وقيل : نزلت في حيين من العرب اقتتلوا قبل الإسلام ، وكان بينهما قتلى وجراحات لم يأخذ بعضهم من بعض . قال ابن جبير : هما الأوس والخزرج . وقال : هما مقاتل بن حيان قريظة والنضير ، وكان لأحدهما طول على الأخرى في الكثرة والشرف ، وكانوا ينكحون نساءهم بغير مهور ، وأقسموا ليقتلن بالعبد الحر ، وجعلوا جراحاتهم ضعفي جراحات أولئك ، وكذلك كانوا يعاملونهم في الجاهلية ، فرفعوا أمرهم إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فنزلت ، وأمرهم بالمساواة فرضوا ، وفي ذلك قال قائلهم :
هم قتلوا فيكم مظنة واحد ثمانية ثم استمروا فأربعوا
وروي أن بعض غني قتل شاس بن زهير ، فجمع عليهم أبوه زهير بن خزيمة فقالوا له ، وقال له بعض من يذب عنهم : سل في قتل شاس ، فقال : إحدى ثلاث لا يرضيني غيرهن ، فقالوا : ما هن ؟ فقال : تحيون شاسا ، أو تملئون داري من نجوم السماء ، أو تدفعون لي غنيا بأسرها فأقتلها ، ثم لا أرى أني أخذت عوضا .
ومناسبة هذه الآية لما قبلها أنه لما حلل ما حلل قبل ، وحرم ما حرم ، ثم أتبع بذكر من أخذ مالا من غير وجهه ، وأنه ما يأكل في بطنه إلا النار ، واقتضى ذلك انتظام جميع المحرمات من الأموال ، ثم أعقب ذلك بذكر من اتصف بالبر ، وأثنى عليهم بالصفات الحميدة التي انطووا عليها ، أخذ يذكر تحريم الدماء ، ويستدعي حفظها وصونها ، فنبه بمشروعية القصاص على تحريمها ، ونبه على جواز أخذ مال بسببها ، وأنه ليس من المال الذي يؤخذ من غير وجهه ، وكان تقديم تبيين ما أحل الله وما حرم من المأكول على تبيين مشروعية القصاص لعموم البلوى بالمأكول : لأن به قوام البنية وحفظ صورة الإنسان . ثم ذكر حكم متلف تلك الصورة : لأن من كان مؤمنا يندر منه وقوع القتل ، فهو بالنسبة لمن اتصف بالأوصاف السابقة بعيد منه وقوع ذلك ، وكان ذكر تقديم ما تعم به البلوى أعم ، ونبه أيضا على أنه ، وإن عرض مثل هذا الأمر الفظيع لمن اتصف بالبر ، فليس ذلك مخرجا له عن البر ، ولا عن الإيمان ، ولذلك ناداهم بوصف الإيمان فقال : ( ياأيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى ) . وأصل الكتابة : الخط الذي يقرأ ، وعبر به هنا عن معنى الإلزام والإثبات ، أي : فرض وأثبت : لأن ما كتب جدير بثبوته وبقائه .
وقيل : هو على حقيقته ، وهو إخبار عن ما كتب في اللوح المحفوظ ، وسبق به القضاء . وقيل : معنى كتب : أمر ، كقوله : ( ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم ) أي : التي أمرتم بدخولها . وقيل : يأتي كتب بمعنى جعل ، ومنه ( أولئك كتب في قلوبهم الإيمان ) ، ( فسأكتبها للذين يتقون ) ، وتعدي كتب هنا بعلى يشعر بالفرض والوجوب ، و ( في القتلى ) في هنا للسببية ، أي : بسبب القتلى ، مثل : " " . والمعنى : أنكم أيها المؤمنون وجب عليكم استيفاء القصاص من القاتل بسبب قتل القتلى بغير موجب ، ويكون الوجوب متعلق الإمام أو من يجرى مجراه في استيفاء الحقوق إذا أراد ولي الدم استيفاءه ، أو يكون ذلك خطابا مع القاتل ، والتقدير : يا أيها القاتلون ، كتب عليكم تسليم النفس عند مطالبة الولي بالقصاص ، وذلك أنه يجب على القاتل ، إذا أراد الولي قتله ، أن يستسلم لأمر الله وينقاد لقصاصه المشروع ، وليس له أن يمتنع بخلاف الزاني والسارق ، فإن لهما الهرب [ ص: 10 ] من الحد ، ولهما أن يستترا بستر الله ، ولهما أن لا يعترفا ويجب على الولي الوقوف عند قاتل وليه ، وأن لا يتعدى على غيره ، كما كانت العرب تفعل بأن تقتل غير قاتل قتيلها من قومه ، وهذا الكتب في القصاص مخصوص بأن لا يرضى الولي بدية أو عفو ، وإنما القصاص هو الغاية عند التشاحن ، وأما إذا رضي بدون القصاص من دية أو عفو فلا قصاص . قال دخلت امرأة النار في هرة الراغب : فإن قيل على من يتوجه هذا الوجوب ؟ قيل على الناس كافة ، فمنهم من يلزمه تسليم النفس ، وهو القاتل ، ومنهم من يلزمه استيفاؤه ، وهو الإمام إذا طلبه الولي ، ومنهم من يلزمه المعاونة والرضا ، ومنهم من يلزمه أن لا يتعدى ، بل يقتص أو يأخذ الدية ، والقصد بالآية منع التعدي ، فإن أهل الجاهلية كانوا يتعدون في القتل ، وربما لا يرضى أحدهم إذا قتل عبدهم إلا بقتل حر . اهـ كلامه .
وتلخص في قوله : ( ياأيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى ) ثلاثة أقوال ، أحدها : أنهم الأئمة ومن يقوم مقامهم . الثاني : أنهم القاتلون . الثالث : أنهم جميع المؤمنين على ما أوضحناه .
وقد اختلف في هذه الآية ، أهي ناسخة أم منسوخة ؟ فقال الحسن : نزلت في نسخ التراجع الذي كانوا يفعلونه ، إذا قتل الرجل امرأة كان وليها بالخيار بين قتله مع تأدية نصف الدية ، وبين أخذ نصف دية الرجل وتركه ، وإن كان قاتل الرجل امرأة ، كان أولياء المقتول بالخيار بين قتل المرأة وأخذ نصف دية الرجل ، وإن شاءوا أخذوا الدية كاملة ولم يقتلوها . قال : فنسخت هذه الآية ما كانوا يفعلونه ، اهـ . ولا يكون هذا نسخا : لأن فعلهم ذلك ليس حكما من أحكام الله فينسخ بهذه الآية . وقال : هي منسوخة بآية المائدة ، وسيأتي الكلام في هذا . ابن عباس