( تلك حدود الله ) ، تلك مبتدأ مخبر عنه بجمع ، فلا يجوز أن يكون إشارة إلى ما نهي عنه في الاعتكاف : لأنه شيء واحد ، بل هو إشارة إلى ما تضمنته آية الصيام من أولها إلى هنا . وكانت آية الصيام قد تضمنت عدة أوامر ، والأمر بالشيء نهي عن ضده ، فبهذا الاعتبار كانت عدة مناه ، ثم جاء آخرها النهي عن المباشرة في حالة الاعتكاف ، فأطلق على الكل " حدود " تغليبا للمنطوق به ، واعتبارا بتلك المناهي التي تضمنتها الأوامر . فقيل : " حدود الله " واحتيج إلى هذا التأويل : لأن المأمور بفعله لا يقال فيه : " فلا تقربوها " ، وحدود الله : شروطه ، قاله ، أو فرائضه ، قاله السدي . أو معاصيه ، قاله شهر بن حوشب الضحاك . وقال معناه ، قال : محارمه ومناهيه ، أو الحواجز هي الإباحة والحظر قاله الزمخشري ابن عطية . وإضافة الحدود إلى الله تعالى هنا ، وحيث ذكرت ، تدل على المبالغة في عدم الالتباس بها ، ولم تأت منكرة ولا معرفة بالألف واللام لهذا المعنى .
( فلا تقربوها ) ، النهي عن القربان للحدود أبلغ من النهي عن الالتباس بها ، وهذا كما قال - صلى الله عليه وسلم : " " . والرتع حول الحمى وقربانه واحد ، وجاء هنا : " فلا تقربوها " وفي مكان آخر : ( إن لكل ملك حمى ، وحمى الله محارمه ، فمن رتع حول الحمى يوشك أن يقع فيه فلا تعتدوها ومن يتعد حدود الله ) ، وقوله : ( ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده ) : لأنه غلب هنا جهة النهي ، إذ هو المعقب بقوله : تلك حدود الله ، وما كان منهيا عن فعله كان النهي عن قربانه أبلغ ، وأما حيث جاء " فلا تعتدوها " فجاء عقب بيان عدد الطلاق ، وذكر أحكام العدة والإيلاء والحيض ، فناسب أن ينهى عن التعدي فيها ، وهو مجاوزة الحد الذي حده الله فيها ، وكذلك قوله تعالى : ( ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده ) جاء بعد أحكام المواريث ، وذكر أنصباء الوارث ، والنظر في أموال الأيتام ، وبيان عدد ما يحل من الزوجات ، فناسب أن يذكر عقيب هذا كله التعدي ، الذي هو مجاوزة ما شرعه الله من هذه الأحكام إلى ما لم يشرعه . وجاء قوله : " تلك حدود الله " عقيب قوله : ( وصية من الله ) ، ثم وعد من أطاع بالجنة ، وأوعد من عصا وتعدى حدوده بالنار ، فكل نهي من القربان والتعدي واقع في مكان مناسبته . وقال أبو مسلم معنى " لا تقربوها " لا تتعرضوا لها بالتغيير ، كقوله : ( ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن ) .
( كذلك يبين الله آياته ) أي : مثل ذلك البيان الذي سبق ذكره في ذكر أحكام الصوم وما يتعلق به في الألفاظ اليسيرة البليغة ، يبين آياته الدالة على بقية مشروعاته ، وقال أبو مسلم : المراد بالآيات : الفرائض التي بينها ، كأنه قال كذلك يبين الله للناس ما شرعه لهم ليتقوه بأن يعملوا بما أنزل ، انتهى كلامه . وهذا لا يتأتى إلا على اعتقاد أن تكون الكاف زائدة ، وأما إن كانت للتشبيه فلا بد من مشبه ومشبه به .
( للناس ) ، ظاهره العموم ، وقال ابن عطية : معناه خصوص فيمن يسره الله للهدى ، بدلالة الآيات التي تتضمن أن الله يضل من [ ص: 55 ] يشاء ، انتهى كلامه ولا حاجة إلى دعوى الخصوص ، بل الله تعالى يبين آياته للناس ويوضحها لهم ، ويكسيها لهم حتى تصير جلية واضحة ، ولا يلزم من تبيينها تبين الناس لها : لأنك تقول : بينت له فما تبين ، كما تقول : علمته فما تعلم . ونظر ابن عطية إلى أن معنى يبين ، يجعل فيهم البيان ، فلذلك ادعى أن المعنى على الخصوص : لأن الله تعالى كما جعل في قوم الهدى ، جعل في قوم الضلال ، فعلى هذا المفهوم يلزم أن يرد الخصوص على ما قررناه ويبقى على دلالته الوضعية من العموم ، وعلى تفسيرنا التبيين يكون ذلك إجماعا منا ومن المعتزلة ، وعلى تفسيره ينازع فيه المعتزلين .
( لعلهم يتقون ) قد تقدم أنه حيث ذكر التقوى ، فإنه يكون عقب أمر فيه مشقة ، وكذلك جاء هنا : لأن منع الإنسان من أمر مشتهى بالطبع اشتهاء عظيما - بحيث هو ألذ ما للإنسان من الملاذ الجسمانية - شاق عليه ، ذلك ولا يحجزه عن معاطاته إلا التقوى ، فلذلك ختمت هذه الآية بها ، أي : هم على رجاء من حصول التقوى لهم بالبيان الذي بين الله لهم .