والشهر ، مبتدأ وخبره الجار والمجرور بعده ، ولا يصح من حيث اللفظ أن يكون خبرا ، فلا بد من حذف ، والتقدير : انتهاك حرمة الشهر الحرام ، كائن بانتهاك حرمة الشهر الحرام : والألف واللام في الشهر ، في اللفظ هي للعهد ، فالشهر الأول هو ذو القعدة من سنة سبع في عمرة القضاء ، والشهر الثاني هو من سنة ست عام الحديبية ، ( والحرمات قصاص ) ، والألف واللام للعهد في الحرمات ، أي : حرمة الشهر وحرمة المحرمين حين صددتم بحرمة البلد ، والشهر ، والقتال حين دخلتم . وهذا التفسير على السبب المنقول عن ومن معه ، وأما على السبب المنقول عن ابن عباس الحسن ، فتكون الألف واللام للعموم في النفس والمال والعرض ، أي : وكل حرمة يجري فيها القصاص ، فيدخل في ذلك تلك الحرمات السابقة وغيرها ، وقيل : ( والحرمات قصاص ) جملة مقطوعة مما قبلها ليست في أمر الحج والعمرة ، بل هو ابتداء أمر كان في أول الإسلام ، أي : من انتهك حرمتك نلت منه مثل ما اعتدى عليك به ، ثم نسخ ذلك بالقتال . وقالت طائفة : ما كان من تعد في مال أو جرح لم ينسخ ، وله أن يتعدى عليه من ذلك بمثل ما تعدى عليه ، ويخفي ذلك إذا أمكنه دون الحاكم ولا يأثم بذلك ، وبه قال ، وهي رواية في مذهب الشافعي مالك . وقالت طائفة ، منهم مالك : القصاص وقف على الحكام فلا يستوفيه إلا هم . وقرأ الحسن : " والحرمات " بإسكان الراء على الأصل ، إذ هو جمع حرمة ، والضم في الجمع اتباع .
( فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم ) ، هذا مؤكد لما قبله من قوله : ( والحرمات قصاص ) ، وقد اختلف فيها : أهي منسوخة أم لا ؟ [ ص: 70 ] على ما تقدم من مذهب ومذهب الشافعي مالك . وقال : نزلت هذه الآية وما بمعناها ابن عباس بمكة ، والإسلام لم يعز ، فلما هاجر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعز دينه ، أمر المسلمون برفع أمورهم إلى حكامهم ، وأمروا بقتال الكفار . وقال مجاهد : بل نزلت هذه الآية بالمدينة بعد عمرة القضاء ، وهو من التدريج في الأمر بالقتال .
وقوله : ( فاعتدوا ) ليس أمرا على التحتم إذ يجوز العفو ، وسمي ذلك اعتداء على سبيل المقابلة ، والباء في " بمثل " متعلقة بقوله : " فاعتدوا عليه " ، والمعنى : بعقوبة مثل جناية اعتدائه ، وقيل : الباء زائدة ، أي : مثل اعتدائه ، وهو نعت لمصدر محذوف ، أي : اعتداء مماثلا لاعتدائه . ( واتقوا الله ) أمر بتقوى الله فيدخل فيه اتقاؤه بأن لا يتعدى الإنسان في القصاص إلى ما لا يحل له .
( واعلموا أن الله مع المتقين ) بالنصرة والتمكين والتأييد ، وجاء بلفظ " مع " الدالة على الصحبة والملازمة : حضا على الناس بالتقوى دائما ، إذ من كان الله معه فهو الغالب المنتصر ، ألا ترى إلى ما جاء في الحديث : " " ، أو كلاما هذا معناه ، وكذلك قوله ارموا وأنا مع بني فلان " ، فأمسكوا ، فقال : " ارموا وأنا معكم كلكم لحسان : " " . ( اهجهم وروح القدس معك وأنفقوا في سبيل الله ) ، هذا أمر بالإنفاق في طريق الإسلام ، فكل ما كان سبيلا لله وشرعا له كان مأمورا بالإنفاق فيه : وقيل : معناه الأمر بالإنفاق في أثمان آلة الحرب ، وقيل : على المقلين من المجاهدين ، قاله ، قال : نزلت في أناس من الأعراب سألوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالوا : بماذا نتجهز ؟ فوالله ما لنا زاد ، وقيل : في الجهاد على نفسه وعلى غيره ، وقيل : المعنى ابذلوا أنفسكم في المجاهدة في سبيل الله . ابن عباس
وسمي بذل النفس في سبيل الله إنفاقا مجازا واتساعا ، كقول الشاعر :
وأنفقت عمري في البطالة والصبا فلم يبق لي عمر ولم يبق لي أجر
والأظهر القول الأول ، وهو الأمر بصرف المال في وجوه البر من حج ، أو عمرة ، أو جهاد بالنفس ، أو بتجهيز غيره ، أو صلة رحم ، أو صدقة ، أو على عيال ، أو في زكاة ، أو كفارة ، أو عمارة سبيل ، أو غير ذلك .
ولما اعتقبت هذه الآية لما قبلها مما يدل على القتال والأمر به ، تبادر إلى الذهن النفقة في الجهاد للمناسبة .
( ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة ) ، قال عكرمة : نزلت في الأنصار ، أمسكوا عن النفقة في سبيل الله ، وقال : كان الرجل يذنب الذنب فيقول : لا يغفر الله لي ، فنزلت . النعمان بن بشير
وفي حديث طويل تضمن أن رجلا من المسلمين حمل على صف الروم ، ودخل فيهم وخرج ، فقال الناس : ألقى بنفسه إلى التهلكة ، فقال : تأولتم الآية على غير تأويلها ، وما أنزلت هذه الآية إلا فينا معشر أبو أيوب الأنصاري الأنصار ، لما أعز الله دينه قلنا : لو أقمنا نصلح ما ضاع من أموالنا ، فنزلت . وفي تفسير التهلكة أقوال .
