الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( ألم تر إلى الملأ من بني إسرائيل من بعد موسى إذ قالوا لنبي لهم ابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله ) ، مناسبة هذه الآية لما قبلها ظاهرة ، وذلك أنه لما أمر المؤمنين بالقتال في سبيل الله ، وكان قد قدم قبل ذلك قصة الذين خرجوا من ديارهم حذر الموت ، إما بالقتال أو بالطاعون ، على سبيل التشجيع والتثبيت للمؤمنين ، والإعلام بأنه لا ينجي حذر من قدر ؛ أردف ذلك بأن القتال كان مطلوبا مشروعا في الأمم السابقة ؛ فليس من الأحكام التي خصصتم بها ؛ لأن ما وقع فيه الاشتراك كانت النفس أميل لقبوله من التكليف الذي يكون يقع به الانفراد ، وتقدم الكلام على قوله : " ألم تر " فأغنى عن إعادته ، والملأ هنا ، قال ابن عطية : جميع القوم ، قال : لأن المعنى يقتضيه ، وهذا هو أصل وضع اللفظة . وتسمى الأشراف الملأ تشبيها . انتهى . يعني : والله أعلم تشبيها بجميع القوم . وقد تقدم تفسير الملأ في الكلام على المفردات . ( من بني إسرائيل ) : في موضع الحال ، فيتعلق بمحذوف ، أي : كائنين من بني إسرائيل ، وعلى مذهب الكوفيين هو صلة للملأ ؛ لأن الاسم المعرف بالألف واللام يجوز عندهم أن يكون موصولا ، كما زعموا ذلك في قوله :


