الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم ) قال ابن عباس ، وعكرمة ، وقتادة ، والسدي وغيرهم : جادل وفد نجران النبي - صلى الله عليه وسلم - في أمر عيسى ، وقالوا : بلغنا أنك تشتم صاحبنا ، وتقول : هو عبد ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم : " وما يضر ذلك عيسى ، أجل هو عبد الله ، وكلمته ألقاها إلى مريم ، وروح منه " . فقالوا : فهل رأيت بشرا قط جاء من غير فحل أو سمعت به ؟ فخرجوا ، فنزلت . وفي بعض الروايات أنهم قالوا : فإن كنت صادقا فأرنا مثله فنزلت .

وروي وكيع عن مبارك عن الحسن قال : جاء راهبا نجران فعرض عليهما الإسلام ، فقال أحدهما : قد أسلمنا قبلك ، فقال : " كذبتما ، يمنعكما من الإسلام ثلاث : عبادتكما الصليب ، وأكلكما الخنزير ، وقولكما لله ولد . قالا : من أبو عيسى ؟ وكان لا يعجل حتى يأمره ربه . فأنزل ( إن مثل عيسى ) وتقدم الكلام في تفسير نحو هذا التركيب في قولهم : ( مثلهم كمثل الذي استوقد نارا ) . وقال الزمخشري : إن شأن عيسى وحاله الغريبة كشأن آدم ، فجعل المثل بمعنى الشأن والحال . وهو راجع لقول من قال : المثل هنا الصفة كقوله : ( مثل الجنة ) وفي هذا إقرار الكاف في قوله : ( كمثل آدم ) على معناها التشبيهي .

وقال ابن عطية : في قول من قال إن المثل هنا بمعنى الصفة ما نصه : وهذا عندي خطأ وضعف في فهم الكلام ، وإنما المعنى أن المثل الذي تتصوره النفوس والعقول ، من عيسى فهو كالمتصور من آدم ، إذ الناس كلهم مجمعون على أن الله تعالى خلقه من تراب من غير فحل . وكذلك ( مثل الجنة ) عبارة عن المتصور منها . وفي هذه الآية صحة القياس أي : إذا تصور أمر آدم قيس عليه جواز أمر عيسى . والكاف في ( كمثل آدم ) اسم على ما ذكرناه من المعنى انتهى كلامه .

ولا يظهر لي فرق بين كلامه هذا وكلام من جعل المثل بمعنى الشأن والحال . أو بمعنى الصفة ، وفي ( ري الظمآن ) قيل : المثل بمعنى الصفة ، وقولك صفة عيسى كصفة آدم كلام مطرد ، على هذا جل اللغويين والمفسرين ، وخالف أبو علي الفارسي الجميع ، وقال : المثل بمعنى الصفة لا يمكن تصحيحه في اللغة ، إنما المثل الشبه . على هذا تدور تصاريف الكلمة ، ولا معنى للوصفية في التشابه . والمثل كلمة يرسلها قائلها لحكمة يشبه بها الأمور ، ويقابل بها الأحوال انتهى .

ومن جعل المثل هنا مرادفا للمثل ، كالشبه والشبه . قال : جمع بين أداتي تشبيه على طريق التأكيد للشبه ، والتنبيه على عظم خطره وقدره . وقال بعض هؤلاء : الكاف زائدة . وقال بعضهم : " مثل " : زائدة ، وجعل بعضهم المثل هنا من ضرب الأمثال . وقال : العرب تضرب الأمثال لبيان ما خفي معناه ودق إيضاحه ، لما خفي سر ولادة عيسى من غير أب ; لأنه خالف المعروف ، ضرب الله المثل بآدم الذي استقر في الأذهان . وعلم أنه أوجد من غير أب ولا أم ، كذلك خلق عيسى بلا أب ، ولا بد من مشاركة معنوية بين من ضرب به المثل ، وبين من ضرب له المثل ، من وجه واحد ، أو من وجوه لا يشترط الاشتراك في سائر الصفات . والمعنى الذي وقعت فيه المشاركة بين آدم و عيسى كون كل واحد منهما خلق من غير أب . وقال بعض أهل العلم : المشاركة بين آدم و عيسى في خمسة عشر وصفا : في التكوين ، وفي الخلق من العناصر التي ركب الله منها الدنيا ، وفي العبودية ، وفي النبوة ، وفي المحنة عيسى باليهود ، و آدم بإبليس ، وفي أكلهما الطعام والشراب ، وفي الفقر إلى الله ، وفي الصورة ، وفي الرفع إلى السماء والإنزال منها إلى الأرض ، وفي الإلهام ، عطس آدم فألهم ، فقال الحمد لله . وألهم عيسى حين أخرج من بطن أمه فقال : ( إني عبد الله ) وفي العلم ، قال : ( وعلم آدم الأسماء ) وقال : ( ويعلمه الكتاب والحكمة ) وفي نفخ [ ص: 478 ] الروح فيهما ( فنفخت فيه من روحي ) ( فنفخنا فيه من روحنا ) وفي الموت ، وفي فقد الأب ، ومعنى : عند الله ؛ أي عند من يعرف حقيقة الأمر ، وكيف هو ؛ أي هكذا هو الأمر فيما غاب عنكم ، ولم تطلعوا على كنهه . والعامل في عند ، العامل في كاف التشبيه ، وهذا التشبيه هو من أحد الطرفين كما تقدم ، وهو الوجود من غير أب ، وهما نظيران في أن كلا منهما أوجده الله خارجا عما استقر واستمر في العادة من خلق الإنسان متولدا من ذكر وأنثى ، كما قال تعالى : ( ياأيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى ) والوجود من غير أب وأم أغرب في العادة من وجود من غير أب ، فشبه الغريب بالأغرب ; ليكون أقطع للخصم وأحسم لمادة شبهته إذا نظر فيما هو أغرب مما استغربه ، وأسر بعض العلماء بالروم فقال لهم لم تعبدون عيسى ؟ قالوا : لأنه لا أب له . قال : فآدم أولى لأنه لا أبوين له . قالوا : كان يحيي الموتى ، قال : فحزقيل أولى ; لأن عيسى أحيا أربعة نفر ، وأحيا حزقيل ثمانية آلاف . فقالوا : كان يبرئ الأكمه والأبرص . قال : فجرجيس أولى لأنه طحن وأحرق ، ثم قام سالما انتهى .

