وارتفاع : " من " ، على الابتداء وهي شرطية أو موصولة ، والظاهر أن : " من " ، هو القاتل والضمير في ( له ) ، و ( من أخيه ) عائد عليه ، و ( شيء ) ، هو المفعول الذي لم يسم فاعله ، وهو بمعنى المصدر ، وبني عفا للمفعول ، وإن كان لازما : لأن اللازم يتعدى إلى المصدر كقوله : ( فإذا نفخ في الصور نفخة واحدة ) ، والأخ هو المقتول ، أي : من دم أخيه أو ولي الدم ، وسماه أخا للقاتل اعتبارا بأخوة الإسلام ، أو استعطافا له عليه ، أو لكونه ملابسا له من قبل أنه ولي للدم ومطالب به ، كما تقول : قل لصاحبك كذا ، لمن بينك وبينه أدنى ملابسة ، وهذا الذي أقيم مقام الفاعل ، وإن كان مصدرا فهو يراد به الدم المعفو عنه ، والمعنى : أن القاتل إذا عفي عنه رجع إلى أخذ الدية ، وهو قول وجماعة من أهل العلم ، واستدل بهذا على أن موجب العهد أحد الأمرين ، إما القصاص ، وإما الدية : لأن الدية تضمنت عافيا ومعفوا عنه ، وليس إلا ولي الدم والقاتل ، والعفو لا يتأتى إلا من الولي ، فصار تقدير الآية : فإذا عفا ولي الأمر عن شيء يتعلق بالقاتل فليتبع القاتل ذلك العفو بمعروف . وعفا يتعدى بعن إلى الجاني وإلى الجناية ، تقول : عفوت عن زيد ، وعفوت عن ذنب زيد ، فإذا عديت إليهما معا تعدت إلى الجاني باللام ، وإلى الذنب بعن ، تقول : عفوت لزيد عن ذنبه ، وقوله : ( ابن عباس فمن عفي له ) من هذا الباب ، أي : فمن عفي له عن جنايته ، وحذف عن جنايته لفهم المعنى ، ولا يفسر " عفي " بمعنى ترك : لأنه لم يثبت ذلك معدى إلا بالهمزة ، ومنه : " " ، ولا يجوز أن تضمن عفى معنى ترك ، وإن كان العافي عن الذنب تاركا له لا يؤاخذ به : لأن التضمين لا ينقاس . أعفوا اللحى
قال . فإن قلت : فقد ثبت قولهم عفا أثره إذا محاه وأزاله ، فهلا جعلت معناه : فمن محي له من أخيه [ ص: 13 ] شيء ؟ قلت : عبارة قيلت في مكانها ، والعفو في باب الجنايات عبارة متداولة مشهورة في الكتاب والسنة واستعمال الناس ، فلا يعدل عنها إلى أخرى قلقة نائية عن مكانها ، وترى كثيرا ممن يتعاطى هذا العلم يجترئ إذا عضل عليه تخريج المشكل من كلام الله على اختراع لغة . وادعاء على العرب ما لا تعرف ، وهذه جرأة يستعاذ بالله منها . انتهى كلامه . وإذا ثبت أن عفا يكون بمعنى محا فلا يبعد حمل الآية عليه ، ويكون إسناد عفى لمرفوعه إسنادا حقيقيا : لأنه إذ ذاك مفعول به صريح ، وإذا كان لا يتعدى كان إسناده إليه مجازا وتشبيها للمصدر بالمفعول به ، فقد يتعادل الوجهان أعني : كون عفا اللازم لشهرته في الجنايات ، وعفا المتعدي لمعنى محا لتعلقه بمرفوعه تعلقا حقيقيا . الزمخشري
