لا أرى الموت يسبق الموت شيء
وذلك لتفخيمه وتعظيمه ، وإن كان المراد بقوله : ( أياما معدودات ) أيام رمضان ، فجوزوا في إعراب " شهر " وجهين . ( أحدهما ) : أن يكون خبر مبتدأ محذوف تقديره هو شهر رمضان ، أي : المكتوب شهر [ ص: 39 ] رمضان ، قاله الأخفش ، وقدره الفراء : " ذلكم شهر " وهو قريب .
الثاني : أن يكون بدلا من قوله " الصيام " أي : كتب عليكم شهر رمضان ، قاله ، وفيه بعد لوجهين : أحدهما : كثرة الفصل بين البدل والمبدل منه ، والثاني : أنه لا يكون إذ ذاك إلا من بدل الاشتمال ، لا وهو عكس بدل الاشتمال : لأن بدل الاشتمال في الغالب يكون بالمصادر كقوله تعالى : ( الكسائي يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه ) ، وقول الأعشى :
لقد كان في حول ثواء ثويته تقضى لبانات ويسأم سائم
وهذا الذي ذكره بالعكس ، فلو كان هذا التركيب : كتب عليكم شهر رمضان صيامه ، لكان البدل إذ ذاك صحيحا وعكس ، ويمكن توجيه قول الكسائي على أن يكون على حذف مضاف ، فيكون من بدل الشيء من الشيء ، وهما لعين واحدة ، تقديره : صيام شهر رمضان ، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه ، لكن في ذلك مجاز الحذف والفصل الكثير بالجمل الكثيرة وهو بعيد ، ويجوز على بعد أن يكون بدلا من " أيام معدودات " ، على قراءة عبد الله ، فإنه قرأ : " أيام معدودات " بالرفع على أنها خبر مبتدأ محذوف ، أي : المكتوب صومه أيام معدودات . ذكر هذه القراءة الكسائي أبو عبد الله الحسين بن خالويه في كتاب ( البديع ) له في القرآن : وانتصاب " شهر رمضان " على قراءة من قرأ ذلك على إضمار فعل تقديره : صوموا شهر رمضان ، وجوزوا فيه أن يكون بدلا من قوله : ( أياما معدودات ) . قاله الأخفش ، والرماني وفيه بعد لكثرة الفصل ، وأن يكون منصوبا على الإغراء تقديره الزموا شهر رمضان ، قاله أبو عبيدة والحوفي ، ورد بأنه لم يتقدم للشهر ذكر ، وإن كان منصوبا بقوله : ( وأن تصوموا ) : حكاه ابن عطية وجوزه قال : وقرئ بالنصب على : صوموا شهر رمضان ، أو على الإبدال من : ( الزمخشري أياما معدودات ) ، أو على أنه مفعول " وأن تصوموا " ، انتهى كلامه : وهذا لا يجوز : لأن " تصوموا " صلة لأن ، وقد فصلت بين معمول الصلة وبينها بالخبر الذي هو " خير " : لأن تصوموا في موضع مبتدأ ، أي : وصيامكم خير لكم ، ولو قلت : أن يضرب زيدا شديد جاز ، وأن تضرب شديد زيدا ، لم يجز .
وأدغمت فرقة شهر رمضان . قال ابن عطية : وذلك لا تقتضيه الأصول لاجتماع الساكنين فيه ، يعني بالأصول أصول ما قرره أكثر البصريين : لأن ما قبل الراء في " شهر " حرف صحيح ، فلو كان في حرف علة لجاز بإجماع منهم ، نحو : هذا ثوب بكر : لأن فيه لكونه حرف علة مدا ما ، ولم تقصر لغة العرب على ما نقله أكثر البصريين ، ولا على ما اختاروه ، بل إذا صح النقل وجب المصير إليه .
( الذي أنزل فيه القرآن ) : تقدم إعرابه ، وظاهره أنه ظرف لإنزال القرآن ، والقرآن يعم الجميع ظاهرا ، ولم يبين محل الإنزال ، فعن أنه أنزل جميعه إلى سماء الدنيا ليلة أربع وعشرين من رمضان ، ثم أنزل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منجما . وقيل : الإنزال هنا هو على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيكون القرآن مما عبر بكله عن بعضه ، والمعنى : بدئ بإنزاله فيه على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وذلك في الرابع والعشرين من رمضان . أو تكون الألف واللام فيه لتعريف الماهية ، كما تقول : أكلت اللحم ، لا تريد استغراق الأفراد ، إنما تريد تعريف الماهية . وقيل معنى : ( ابن عباس أنزل فيه القرآن ) أن جبريل كان يعارض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في رمضان بما أنزل الله عليه ، فيمحو الله ما يشاء ويثبت ما يشاء ، قاله : فيكون الإنزال عبر به عن المعارضة . الشعبي
وقيل : أنزل في فرضية صومه القرآن ، وفي شأنه القرآن ، كما تقول : أنزل في عائشة قرآن . والقرآن الذي نزل هو قوله : ( يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام ) . قاله مجاهد ، والضحاك . وقال : في فضله ، وقيل : المعنى ( سفيان بن عيينة أنزل فيه القرآن ) أي : أنزل من اللوح المحفوظ إلى السفرة في سماء الدنيا في ليلة القدر من عشرين شهرا ، أو نزل به جبريل في عشرين سنة ، قاله مقاتل . وروى [ ص: 40 ] عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " واثلة بن الأسقع إبراهيم في أول ليلة من شهر رمضان ، والتوراة لست مضين منه ، والإنجيل لثلاث عشرة ، والقرآن لأربع وعشرين " . وفي رواية أنزلت صحف أبي ذر : " نزلت صحف إبراهيم في ثلاث مضين من رمضان ، وإنجيل عيسى في ثمانية عشر " ، والجمع بين الروايتين بأن رواية واثلة أخبر فيها عن ابتداء نزول الصحف والإنجيل ، ورواية أبي ذر أخبر فيها عن انتهاء النزول . وقرأ ابن كثير " القران " بنقل حركة الهمزة إلى الراء ، وحذف الهمزة ، وذلك في جميع القرآن سواء نكر أم عرف بالألف واللام ، أو بالإضافة ، وهذا المختار من توجيه قراءته ، وقد تقدم قول من قال : إن النون فيه مع عدم الهمز أصلية من قرنت الشيء في الشيء ضممته .