البيوت في غير رمضان ، وليفطر المريض ويقضي بعد ، ويكره صومه ويجزئ ، وحجج هذه الأقوال في كتب الفقه . وثبت بالخبر المستفيض أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صام في السفر ، وروى ذلك عنه أبو الدرداء ، وسلمة بن المحنق ، وأبو سعيد ، وجابر ، وأنس ، وابن عباس عنه إباحة الصوم والفطر في السفر ، بقوله لحمزة بن عمرو الأسلمي وقد قال : أصوم في السفر ؟ قال : " إن شئت فصم ، وإن شئت فأفطر " وعلى قول الجمهور : أن ثم محذوفا ، وتقديره : فأفطر ، وأنه يجوز للمسافر أن يفطر وأن يصوم .

واختلفوا في الأفضل ، فذهب أبو حنيفة وأصحابه ، ومالك ، والشافعي في بعض ما روي عنهما : إلى أن الصوم أفضل ، وبه قال من الصحابة : عثمان بن أبي العاص الثقفي ، وأنس بن مالك . قال ابن عطية : وذهب أنس بن مالك إلى الصوم ، وقال : إنما نزلت الرخصة ونحن جياع نروح إلى جوع ، وذهب الأوزاعي ، وأحمد ، وإسحاق إلى أن الفطر أفضل ، وبه قال من الصحابة ابن عمر ، وابن عباس . ومن التابعين : ابن المسيب ، والشعبي ، وعمر بن عبد العزيز ، ومجاهد ، وقتادة . قال ابن عطية : وقال مجاهد ، وعمر بن عبد العزيز وغيرهما : أيسرهما أفضلهما . وكره ابن حنبل الصوم في السفر ، ولو صام في السفر ثم أفطر من غير عذر فعليه القضاء فقط ، قاله الأوزاعي ، وأبو حنيفة ، وزاد الليث ، والكفارة . وعن مالك القولان .

ولو أفطر مسافر ثم قدم من يومه ، أو حائض ثم طهرت في بعض النهار ، فقال جابر بن يزيد ، والشافعي ، ومالك فيما رواه ابن القاسم : يأكلان ولا يمسكان ، وقال أبو حنيفة ، والأوزاعي والحسن بن صالح ، وعبد الله بن الحسن : يمسكان بقية يومها عن ما يمسك عنه الصائم ، وقال ابن شبرمة في [ ص: 35 ] المسافر : يمسك ويقضي ، وفي الحائض : إن طهرت تأكل .

والظاهر من قوله : فعدة ، أنه يلزمه عدة ما أفطر فيه ، فلو كان الشهر الذي أفطر فيه تسعة وعشرين يوما ، قضى تسعة وعشرين يوما ، وبه قال جمهور العلماء ، وذهب الحسن بن صالح إلى أنه يقضي شهرا بشهر من غير مراعاة عدد الأيام . وروي عن مالك أنه يقضي بالأهلة ، وروي عن الثوري أنه يقضي شهرا تسعة وعشرين يوما وإن كان رمضان ثلاثين ، وهو خلاف الظاهر ، وخلاف ما أجمعوا عليه من أنه إذا كان ما أفطر فيه بعض رمضان ، فإنه يجب القضاء بالعدد ، فكذلك يجب أن يكون قضاء جميعه باعتبار العدد ، وظاهر قوله تعالى : ( فعدة من أيام أخر ) أنه لا يلزمه التتابع ، وبه قال جمهور العلماء من الصحابة والتابعين وفقهاء الأمصار . وروي عن علي ، ومجاهد ، وعروة : أنه لا يفرق ، وفي قراءة أبي : " فعدة من أيام أخر متتابعات " ، وظاهر الآية : أنه لا يتعين الزمان ، بل تستحب المبادرة إلى القضاء . وقال داود : يجب عليه القضاء ثاني شوال ، فلو لم يصمه ثم مات أثم ، وهو محجوج بظاهر الآية ، وبما ثبت في الصحيح عن عائشة قالت : كان يكون علي الصوم من رمضان فلا أستطيع أن أقضيه ، إلا في شعبان لشغل من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو برسول الله - صلى الله عليه وسلم . وظاهر الآية أنه : من أخر القضاء حتى دخل رمضان آخر ، أنه لا يجب عليه إلا القضاء فقط عن الأول ، ويصوم الثاني . وبه قال الحسن ، والنخعي ، وأبو حنيفة ، وداود ، ومالك ، والشافعي ، وأحمد ، وإسحاق ، يجب عليه الفدية مع القضاء .

وقال يحيى بن أكثم القاضي روي وجوب الإطعام عن ستة من الصحابة ، ولم أجد لهم من الصحابة مخالفا . وروي عن ابن عمر أنه لا قضاء عليه إذا فرط في رمضان الأول ، ويطعم عن كل يوم منه مدا من بر ، ويصوم رمضان الثاني . ومن أخر قضاء رمضان حتى مات ، فقال مالك ، والثوري ، والشافعي : لا يصوم أحد عن أحد لا في رمضان ولا في غيره . وقال الليث ، وأحمد ، وإسحاق ، وأبو ثور ، وأبو عبيد ، وأهل الظاهر : يصام عنه ، وخصصوه بالنذر . وقال أحمد ، وإسحاق : يطعم عنه في قضاء رمضان .

التالي السابق


الخدمات العلمية