وقول : وترى كثيرا ممن يتعاطى هذا العلم إلى آخره ، هذا الذي ذكره هو فعل غير المأمونين على دين الله ، ولا الموثوق بهم في نقل الشريعة ، والكذب من أقبح المعاصي وأذهبها لخاصة الإنسان ، وخصوصا على الله وعلى رسوله . وقال الزمخشري ما معناه : أنه قد يصحب الإنسان وإن كان على حالة تكره ، إلا ما كان من الكاذب ، فإنه يكون أول مفارق له ، لكن لا يناسب قول أبو محمد بن حزم هنا : وترى كثيرا إلى آخر كلامه إثر قوله : فإن قلت إلى آخره : لأن مثل هذا القول هو حمل العفو على معنى المحو ، وهو حمل صحيح واستعمال في اللغة ، فليس من باب الجرأة واختراع اللغة . وبني الفعل هنا للمفعول ليعم العافي كان واحدا أو أكثر ، هذا إن أريد بأخيه المقتول ، أي : من دم أخيه ، وقيل : " شيء " لأن معناه : شيء من العفو فسواء في ذلك أن يعفو عن بعض الدم أو عن كله ، أو أن يعفو بعض الورثة أو كلهم ، فإنه يتم العفو ويسقط القصاص ، ولا يجب إلا الدية ، وقيل : من عفي له هو ولي الدم ، وعفي هنا بمعنى يسر ، لا على بابها في العفو ، ومن أخيه : هو القاتل ، وشيء : هو الدية ، والأخوة هي : أخوة الإسلام ، ويحتمل أن يراد بالأخ على هذا التأويل : المقتول ، أي : من قبل أخيه المقتول ، وهذا القول قول الزمخشري مالك ، فسر المعفو له بولي الدم ، والأخ بالقاتل ، والعفو بالتيسير ، وعلى هذا قال مالك : إذا جنح الولي إلى العفو على أخذ الدية خير القاتل بين أن يعطيها أو يسلم نفسه .
وغير مالك يقول : إذا رضي الولي بالدية فلا خيار للقاتل ويلزم الدية ، وقد روي هذا عن مالك ، ورجحه كثير من أصحابه ، ويضعف هذا القول أن عفي بمعنى : يسر لم يثبت .
وقيل : هذه ألفاظ في المعنيين الذين نزلت فيهم هذه الآية كلها ، وتساقطوا الديات فيما بينهم مقاصة ، فمعنى الآية : فمن فضل له من الطائفتين على الأخرى شيء من تلك الديات ، وتكون عفا بمعنى : فضل ، من قولهم : عفا الشيء إذا كثر ، أي : أفضلت الحالة له ، أو الحساب ، أو القدر ، وقيل : هي على قول علي والحسن في الفضل من دية الرجل والمرأة والحر والعبد ، أي : من كان له ذلك الفضل فاتباع بالمعروف ، وعفي هنا بمعنى : أفضل ، وكأن الآية من أولها بينت الحكم إذا لم تتداخل الأنواع ، ثم بينت الحكم إذا تداخلت ، والقول الأول أظهر كما قلناه ، وقد جوز ابن عطية أن يكون عفي بمعنى : ترك ، فيرتفع " شيء " على أنه مفعول به قام مقام الفاعل ، قال : والأول أجود بمعنى أن يكون " عفي " لا يتعدى إلى مفعول به ، وأن ارتفاع " شيء " هو لكونه مصدرا أقيم مقام الفاعل ، وتقدم قول : أن عفي بمعنى : ترك لم يثبت . الزمخشري
( فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان ) . ارتفاع " اتباع " على أنه خبر مبتدأ محذوف ، أي : فالحكم أو الواجب ، كذا قدره ابن عطية ، وقدره : فالأمر اتباع ، وجوز أيضا رفعه بإضمار فعل تقديره : فليكن اتباع ، وجوزوا أيضا أن يكون مبتدأ محذوف الخبر ، وتقديره : فعلى الولي اتباع القاتل بالدية ، وقدروه أيضا متأخرا تقديره ، فاتباع بالمعروف عليه . قال الزمخشري ابن عطية بعد تقديره : فالحكم أو الواجب اتباع ، وهذا سبيل الواجبات ، كقوله ( فإمساك بمعروف ) وأما المندوب إليه فيأتي منصوبا كقوله : ( فضرب الرقاب ) [ ص: 14 ] انتهى . ولا أدري هذه التفرقة بين الواجب والمندوب ، إلا ما ذكروا من أن