لعمري لأنت البيت أكرم أهله



فأكرم عندهم صلة للبيت لا موضع له من الإعراب ، كذلك : " من بني إسرائيل " العامل فيه لا موضع له من الإعراب . ( من بعد موسى ) متعلق بما تعلق به ( من بني إسرائيل ) [ ص: 254 ] وهو كائنين ، وتعدى إلى حرفي جر من لفظ واحد لاختلاف المعنى ؛ فـ " من " الأولى تبعيضية و " من " الثانية لابتداء الغاية ؛ إذ العامل في هذا الظرف ، قالوا " تر " ، وقالوا : هو بدل من " بعد " ؛ لأنهما زمانان لبني إسرائيل ، وكلاهما لا يصح . أما الأول : فإن " ألم تر " تقرير ، والمعنى : قد انتهى علمك إلى الملأ من بني إسرائيل ، وقد نظرت إلى بني إسرائيل إذ قالوا ، وليس انتهاء علمه إليهم ، ولا نظره إليهم كان في وقت قولهم لنبي لهم : ( ابعث لنا ملكا ) ، وإذا لم يكن ظرفا للانتهاء ، ولا للنظر ، فكيف يكون معمولا لهما ، أو لأحدهما ؟ هذا ما لا يصح . وأما الثاني : فبعيد جدا ؛ لأنه لو كان بدلا من " بعد " لكان على تقدير العامل ، وهو لا يصح دخوله عليه ، أعني " من " الداخلة على " بعد " لا تدخل على " إذ " ، لا تقول : من إذ ، ولو كان من الظروف التي يدخل عليها " من " كوقت وحين ، لم يصح المعنى أيضا ؛ لأن " من بعد موسى " حال كما قررناه ؛ إذ العامل فيه : كائنين ، ولو قلت : كائنين من حين قالوا لنبي لهم ابعث لنا ملكا ؛ لما صح هذا المعنى ، وإذا بطل هذان الوجهان ، فينظر ما يعمل فيه مما يصح به المعنى ، وقد وجدناه ، وهو : أن يكون ثم محذوف به يصح المعنى ، وهو العامل ، وذلك المحذوف تقديره : ألم تر إلى قصة الملأ ، أو حديث الملأ ، وما في معناه ؛ لأن الذوات لا يتعجب منها ، وإنما يتعجب مما جرى لهم ، فصار المعنى : ألم تر إلى ما جرى للملأ من بني إسرائيل من بعد موسى ، إذ قالوا ؟ فالعامل في " إذ " هو ذلك المحذوف ، والمعنى على تقديره ، وتعلق قوله " لنبي " بـ قالوا ، واللام فيه كما تقدم للتبليغ ، واسم هذا النبي : شمويل بن بالي ، قاله ابن عباس ، ووهب بن منبه ، أو شمعون ، قاله السدي ، أو يوشع بن نون . وقال المحاسبي اسمه عيسى ، وضعف قول من قال : إنه يوشع ، بأن يوشع هو فتى موسى - عليه السلام - وبينه وبين داود قرون كثيرة ، وقد طول المفسرون في هذه ، ونحن نلخصها فنقول : لما مات موسى - عليه السلام - خلف من بعده في بني إسرائيل يوشع يقيم فيهم التوراة ، ثم قبض فخلف حزقيل ، ثم قبض ففشت فيهم الأحداث ، حتى عبدوا الأوثان فبعث إليهم إلياس ، ثم من بعده اليسع ، ثم قبض ، فعظمت فيهم الأحداث ، وظهر لهم عدوهم العمالقة قوم جالوت ، كانوا سكان ساحل بحر الروم ، بين مصر وفلسطين ، وظهروا عليهم وغلبوا على كثير من بلادهم ، وأسروا من أبناء ملوكهم كثيرا ، وضربوا عليهم الجزية ، وأخذوا توراتهم ، ولم يكن لهم من يدبر أمرهم ، وسألوا الله أن يبعث لهم نبيا يقاتلون معه ، وكان سبط النبوة هلكوا إلا امرأة حبلى دعت الله أن يرزقها غلاما ؛ فرزقها شمويل ، فتعلم التوراة في بيت المقدس ، وكفله شيخ من علمائهم وتبناه ، فلما بلغ النبوة أتاه جبريل وهو نائم إلى جنب الشيخ ، وكان لا يأمن عليه ، فدعاه بلحن الشيخ : يا شمويل ، فقام فزعا ، وقال : يا أبت دعوتني ، فكره أن يقول له : لا ؛ فيفزع ؛ فقال : يا بني نم ، فجرى بذلك له مرتين ، فقال له : إن دعوتك الثالثة فلا تجبني ، فظهر له جبريل ، فقال له اذهب فبلغ قومك رسالة ربك ، قد بعثك نبيا . فأتاهم فكذبوه ، وقالوا : إن كنت صادقا فابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله آية من نبوتك ، وكان قوام بني إسرائيل بالاجتماع على الملوك ، وكان الملك يسير بالجموع ، والنبي يسدده ويرشده . وقال [ ص: 255 ] وهب : بعث شمويل نبيا فلبثوا أربعين سنة بأحسن حال ، وكان الله أسقط عنهم الجهاد إلا من قاتلهم ، فلما كتب عليهم القتال تولوا ، ثم كان من أمر جالوت والعمالقة ما كان . ومعنى " ابعث لنا ملكا " : أنهض لنا من نصدر عنه في تدبير الحرب ، وننتهي إلى أمره ، وانجزم " نقاتل " على جواب الأمر . وقرأ الجمهور بالنون والجزم . والضحاك ، وابن أبي عبلة بالياء ورفع اللام على الصفة للملك . وقرئ بالنون ورفع اللام على الحال من المجرور . وقرئ بالياء والجزم على جواب الأمر .