وصح أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رد عين قتادة بعدما قلعت ، ورد الله نورها ، وصح أن أعمى دعا له فرد الله له بصره .

وفي حديث الشاب الذي أتي به ليتعلم من سحر الساحر ، فترك الساحر ، ودخل في دين عيسى وتعبد به ، فصار يبرئ الأكمه والأبرص ، وفيه أنه دعا لجليس الملك وابن عمه ، وكان أعمى ، فرد الله عليه بصره .

( خلقه من تراب ) هي من تسمية الشيء باسم أصله . كقوله ( الله الذي خلقكم من تراب ثم من نطفة ) كان ترابا ثم صار طينا ، وخلق منه آدم . كما قال : ( ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين ) وقال تعالى : ( إني خالق بشرا من طين ) وقال : ( قال أأسجد لمن خلقت طينا ) . والضمير المنصوب في : خلقه عائد على آدم ، وهذه الجملة تفسيرية لـ " كمثل آدم " ، فلا موضع لها من الإعراب . وقيل : هي في موضع الحال ، وقدر مع خلقه مقدرة ، والعامل فيها معنى التشبيه . قال ابن عطية : ولا يجوز أن يكون خلقه صفة لآدم ، ولا حالا منه . قال الزجاج : إذ الماضي لا يكون حالا أنت فيها ، بل هو كلام مقطوع منه مضمنه تفسير المثل انتهى كلامه . وفيه نظر ، والمعنى : قدره جسدا من طين ( ثم قال له كن ) أي أنشأه بشرا ، قاله الزمخشري ، وسبقه إلى معناه أبو مسلم . قلنا : ولو كان الخلق بمعنى الإنشاء . لا بمعنى التقدير ، لم يأت بقوله : ( ثم قال له كن ) لأن ما خلق لا يقال له كن ، ولا ينشأ إلا إن كان معنى ( ثم قال له كن ) عبارة عن نفخ الروح فيه ، وقاله عبد الجبار . فيمكن أن يكون خلقه بمعنى أنشأه لا بمعنى قدره . قيل : أو يكون : كن ، عبارة عن كونه لحما ودما ، وقوله : فيكون ، حكاية حال ماضية ، ولا قول هناك حقيقة ، وإنما ذلك على سبيل التمثيل ، وكناية عن سرعة الخلق ، والتمكن من إيجاد ما يريد تعالى إيجاده ، إذ المعدوم لا يمكن أن يؤمر .

و : ثم ، قيل لترتيب الخبر ، لأن قوله : كن ، لم يتأخر عن " خلقه " ، وإنما هو في المعنى تفسير للخلق ، ويجوز أن يكون للترتيب الزماني أي : أنشأه أولا من طين ، ثم بعد زمان أوجد فيه الروح ، أي : صيره لحما ودما على من قال ذلك . وقال الراغب : ومعنى : كن . بعد : خلقه من تراب : كن إنسانا حيا ناطقا ، وهو لم يكن كذلك ، بل كان دهرا ملقى لا روح فيه ، ثم جعل له الروح . وقوله : كن ؛ عبارة عن إيجاد الصورة التي صار بها الإنسان إنسانا انتهى .

والضمير في : له ، عائد على آدم ، وأبعد من زعم أنه عائد على عيسى ، وأبعد من هذا قول من زعم أنه يجوز أن يعود على كل مخلوق خلق بكن ، وهو قول الحوفي .

