( ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب لعلكم تتقون ) ، الحياة التي في القصاص هي أن الإنسان إذا علم أنه إذا قتل قتل ، أمسك عن القتل ، فكان ذلك حياة له وللذي امتنع من قتله . فمشروعية القصاص مصلحة عامة ، وإبقاء القاتل ، والعفو عنه مصلحة خاصة به ، فتقدم المصلحة العامة لتعذر الجمع بينهما ، أو المعنى : ولكم في شرع القصاص حياة ، وكانت العرب إذا قتل الرجل حمي قبيلة أن تقتص منه ، فيقتتلون ، ويفضي ذلك إلى قتل عدد كثير ، فلما شرع القصاص رضوا به وسلموا القاتل للقود ، وصالحوا على الدية وتركوا القتال ، فكان لهم في ذلك حياة ، وكم قتل مهلهل بأخيه كليب حتى كاد يفني بكر بن وائل . وقيل : حياة لغير القاتل : لأنه لا يقتل غيره خلاف ما كان يفعله أهل الجاهلية . وقيل : حياة للقاتل . وقيل : حياة لارتداع من يهم به في الآخرة ، إذ استوفي منه القصاص في الدنيا ، فإنه في الآخرة لا يقتص منه ، وإن لم يقتص اقتص منه في الآخرة . فلا تحصل له تلك الحياة التي حصلت لمن اقتص منه .
وقرأ أبو الجوزاء ، أوس بن عبد الله الربعي : " ولكم في القصص " ، أي : فيما قص عليكم من حكم القتل والقصاص ، وقيل : القصص القرآن ، أي : لكم في القرآن حياة القلوب ، كقوله : ( روحا من أمرنا ) ، وكقوله : ( أومن كان ميتا فأحييناه ) . وقال ابن عطية : ويحتمل أن يكون مصدرا كالقصاص ، أي : أنه إذا قص أثر القاتل قصصا قتل كما قتل . وقال : ( الزمخشري ولكم في القصاص حياة ) كلام فصيح لما فيه من الغرابة ، وهو أن القصاص قتل وتفويت للحياة ، وقد جعل مكانا وظرفا للحياة ، ومن إصابة محز البلاغة بتعريف القصاص ، وتنكير الحياة : لأن المعنى : ولكم في هذا الجنس من الحكم الذي هو القصاص حياة عظيمة ، أو نوع من الحياة ، وهو الحياة الحاصلة بالارتداع عن القتل ، لوقوع العلم بالاقتصاص من القاتل ، انتهى كلامه .
وقالت العرب فيما يقرب من هذا المعنى : القتل أوقى للقتل ، وقالوا : أنفى للقتل ، وقالوا : أكف للقتل . وذكر العلماء تفاوت ما بين الكلامين من البلاغة من وجوه ، أحدها : أن ظاهر قول العرب يقتضي كون وجود الشيء سببا لانتفاء نفسه ، وهو محال . الثاني : تكرير لفظ القتل في جملة واحدة . الثالث : الاقتصار على أن القتل هو أنفى للقتل . الرابع : أن القتل ظلما هو قتل ، ولا يكون نافيا للقتل . وقد اندرج في قولهم : القتل أنفى للقتل ، والآية المكرمة بخلاف ذلك . أما في الوجه الأول : ففيه [ ص: 16 ] أن نوعا من القتل وهو القصاص سبب لنوع من أنواع الحياة ، لا لمطلق الحياة ، وإذا كان على حذف مضاف أي : ولكم في شرع القصاص ، اتضح كون شرع القصاص سببا للحياة . وأما في الوجه الثاني : فظاهر لعذوبة الألفاظ وحسن التركيب ، وعدم الاحتياج إلى تقدير الحذف : لأن في كلام العرب كما قلناه تكرار اللفظ ، والحذف إذا أنفى ، أو أكف ، أو أوقى ، هو أفعل تفضيل ، فلا بد من تقدير المفضل عليه أنفى للقتل من ترك القتل .
وأما في الوجه الثالث : فالقصاص أعم من القتل : لأن القصاص يكون في نفس وفي غير نفس ، والقتل لا يكون إلا في النفس ، فالآية أعم وأنفع في تحصيل الحياة . وأما في الوجه الرابع : فلأن القصاص مشعر بالاستحقاق ، فترتب على مشروعيته وجود الحياة . ثم الآية المكرمة فيها مقابلة القصاص بالحياة فهو من مقابلة الشيء بضده ، وهو نوع من البيان يسمى الطباق ، وهو شبه قوله تعالى : ( وأنه هو أمات وأحيا ) ، وهذه الجملة مبتدأ وخبر ، و " في القصاص " متعلق بما تعلق به قوله " لكم " وهو في موضع الخبر ، وتقديم هذا الخبر مسوغ لجواز الابتداء بالنكرة ، وتفسير المعنى : أنه يكون لكم في القصاص حياة ، ونبه بالنداء نداء ذوي العقول والبصائر على المصلحة العامة ، وهي مشروعية القصاص ، إذ لا يعرف كنه محصولها إلا أولو الألباب ، القائلون لامتثال أوامر الله واجتناب نواهيه ، وهم الذين خصهم الله بالخطاب : ( إنما يتذكر أولو الألباب ) ، ( لآيات لقوم يعقلون ) ، ( لآيات لأولي الألباب ) ، ( لآيات لأولي النهى ) ، ( لذكرى لمن كان له قلب ) ، وذوو الألباب هم الذين يعرفون العواقب ويعلمون جهات الخوف ، إذ من لا عقل له لا يحصل له الخوف ، فلهذا خص به ذوي الألباب .
( لعلكم تتقون ) أي : القصاص ، فتكفون عن القتل وتتقون القتل حذرا من القصاص أو الانهماك في القتل ، أو تتقون الله باجتناب معاصيه ، أو تعملون عمل أهل التقوى في المحافظة على القصاص والحكم به ، وهو خطاب له فضل اختصاص بالأئمة ، أقوال خمسة ، أولاها ما سيقت له الآية من مشروعية القصاص .