الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( فإذا أمنتم ) يعني : من الإحصار ، هذا الأمن مرتب تفسيره على تفسير الإحصار ، فمن فسره هناك بالإحصار بالمرض لا بالعدو ، جعل الأمن هنا من المرض لا من العدو ، وهو قول علقمة ، وعروة . والمعنى : فإذا برئتم من مرضكم .

ومن فسره بالإحصار بالعدو لا بالمرض : قال هنا : الأمن من العدو لا من المرض ، والمعنى : فإذا أمنتم من خوفكم من العدو .

ومن فسر الإحصار بأنه من العدو والمرض ونحوه ، فالأمن عنده هنا من جميع ذلك ، والأمن سكون يحصل في القلب بعد اضطرابه . وقد جاء في الحديث : " الزكام أمان من الجذام " . خرجه ابن ماجه ، وجاء : من سبق العاطس بالحمد ، أمن من الشوص واللوص والعلوص . أي : من وجع السن ، ووجع [ ص: 77 ] الأذن ، ووجع البطن . والخطاب ظاهره أنه عام في المحصر وغيره ، أي : فإذا كنتم في حال أمن وسعة ، وهو قول ابن عباس وجماعة ، وقال عبد الله بن الزبير ، وعلقمة ، وإبراهيم : الآية في المحصرين دون المخلى سبيلهم .

( فمن تمتع بالعمرة إلى الحج ) ، تقدم الكلام في المتاع في قوله : ( ومتاع إلى حين ) ، وفسر التمتع هنا بإسقاط أحد السفرين : لأن حق العمرة أن تفرد بسفر غير سفر الحج ، وقيل : لتمتعه بكل ما لا يجوز فعله ، من وقت حله من العمرة إلى وقت إنشاء الحج . واختلف في صورة هذا التمتع الذي في الآية ، فقال عبد الله بن الزبير : هو فيمن أحصر حتى فاته الحج ، ثم قدم مكة فخرج من إحرامه بعمل عمرة ، واستمتع بإحلاله ذلك بتلك العمرة إلى السنة المستقبلة ثم يحج ويهدي .

وقال ابن جبير ، وعلقمة ، وإبراهيم ، معناه : فإذا أمنتم وقد حللتم من إحرامكم بعد الإحصار ، ولم تقضوا عمرة تخرجون بها من إحرامكم بحجكم ، ولكن حللتم حيث أحصرتم بالهدي ، وأخرتم العمرة إلى السنة القابلة ، واعتمرتم في أشهر الحج ، فاستمتعتم بإحلالكم إلى حجكم ، فعليكم ما استيسر من الهدي . وقال علي : أي فإن أخر العمرة حتى يجمعها مع الحج فعليه الهدي . وقال السدي : فمن نسخ حجه بعمرة فجعله عمرة ، واستمتع بعمرته إلى حجه . وقال ابن عباس ، وعطاء ، وجماعة : هو الرجل تقدم معتمرا من أفق في أشهر الحج ، فإذا قضى عمرته أقام حلالا بمكة حتى ينشئ منها الحج من عامه ذلك ، فيكون مستمتعا بالإحلال إلى إحرامه بالحج ، فمعنى التمتع : الإهلال بالعمرة ، فيقيم حلالا يفعل ما يفعل الحلال بالحج ، ثم يحج بعد إحلاله من العمرة من غير رجوع إلى الميقات .

والآية محتملة لهذه الأقوال كلها ، ولا خلاف بين العلماء في وقوع الحج على ثلاثة أنحاء : تمتع ، وإفراد ، وقران . وقد بين ذلك في كتب الفقه . ونهي عمر عن التمتع لعله لا يصح ، وقد تأوله قوم على أنه فسخ الحج في العمرة ، فأما التمتع بالعمرة إلى الحج فلا .

( فما استيسر من الهدي ) ، تقدم الكلام على هذه الجملة تفسيرا وإعرابا في قوله : ( فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي ) ، فأغنى عن إعادته . والفاء في " فإذا أمنتم " للعطف ، وفي " فمن تمتع " جواب الشرط ، وفي " فما " جواب للشرط الثاني . ويقع الشرط وجوابه جوابا للشرط بالفاء ، لا نعلم في ذلك خلاف الجواب ، نحو : إن دخلت الدار فإن كلمت زيدا فأنت طالق .