( الحق من ربك ) جملة من مبتدأ وخبر ، أخبر تعالى أن الحق ، وهو الشيء الثابت الذي لا شك فيه ، هو وارد إليك من ربك ، فجميع ما أنبأك به حق ، فيدخل فيه قصة عيسى و آدم وجميع أنبائه تعالى ، ويجوز أن يكون : الحق ، خبر مبتدأ محذوف ، أي : هو . أي : خبر عيسى في كونه خلق من أم فقط هو الحق ، ومن ربك : حال ، أو : خبر ثان ، وأخبر عن قصة عيسى بأنها حق . ومع كونها حقا فهي [ ص: 479 ] إخبار صادر عن الله .

( فلا تكن من الممترين ) قيل : الخطاب بهذا لكل سامع قصة عيسى والأخبار الواردة من الله تعالى . وقيل : المراد به أمة من ظاهر الخطاب له . قال الزمخشري : ونهيه عن الامتراء وجل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يكون ممتريا ، من باب التهييج لزيادة الثبات والطمأنينة ، وأن يكون لطفا لغيره . وقال الراغب : الامتراء استخراج الرأي للشك العارض ، ويجعل عبارة عن الشك ، وقال : فلا تكن من الممترين ، ولم يكن ممتريا ليكون فيه ذم من شك في عيسى .

( فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم ) أي : من نازعك وجادلك ، وهو من باب المفاعلة التي تكون بين اثنين ، وكان الأمر كذلك بينه - صلى الله عليه وسلم - وبين وفد نجران . والضمير في فيه عائد على عيسى ; لأن المنازعة كانت فيه ، ولأن تصدير الآية السابقة في قوله : ( إن مثل عيسى ) وما بعده جاء من تمام أمره ، وقيل : يعود على الحق ، وظاهر من العموم في كل من يحاج في أمر عيسى . وقيل : المراد وفد نجران .

و : من ، يصح أن تكون موصولة ، ويصح أن تكون شرطية ، والعلم هنا : الوحي الذي جاء به جبريل ، وقيل : الآيات المتقدمة في أمر عيسى ، الموجبة للعمل . و " ما " في : ما جاءك ، موصولة بمعنى الذي ، وفي : جاءك ، ضمير الفاعل يعود عليها . ومن العلم : متعلق بمحذوف في موضع الحال ، أي : كائنا من العلم . وتكون : من تبعيضية . ويجوز أن تكون لبيان الجنس على مذهب من يرى ذلك ، قال بعضهم ، ويخرج على قول الأخفش : أن تكون ما ، مصدرية ، ومن : زائدة والتقدير : من بعد مجيء العلم إياك .

( فقل تعالوا ) قرأ الجمهور بفتح اللام ، وهو الأصل والقياس ، إذ التقدير تفاعل ، وألفه منقلبة عن ياء وأصلها واو ، فإذا أمرت الواحد قلت : تعال ، كما تقول : اخش واسع . وقرأ الحسن ، وأبو واقد ، وأبو السمال : بضم اللام ، ووجههم أن أصله : تعاليوا ، كما تقول : تجادلوا ، نقل الضمة من الياء إلى اللام بعد حذف فتحتها ، فبقيت الياء ساكنة ، وواو الضمير ساكنة ، فحذفت الياء لالتقاء الساكنين ، وهذا تعليل شذوذ .

( ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ) أي : يدع كل مني ومنكم أبناءه ونساءه ونفسه إلى المباهلة . وظاهر هذا أن الدعاء والمباهلة بين المخاطب : بـ " قل " وبين " من حاجه " ، وفسر على هذا الوجه الأبناء ب الحسن والحسين ، وبنسائه فاطمة ، والأنفس : بعلي . قال الشعبي : ويدل على أن ذلك مختص بالنبي - صلى الله عليه وسلم - مع من حاجه ما ثبت في صحيح مسلم من حديث سعد بن أبي وقاص ، قال : لما نزلت هذه الآية : ( تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ) دعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم : فاطمة و حسنا وحسينا ، فقال : " اللهم هؤلاء أهلي " .

وقال قوم : المباهلة كانت عليه ، وعلى المسلمين ، بدليل ظاهر قوله " ندع أبناءنا وأبناءكم " على الجمع ، ولما دعاهم دعا بأهله الذين في حوزته ، ولو عزم نصارى نجران على المباهلة وجاءوا لها ، لأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - المسلمين أن يخرجوا بأهاليهم لمباهلته .

وقيل : المراد بأنفسنا ، الإخوان ، قاله ابن قتيبة . قال تعالى : ( ولا تلمزوا أنفسكم ) أي : إخوانكم . وقيل : أهل دينه ، قاله أبو سليمان الدمشقي . وقيل : الأزواج ، وقيل : أراد القرابة القريبة ، ذكرهما علي بن أحمد النيسابوري .

( ثم نبتهل ) أي : ندع بالالتعان . وقيل : نتضرع إلى الله ، قاله ابن عباس . وقال مقاتل : نخلص في الدعاء . وقال الكلبي : نجهد في الدعاء . وقيل : نتداعى بالهلاك .

التالي السابق


الخدمات العلمية