الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( ولتكملوا العدة ) : قرأ أبو بكر ، وأبو عمرو بخلاف عنهما ، وروي : مشدد الميم مفتوح الكاف ، والباقون بالتخفيف وإسكان الكاف ، وفي اللام أقوال ، الأول : قال ابن عطية : هي اللام الداخلة على المفعول ، كالتي في قولك : ضربت لزيد ، المعنى ، ويريد إكمال العدة ، وهي مع الفعل مقدرة بأن ، كأن الكلام : ويريد لأن تكملوا العدة ، هذا قول البصريين ، ونحوه . قول أبي صخر :


أريد لأنسى ذكرها فكأنما تخيل لي ليلى بكل طريق



انتهى كلامه . وهو كما جوزه الزمخشري . قال : كأنه قيل : يريد الله بكم اليسر ، ويريد لتكملوا ، لقوله : ( يريدون ليطفئوا ) ، وفي كلامه أنه معطوف على اليسر ، وملخص هذا القول : أن اللام جاءت في المفعول المؤخر عن الفعل ، وهو مما نصوا على أنه قليل ، أو ضرورة ، لكن يحسن ذلك هنا ، بعده عن الفعل بالفصل ، فكأنه لما أخذ الفعل مفعوله ، وهو اليسر ، وفصل بينهما بجملة وهي " ولا يريد بكم العسر " بعد الفعل عن اقتضائه ، فقوي باللام ، كحاله إذا تقدم فقلت لزيد ضربت : لأنه بالتقدم وتأخر العامل ضعف العامل عن الوصول إليه ، فقوي باللام ، إذ أصل العامل أن يتقدم ، وأصل المعمول أن يتأخر عنه ، لكن في هذا القول إضمار أن بعد اللام الزائدة ، وفيه بعد ، وفي كلام ابن عطية تتبع ، وهو في قوله " وهي " يعني باللام مع الفعل ، يعني " تكملوا " مقدرة بأن ، وليس كذلك ، بل " أن " مضمرة بعدها واللام حرف جر ، ويبين ذلك أنه قال : كأن الكلام : ويريد لأن تكملوا العدة ، فأظهر " أن " بعد اللام ، فتصحيح لفظه أن تقول ، وهي مع الفعل مقدران بعدها ، وقوله : هذا قول البصريين ونحوه ، قول أبي صخر :


أريد لأنسى ذكرها



ليس كما ذكر ، بل ذلك مذهب الكسائي والفراء ، زعما أن العرب تجعل لام كي [ ص: 43 ] في موضع أن في أردت وأمرت . قال تعالى : ( يريد الله ليبين لكم ) ، ( يريدون ليطفئوا ) ، و ( أن يطفئوا ) ، ( إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس ) . وقال الشاعر :


أريد لأنسى ذكرها



وقال تعالى : ( وأمرنا لنسلم ) ، و ( أن أسلم ) ، وذهب سيبويه وأصحابه إلى أن اللام هنا باقية على حالها و " أن " مضمرة بعدها ، لكن الفعل قبلها يقدره بمصدر ، كأنه قال : الإرداة للتبيين ، وإرادتي لهذا ، وذهب بعض الناس إلى زيادة اللام ، وقد أمعنا الكلام على هذه المسألة في كتاب ( التكميل في شرح التسهيل ) فتطالع هناك .

وتلخص مما ذكرناه أن ما قال من أنه قول البصريين ليس كما قال ، إنما يتمشى قوله : وهي مع الفعل مقدرة بأن على قول الكسائي والفراء ، لا على قول البصريين . وتناقض قول ابن عطية أيضا : لأنه قال : هي اللام الداخلة على المفعول كالتي في قولك : ضربت لزيد ، المعنى ويريد إكمال العدة . ثم قال : وهي مع الفعل مقدرة بأن ، فمن حيث جعلها الداخلة على المفعول لا يكون جزءا من المفعول ، ومن حيث قدرها بأن كانت جزءا من المفعول : لأن المفعول إنما ينسبك منها مع الفعل ، فهي جزء له ، والشيء الواحد لا يكون جزءا لشيء غير جزء له ، فتناقض . وأما تجويز الزمخشري أن يكون معطوفا على " اليسر " فلا يمكن إلا بزيادة اللام وإضمار أن بعدها ، أو بجعل اللام لمعنى أن ، فلا تكون أن مضمرة بعدها ، وكلاهما ضعيف .