وهدي التمتع نسك عند أبي حنيفة لتوفيق الجمع بين العبادتين في سفره ، ويأكل منه ، وعند الشافعي : يجرى مجرى الجنايات لترك إحدى السفرتين ، ولا يأكل منه ، ويذبحه يوم النحر عند أبي حنيفة ، ويجوز عند الشافعي ذبحه إذا أحرم بحجته ، والظاهر وجوب الذبح عند حصول التمتع عقيبه . وصورة التمتع على من جعل قوله : " فإذا أمنتم فمن تمتع " خاصة بالمحصرين ، تقدمت في قول ابن الزبير ، وقول ابن جبير ومن معه ، وأما على قول من جعلها عامة في المحصر وغيره فالتمتع كيفيات . إحداها : أن يحرم غير المكي بعمرة أولا في أشهر الحج في سفر واحد في عام ، فيقدم مكة ، فيفرغ من العمرة ثم يقيم حلالا إلى أن ينشئ الحج من مكة في عام العمرة قبل أن يرجع إلى بلده ، أو قبل خروجه إلى ميقات أهل ناحيته ، ويكون الحج والعمرة عن شخص واحد .

الثانية : أن يجمع بين الحج والعمرة في الإحرام ، وهو المسمى قرانا ، فيقول : لبيك بحجة وعمرة معا ، فإذا قدم مكة طاف بحجه وعمرته وسعى . فروي عن علي وابن مسعود : يطوف طوافين ويسعى سعيين ، وبه قال الشعبي وجابر بن زيد ، وابن أبي ليلى : وروي عن عبد الله بن عمر وجابر بن عبد الله : طواف واحد وسعي واحد لهما ، وبه قال عطاء ، والحسن ، ومجاهد ، وطاوس ، ومالك ، والشافعي وأصحابهما ، وإسحاق ، وأبو ثور . وجعل القران من باب التمتع لترك النصب في السفر إلى العمرة مرة ، وإلى الحج أخرى ، ولجمعهما ، ولم يحرم بكل واحد من ميقاته ، فهذا وجه من التمتع لا خلاف في جوازه ، قيل : وأهل مكة لا يجيزون الجمع بين [ ص: 78 ] العمرة والحج إلا بسياق الهدي ، وهو عندكم بدنة لا يجوز دونها . وقال مالك : ما سمعت أن مكيا قرن ، فإن فعل لم يكن عليه هدي ولا صيام ، وعلى هذا جمهور الفقهاء : وقال ابن الماجشون . إذا قرن المكي الحج مع العمرة كان عليه دم القران ، وقال عبد الله بن عمر : المكي إذا تمتع أو قرن ، لم يكن عليه دم قران ولا تمتع .

الثالثة : أن يحرم بالحج ، فإذا دخل مكة فسخ حجه في عمرة ، ثم حل وأقام حلالا حتى يهل بالحج يوم التروية ، وجمهور العلماء على ترك العمل بها . وروي عن ابن عباس ، والحسن ، والسدي جوازها ، وبه قال أحمد .

وظاهر الآية يدل على وجوب الهدي للواحد ، أو الصوم لمن لم يجد إذا تمتع بالعمرة في أشهر الحج ، ثم رجع إلى بلده ، ثم حج من عامه . وهو مروي عن سعيد بن المسيب ، والحسن . وقد روي عن الحسن أنه لا يكون متمتعا فلا هدي ولا صوم ، وبه قال الجمهور ، وظاهر الآية أنه لو اعتمر بعد يوم النحر فليس متمتعا ، وعلى هذا قالوا : الإجماع : لأن التمتع مغيا إلى الحج ولم يقع المغيا . وشذ الحسن فقال : هي متعة ، والظاهر أنه إذا اعتمر في غير أشهر الحج ، ثم أقام إلى أشهر الحج ، ثم حج من عامه فهو متمتع ، وبه قال طاوس ، وقال الجمهور : لا يكون متمتعا .

التالي السابق


الخدمات العلمية