( قال هل عسيتم إن كتب عليكم القتال ألا تقاتلوا ) لما طلبوا من نبيهم أن ينهض لهم ملكا ، ورتبوا على بعثه أن يقاتلوا ، وكانوا قد ذلوا ، وسبي ملوكهم ؛ فأخذتهم الأنفة ، ورغبوا في الجهاد - أراد أن يستثبت ما طلبوه من الجهاد ، وأن يتعرف ما انطوت عليه بواطنهم ، فاستفهم عن مقاربتهم ترك القتال إن كتب عليهم ، فأنكروا أن يكون لهم داع إلى ترك القتال ؛ فقالوا : ( وما لنا ألا نقاتل في سبيل الله وقد أخرجنا من ديارنا وأبنائنا ) ، أي : هذه حال من يبادر إلى القتال ؛ لأنه طالب ثأر ، ومترج أن يكون له الظفر من الله تعالى ؛ لأنهم علموا أن ما أصابهم إنما كان بذنوبهم ، فلما أقلعوا وتابوا ، ورجعوا لطوع الأنبياء ؛ قويت آمالهم بالنصر والظفر . قيل : وكان النبي قد ظن منهم الجبن والفشل في القتال ؛ فلذلك استفهم ؛ وليبين أن ما ظنه وتوقعه من ذلك يكون منهم ، وكان كما توقع . وقرأ نافع : " عسيتم " بكسر السين هنا وفي سورة القتال . وقرأ الباقون بفتحها . وقد تقدم الكلام على " عسى " . قال أبو علي : الأكثر فتح السين ، وهو المشهور ، ووجه الكسر قول العرب : هو عس بذلك ، مثل : حر وشج ، فإن أسند الفعل إلى ظاهر فقياس عسيتم أن يقال : عسي زيد ، مثل رضي ، فإن قيل : فهو القياس ، وإن لم يقل فسائغ أن تأخذ باللغتين وتستعمل إحداهما في موضع الأخرى ، كما فعل ذلك بغيره . انتهى . والمحفوظ عن العرب أنه لا تكسر السين إلا مع تاء المتكلم والمخاطب ونون الإناث ، نحو : عسيت وعسيت ، وعسين ، وذلك على سبيل الجواز لا الوجوب ، ويفتح فيما سوى ذلك على سبيل الوجوب ، ولا يسوغ الكسر نحو : عسى زيد ، والزيدان عسيا ، والزيدون عسوا ، والهندان عسيا ، وعساك ، وعاساني ، وعساه . وقاله أبو بكر الأدفوي وغيره : إن أهل الحجاز يكسرون السين من عسى مع المضمر خاصة ، وإذا قيل : عسى زيد فليس إلا الفتح ، وينبغي أن يقيد المضمر بما ذكرناه . وقال أبو عبيد : لو كان عسيتم بكسر السين لقرئ : عسي ربكم ، وهذا جهل من أبي عبيد بهذه اللغة ، ودخول " هل " على " عسيتم " دليل على أن عسى فعل خبري لا إنشائي ، والمشهور أن عسى إنشاء لأنه ترج ، فهي نظيرة لعل ؛ ولذلك لا يجوز أن يقع صلة للموصول ، لا يجوز أن تقول : جاءني الذي عسى أن يحسن إلي ، وقد خالف في هذه المسألة هشام ؛ فأجاز وصل الموصول بها ، ووقوعها خبرا لأن دليل على أنها فعل خبري ، وهو جائز ، قال الراجز :

[ ص: 256 ]

لا تلحني إني عسيت صائما



إلا إن قيل : إن ذلك على إضمار القول ، كما قيل في قوله :