القول الثاني : أن تكون اللام في ولتكملوا العدة لام الأمر . قال ابن عطية : ويحتمل أن تكون هذه اللام لام الأمر والواو عاطفة جملة كلام على جملة كلام ، انتهى كلامه . ولم يذكر هذا الوجه فيما وقفنا عليه غير ابن عطية ، ويضعف هذا القول أن النحويين قالوا : أمر الفاعل المخاطب فيه التفات ، قالوا : أحدهما لغة رديئة قليلة ، وهو إقرار تاء الخطاب ولام الأمر قبلها ، واللغة الأخرى هي الجيدة الفصيحة ، وهو أن يكون الفعل عاريا من حرف المضارعة ومن اللام ، ويضعف هذا القول أيضا أنه لم يؤثر عن أحد من القراء أنه قرأ بإسكان هذه اللام ، فلو كانت لام الأمر لكانت كسائر أخواتها من القراءة بالوجهين فيها ، فدل ذلك على أنها لام الجر لا لام الأمر ، وقول ابن عطية : والواو عاطفة جملة كلام على جملة كلام ، يعني : أنها إذا كانت اللام للأمر كان العطف من قبيل عطف الجمل ، وإذا كانت كاللام في : ضربت لزيد ، كانت من قبل عطف المفردات .

القول الثالث : أن تكون اللام للتعليل ، واختلف قائلو هذا القول على أقوال ، أحدها : أن تكون الواو عاطفة على علة محذوفة ، التقدير : لتعملوا ما تعملون ولتكملوا العدة ، قاله الزمخشري . ويكون هذا الفعل المعلل على هذا القول إرادة اليسر . الثاني : أن يكون بعد الواو فعل محذوف هو المعلل ، التقدير : وفعل هذا لتكملوا العدة ، قاله الفراء .

الثالث : أن يكون معطوفا على علة محذوفة وقد حذف معلولها ، التقدير : فعل الله ذلك ليسهل عليكم ولتكملوا ، قاله الزجاج . الرابع : أن يكون الفعل المعلل مقدرا بعد التعليل ، تقديره : ولأن تكملوا العدة رخص لكم هذه الرخصة ، قال ابن عطية : وهذا قول بعض الكوفيين . الخامس : أن الواو زائدة ، التقدير : يريد الله بكم اليسر لتكملوا العدة ، وهذا قول ضعيف . السادس : أن يكون الفعل المعلل مقدرا بعد قوله : ( ولعلكم تشكرون ) ، وتقديره : شرع ذلك . قاله الزمخشري ، قال ما نصه : شرع ذلك ، يعني جملة ما ذكر من أمر الشاهد بصوم الشهر ، وأمر المرخص له بمراعاة عدة ما أفطر فيه ، ومن الترخيص في إباحة الفطر ، فقوله : لتكملوا ، علة الأمر بمراعاة العدة ، ولتكبروا علة ما علم من كيفية القضاء والخروج عن عهدة الفطر ، ولعلكم تشكرون علة الترخيص والتيسير . وهذا نوع من اللف لطيف المسلك لا يكاد يهتدي إلى تبينه إلا الناقد المحذق من علماء البيان ، انتهى كلامه .

والألف واللام في قوله : ( ولتكملوا العدة ) الظاهر أنها للعهد ، فيكون ذلك راجعا إلى قوله : ( فعدة من أيام أخر ) أي : وليكمل من أفطر في مرضه [ ص: 44 ] أو سفره عدة الأيام التي أفطر فيها بأن يصوم مثلها ، وقيل : عدة الهلال سواء كانت تسعة وعشرين يوما أم كان ثلاثين ، فتكون العدة راجعة إذ ذاك إلى شهر رمضان المأمور بصومه .

التالي السابق


الخدمات العلمية