( وأخرجوهم من حيث أخرجوكم ) ، أي : من المكان الذي أخرجوكم منه ، يعني مكة ، وهو أمر بالإخراج أمر تمكين ، فكأنه وعد من الله بفتح مكة ، وقد أنجز ما وعد ، وقد فعل ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم فتح مكة بمن لم يسلم معهم ، و " من حيث " متعلق بقوله : " وأخرجوهم " ، وقد تصرف في " حيث " بدخول حرف الجر عليها ، كمن ، والباء ، وفي ، وبإضافة لدى إليها . وضمير النصب في " أخرجوكم " عائد على المأمورين بالقتل والإخراج ، وهو في الحقيقة عائد على بعضهم ، جعل إخراج بعضهم وهو أجلهم قدرا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والمهاجرون ، إخراجا لكلهم .
( والفتنة أشد من القتل ) ، في الفتنة هنا أقوال .
أحدها : الرجوع إلى الكفر أشد من أن يقتل المؤمن ، قاله مجاهد . وكانوا قد عذبوا نفرا من المؤمنين ليرجعوا إلى الكفر ، فعصمهم الله . والكفر بالله يقتضي العذاب دائما ، والقتل ليس كذلك ، وكان بعض الصحابة قتل في الشهر الحرام ، فاستعظم المسلمون ذلك . الثاني : الشرك ، أي : شركهم بالله أشد حرمة من القتل الذي عيروكم به في شأن ابن الحضرمي .
الثالث : هتك حرمات الله منهم أشد من القتل الذي أبيح لكم أيها المؤمنون أن توقعوه بهم .
الرابع : عذاب الآخرة لهم أشد من قتلهم المسلمين في الحرم ، ومنه : ( ذوقوا فتنتكم ) ، ( إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات ) ، أي : عذبوهم .
الخامس : الإخراج من الوطن لما فيه من مفارقة المألوف والأحباب ، وتنغيص العيش دائما ، ومنه قول الشاعر :
لموت بحد السيف أهون موقعا على النفس من قتل بحد فراق
السادس : أن يراد فتنتهم إياكم بصدكم عن المسجد الحرام ، أشد من قتلكم إياهم في الحرم ، أو من قتلهم إياكم ، إن قتلوكم فلا تبالوا بقتالهم ، قاله ، وهو راجع لمعنى القول الثالث . السابع : تعذيبهم المسلمين ليرتدوا ، قاله الزمخشري . الكسائي
وأصل الفتنة عرض الذهب على النار لاستخلاصه من الغش ، ثم صار يستعمل في الامتحان ، وإطلاقه على ما فسر به في هذه الأقوال شائع ، والفتنة والقتل مصدران لم يذكر فاعلهما ، ولا مفعولهما ، وإنما أقر أن ماهية الفتنة أشد من ماهية القتل ، فكل مكان تتحقق فيه هذه النسبة كان داخلا في عموم هذه الأخبار ، سواء كان المصدر فاعله أو مفعوله ، المؤمنون أم الكافرون ، وتعيين نوع ما من أفراد العموم يحتاج إلى دليل .
( ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه ) هو أن يبدأهم بالقتال في هذا الموطن حتى يقع ذلك منهم فيه ، قال مجاهد : وهذه الآية محكمة لا يجوز قتال أحد في المسجد الحرام إلا بعد أن يقاتل . وبه قال [ ص: 67 ] ، طاوس وأبو حنيفة : وقال الربيع : منسوخة بقوله : ( وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ) ، وقال قتادة بقوله : ( فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين ) ، والنسخ قول الجمهور ، وقد تقدم طرف من الكلام في هذا النسخ في هذه الآية . وقرأ حمزة ، والكسائي : " ولا تقتلوهم " ، وكذلك حتى يقتلوكم ، فإن قتلوكم ، من القتل ، فيحتمل المجاز في الفعل ، أي : ولا تأخذوا في قتلهم حتى يأخذوا في قتلكم ، ويحتمل المجاز في المفعول ، أي : ولا تقتلوا بعضهم حتى يقتلوا بعضكم ، فإن قتلوا بعضكم ، يقال : قتلنا بنو فلان ، يريد قتل بعضنا ، وقال : والأعمش
فإن تقتلونا نقتلكم وإن تقصدوا لدم نقصد
ونظيره : " قاتل معه ربيون كثير فما وهنوا " ، أي : قتل معهم أناس من الربيين ، فما وهن الباقون ، والعامل في عند " ولا تقاتلوهم " ، و " حتى " هنا للغاية ، وفيه متعلق بـ " يقاتلوكم " ، والضمير عائد على عند ، تعدى الفعل إلى ضمير الظرف فاحتيج في الوصول إليه إلى " في " هذا ، ولم يتسع فتعدى الفعل إلى ضمير الظرف تعديته للمفعول به الصريح ، لا يقال : إن الظرف إذا كان غير متصرف لا يجوز أن يتعدى الفعل إلى ضميره بالاتساع : لأن ظاهره لا يجوز فيه ذلك ، بل الاتساع جائز إذ ذاك . ألا ترى أنه يخالفه في جره بفي وإن كان الظاهر لا يجوز فيه ذلك ؟ فكذلك يخالفه في الاتساع . فحكم الضمير إذ ذاك ليس كحكم الظاهر .
( فإن قاتلوكم فاقتلوهم ) هذا تصريح بمفهوم الغاية ، وفيه محذوف . أي : فإن قاتلوكم فيه فاقتلوهم فيه ، ودل على إرادته سياق الكلام . ولم يختلف في قوله : " فاقتلوهم " أنه أمر بقتلهم على ذلك التقدير ، وفيه بشارة عظيمة بالغلبة عليهم ، أي : هم من الخذلان وعدم النصرة بحيث أمرتم بقتلهم لا بقتالهم ، فأنتم متمكنون منهم بحيث لا يحتاجون إلا إلى إيقاع القتل بهم ، إذا ناشبوكم القتال لا إلى قتالهم .
( كذلك جزاء الكافرين ) ، الكاف في موضع رفع : لأنها خبر عن المبتدأ الذي هو خبر الكافرين . المعنى : جزاء الكافرين مثل ذلك الجزاء ، وهو القتل ، أي : من كفر بالله تعالى فجزاؤه القتل ، وفي إضافة الجزاء إلى الكافرين إشعار بعلية القتل .
( فإن انتهوا فإن الله غفور رحيم ) ، أي : عن الكفر ، ودخلوا في الإسلام ، ولذلك علق عليه الغفران والرحمة ، وهما لا يكونان مع الكفر ( قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف ) ، وتقدم ما يدل عليه من اللفظ وهو جزاء الكافرين ، وسياق الكلام إنما هو مع الكفار ، وقيل : فإن انتهوا عن المقاتلة والشرك ، لتقدمهما في الكلام ، وهو حسن ، وقيل : عن القتال دون الكفر ، وليس الغفران لهم على هذا القول ، بل المعنى : فإن الله غفور لكم رحيم بكم : حيث أسقط عنكم تكليف قتالهم ، وقيل : الجواب محذوف ، أي : فاغفروا لهم فإن الله غفور رحيم لكم ، وعلى قول إن الانتهاء عن القتال فقط تكون الآية منسوخة ، وعلى القولين قبله تكون محكمة ، ومعنى انتهى : كف ، وهو افتعل من النهي ، ومعناه فعل الفاعل بنفسه ، وهو نحو قولهم اضطرب ، وهو أحد المعاني التي جاءت لها افتعل . قالوا : وفي قوله : ( فإن انتهوا فإن الله غفور رحيم ) دلالة على قبول توبة قاتل العمد ، إذ كان الكفر أعظم مأثما من القتل ، وقد أخبر تعالى أنه يقبل التوبة من الكفر .