إن الذين قتلتم أمس سيدهم     لا تحسبوا ليلهم عن ليلكم ناما



لأن " إن وأخواتها " لا يجوز أن تقع خبرا لها من الجمل ، إلا الجمل الخبرية ، وهي التي تحتمل الصدق والكذب ، هذا على الصحيح ، وفي ذلك خلاف ضعيف . وجواب الشرط الذي هو " إن كتب عليكم القتال " محذوف للدلالة عليه ، وتوسط الشرط بين أجزاء الدليل على حذفه ، كما توسط في قوله : ( وإنا إن شاء الله لمهتدون ) ، وخبر " عسيتم " : " أن لا تقاتلوا " ، هذا على المشهور أنها تدخل على المبتدأ والخبر ، فيكون " أن " زيدت في الخبر ؛ إذ " عسى " للتراخي ، ومن ذهب إلى أن " عسى " يتعدى إلى مفعول ، جعل " أن لا تقاتلوا " هو المفعول ، و " أن " مصدرية ، والواو في " وما لنا " لربط هذا الكلام بما قبله ، ولو حذف لجاز أن يكون منقطعا عنه ، وهو استفهام في اللفظ ، وإنكار في المعنى ، و " أن لا نقاتل " ، أي : في ترك القتال ، حذف الجر المتعلق بما تعلق به " لنا " الواقع خبرا لما الاستفهامية ؛ إذ هي مبتدأ ، و " أن لا نقاتل " في موضع نصب ، أو في موضع جر على الخلاف الذي بين سيبويه والخليل ، وذهب أبو الحسن إلى أن " أن " زائدة ، وعملت النصب كما عمل باء الجر الزائد الجر ، والجملة حال ، أي : وما لنا غير مقاتلين ؛ فيكون مثل قوله تعالى : ( ما لك لا تأمنا على يوسف ) ، ( ما لكم لا ترجون لله وقارا ) ، ( وما لكم لا تؤمنون بالله ) ، وكقول العرب : ما لك قائما ؟ وقال تعالى : ( فما لهم عن التذكرة معرضين ، وذهب قوم منهم ابن جرير إلى حذف الواو من " أن لا نقاتل " ، والتقدير : وما لنا ولأن لا نقاتل ؟ قال : كما تقول : إياك أن تتكلم ، بمعنى إياك وأن تتكلم ، وهذا ومذهب أبي الحسن ليسا بشيء ؛ لأن الزيادة والحذف على خلاف الأصل ، ولا نذهب إليهما إلا لضرورة ، ولا ضرورة تدعو هنا إلى ذلك مع صحة المعنى في عدم الزيادة والحذف ، وأما : إياك أن تتكلم ، فليس على حذف حرف العطف ، بل إياك مضمن معنى احذر ؛ فأن تتكلم في موضع نصب كأنه قيل : احذر التكلم ، ( وقد أخرجنا ) جملة حالية : أنكروا ترك القتال ، وقد التبسوا بهذه الحال من إخراجهم من ديارهم وأبنائهم ، والقائل هذا لم يخرج ، لكنه أخرج مثله ؛ فكان ذلك إخراجا له ، ويمكن حمله على الظاهر ؛ لأن كثيرا منهم استولي على بلادهم ، وأسر أبناؤهم ؛ فارتحلوا إلى غير بلادهم التي كان منشؤهم بها ، كما مر في قصتهم . وقرأ عبيد بن عمير : " وقد أخرجنا " ، أي : العدو ، والمعنى في : " وأبنائنا " ، أي : من بين أبنائنا ، وقيل : هو على القلب ، أي : وأخرج منا أبناؤنا ، ويحتمل أن يكون الفاعل بـ " أخرجنا " على قراءة عبيد المذكور ضميرا يعود على الله ، أي : وقد أخرجنا الله بعصياننا وذنوبنا ؛ فنحن نتوب ونقاتل في سبيله ليردنا إلى أوطاننا ، ويجمع بيننا وبين أبنائنا ، كما تقول : ما لي لا أطيع الله وقد عاقبني على معصيته ؟ فينبغي أن أطيعه حتى لا يعاقبني ، قال القشيري : أظهروا التجلد والتصلب في القتال ذبا عن أموالهم ومنازلهم ؛ حيث ( قالوا وما لنا ألا نقاتل في سبيل الله وقد أخرجنا من ديارنا وأبنائنا ) ؛ فلذلك لم يتم قصدهم ؛ لأنه لم يخلص لحق الله عزمهم ، ولو أنهم قالوا : وما لنا أن لا نقاتل في سبيل الله لأنه قد أمرنا ، وأوجب علينا ؛ لعلهم وفقوا لإتمام ما قصدوا . ( فلما كتب عليهم القتال تولوا إلا قليلا منهم ) ، هذا شأن المترف المنعم ، متى كان متلبسا بالنعمة قوي عزمه وأنف ، فإذا ابتلي بشيء من الخطوب كع ، وذل التولي حقيقة هو عند المباشرة للحرب ، ومعناه هنا : صرف عزائمهم عن ما سألوه من القتال ، وانتصب " قليلا " على الاستثناء المتصل ، ولا يجوز أن يكون المستثنى منهما ، لو قلت : ضربت القوم إلا رجالا ؛ لم يصح ، وصح هذا لاختصاصه بأنه في نفسه صفة لموصوف ، ولتقييده بقوله " منهم " ، ولم يبين هنا عدة هذا القليل ، وبينته السنة ؛ صح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما سئل عن عدة من كان معه يوم بدر قال : ( ثلاثمائة وثلاثة عشر على عدة قوم [ ص: 257 ] طالوت ) ، وهؤلاء القليل ثبتوا على نياتهم السابقة ، واستمرت عزائمهم على قتال أعدائهم . وقرأ أبي : " تولوا إلا أن يكون قليل منهم " ، وهو استثناء منقطع ؛ لأن الكون معنى من المعاني ، والمستثنى منهم جثث . وتقول العرب : قام القوم إلا أن يكون زيد ، وزيدا ، بالرفع والنصب ؛ فالرفع على أن يكون تامة ، والنصب على أنها ناقصة ، واسمهما ضمير مستكن فيها يعود على البعض المفهوم مما قبله ، التقدير : إلا أن يكون هو ، أي : بعضهم زيدا ، والمعنى : قام القوم إلا كون زيد في القائمين ، ويلزم من انتفاء كونه في القائمين أنه ليس قائما ، فلا فرق من حيث المعنى بين قام القوم إلا زيدا ، وبين قام القوم إلا أن يكون زيد أو زيدا . ( والله عليم بالظالمين ) ، فيه وعيد وتهديد لمن تقاعد عن القتال بعد أن فرض عليه بسؤاله ورغبته ، وأن الإعراض عما أوجب الله على العبد ظلم ؛ إذ الظلم وضع الشيء في غير موضعه .

التالي السابق


الخدمات العلمية