الجملة الابتدائية أثبت وآكد من الجملة الفعلية في مثل قوله : ( قالوا سلاما قال سلام ) ، فيمكن أن يكون هذا الذي لحظه ابن عطية من هذا . وأما إضمار الفعل الذي قدره : فليكن ، فهو ضعيف إذ كان لا تضمر غالبا إلا بعد أن الشرطية ، أو لو : حيث يدل على إضمارها الدليل ، و ( بالمعروف ) متعلق بقوله : فاتباع ، وارتفاع : ( الزمخشري وأداء ) لكونه معطوفا على " اتباع " ، فيكون فيه من الإعراب ما قدروا في : " فاتباع " ، ويكون " بإحسان " متعلقا بقوله " وأداء " وجوزوا أن يكون و " أداء " مبتدأ ، وبإحسان ، هو الخبر ، وفيه بعد والفاء في قوله " فاتباع " جواب الشرط إن كانت " من " شرطا ، وداخلة في خبر المبتدأ إن كانت " من " موصولة ، فإن كانت " من " كناية عن القاتل ، وأخوه كناية عن الولي ، وهو الظاهر ، فتكون الجملة توصية للمعفو عنه والعافي بحسن القضاء من المؤدي ، وحسن التقاضي من الطالب ، وإن كان الأخ كناية عن المقتول كانت الهاء في قوله " وأداء إليه " عائدة على ما يفهم من يصاحب بوجه ما : لأن في قوله " عفي " دلالة على العافي فيكون نظير قوله : ( حتى توارت بالحجاب ) إذ في العشي دلالة على مغيب الشمس ، وقول الشاعر :
لكالرجل الحادي وقد منع الضحى وطير المنايا فوقهن أواقع
أي : فوق الإبل : لأن في قوله الحادي دلالة عليهن ، وإن كانت " من " كناية عن القاتل فيكون أيضا توصية له وللولي بحسن القضاء والتقاضي ، أي : فاتباع من الولي بالمعروف ، وأداء من القاتل إليه بإحسان ، والاتباع بالمعروف أن لا يعنف عليه ولا يطالبه إلا مطالبة جميلة ، ولا يستعجله إلى ثلاث سنين يجعل انتهاء الاستيفاء ، والأداء بالإحسان أن لا يمطله ولا يبخسه شيئا . وهذا مروي عن في تفسير الاتباع والأداء . ابن عباس
وقيل : اتباع الولي بالمعروف أن لا يطلب من القاتل زيادة على حقه ، وقد روي في الحديث : " من زاد بعيرا في إبل الدية وفرائضها فمن أمر الجاهلية " . وقيل الاتباع والأداء معا من القاتل ، والاتباع بالمعروف أن لا ينقصه ، والأداء بالإحسان أن لا يؤخره . وقيل : المعروف ، حفظ الجانب ولين القول ، والإحسان تطييب القول ، وقيل : المعروف ما أوجبه تعالى ، وقيل : المعروف ما يتعاهد العرب بينها من دية القتلى . وظاهر قوله : ( فمن عفي له من أخيه شيء ) الآية . أنه يمتنع إجابة القاتل إلى القود منه إذا اختار ذلك واختار المستحق الدية ، ويلزم القاتل الدية إذا اختارها الولي ، وإليه ذهب سعيد ، وعطاء ، والحسن ، والليث ، ، والأوزاعي ، والشافعي وأحمد ، وإسحاق ، ، ورواه وأبو ثور أشهب عن مالك .
وقال أبو حنيفة وأصحابه ، وأحمد ، ومالك في إحدى الروايتين عنه ، ، والثوري : ليس للولي إلا القصاص ، ولا يأخذ الدية إلا برضى القاتل ، فعلى قول هؤلاء يقدر بمحذوف ، أي : فمن عفي له من أخيه شيء ، ورضي المعفو ودفع الدية ، فاتباع بالمعروف . وقد تقدمت لنا الإشارة إلى هذا الخلاف عند تفسيرنا : ( وابن شبرمة فمن عفي ) واختلاف الناس فيه .