أحدها : ترك الجهاد والإخلاد إلى الراحة وإصلاح الأموال ، قاله أبو أيوب .
الثاني : ترك النفقة في سبيل الله خوف العيلة ، قاله حذيفة ، ، وابن عباس والحسن ، وعطاء ، وعكرمة ، . وابن جبير
الثالث : التقحم في العدو بلا نكاية ، قاله أبو القاسم البلخي .
الرابع : التصدق بالخبيث ، قاله عكرمة .
الخامس : الإسراف بإنفاق كل المال ، قال تعالى : ( والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا ) ، ( ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط ) ، قاله أبو علي .
السادس : الانهماك في المعاصي ليأسه من قبول توبته ، قاله البراء ، . وعبيدة السلماني
السابع : القنوط من التوبة ، قاله قوم .
الثامن : السفر للجهاد بغير زاد ، قاله ، وقد كان فعل ذلك قوم فأداهم إلى الانقطاع في الطريق ، أو إلى كونهم عالة على الناس . زيد بن أسلم
التاسع : إحباط الثواب ، إما بالمن ، أو الرياء والسمعة ، كقوله : ( ولا تبطلوا أعمالكم ) .
وهذه الأقوال كلها تحتمل هذه الآية . والظاهر أنهم نهوا عن كل ما يئول بهم إلى الهلاك في غير طاعة الله تعالى ، فإن الجهاد [ ص: 71 ] في سبيل الله مفض إلى الهلاك ، وهو القتل ، ولم ينه عنه ، بل هو أمر مطلوب موعود عليه بالجنة ، وهو من أفضل الأعمال المتقرب بها إلى الله تعالى ، وقد ود ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو أن يقتل في سبيل الله ثم يحيا ، فيقاتل فيقتل ، أو كما جاء في الحديث : ويقال : ألقى بيده في كذا ، وإلى كذا ، إذا استسلم : لأن المستسلم في القتال يلقي سلاحه بيديه ، وكذا على كل عاجز في أي فعل كان ، ومنه قول عبد المطلب : والله إن إلقاءنا بأيدينا للموت لعجز .
وألقى يتعدى بنفسه ، كما قال تعالى : ( فألقى موسى عصاه ) ، وقال الشاعر :
حتى إذا ألقت يدا في كافر وأجن عورات الثغور ظلامها
وجاء مستعملا بالباء كهذه الآية ، وكقول الشاعر :
وألقى بكفيه الفتي استكانة من الجوع وهنا ما يمر وما يحلي
وإذا كان ألقى على هذين الاستعمالين ، فقال أبو عبيدة وقوم : الباء زائدة ، التقدير : ولا تلقوا أيديكم إلى التهلكة ، ويكون عبر باليد عن النفس ، كأنه قيل : ولا تلقوا أنفسكم إلى التهلكة . وقد زيدت الباء في المفعول كقوله :
سود المحاجر لا يقرأن بالسور
أي : لا يقرأن السور ، إلا أن زيادة الباء في المفعول لا ينقاس ، وقيل : مفعول ألقى محذوف ، التقدير : ولا تلقوا أنفسكم بأيديكم إلى التهلكة ، وتتعلق الباء بتلقوا ، وتكون الباء للسبب ، كما تقول : لا تفسد حالك برأيك .
والذي نختاره في هذا أن المفعول في المعنى هو " بأيديكم " لكنه ضمن " ألقى " معنى ما يتعدى بالباء ، فعداه بها ، كأنه قيل : ولا تفضوا بأيديكم إلى التهلكة . كقوله : أفضيت بجنبي إلى الأرض أي : طرحت جنبي على الأرض ، ويكون إذ ذاك قد عبر عن الأنفس بالأيدي : لأن بها الحركة والبطش والامتناع ، فكأنه يقول : إن الشيء الذي من شأنه أن يمتنع به من الهلاك ، ولا يهمل ما وضع له ، ويفضى به إلى الهلاك . وتقدمت معاني أفعل في أول البقرة ، وهي أربعة وعشرون معنى ، وعرضتها على لفظ " ألقى " فوجدت أقرب ما يقال فيه أن أفعل للجعل ، على ما استقرأه التصريفيون ، تنقسم إلى ثلاثة أقسام .
القسم الأول : أن تجعله كقولك أخرجته ، أي : جعلته يخرج ، فتكون الهمزة في هذا النوع للتعدية .
القسم الثاني : أن تجعله على صفة ، كقوله : أطردته ، فالهمزة فيه ليست للتعدية : لأن الفعل كان متعديا دونها ، وإنما المعنى : جعلته طريدا . والقسم الثالث : أن تجعله صاحب شيء بوجه ما ، فمن ذلك : أشفيت فلانا ، جعلت له دواء يستشفى به ، وأسقيته : جعلته ذا ماء يسقي به ما يحتاج إلى السقي . ومن هذا النوع أقبرته ، وأنعلته ، وأركبته ، وأخدمته ، وأعبدته : جعلت له قبرا ، ونعلا ، ومركوبا ، وخادما ، وعبدا .
فأما " ألقى " فإنها من القسم الثاني ، فمعنى : ألقيت الشيء : جعلته لقيا ، واللقي فعيل بمعنى مفعول ، كما أن الطريد فعيل بمعنى مفعول ، فكأنه قيل : لا تجعلوا أنفسكم لقيا إلى التهلكة فتهلك . وقد حام نحو هذا المعنى الذي أيدناه فلم ينهض بتخليصه ، فقال : الباء في " بأيديكم " مثلها في أعطى بيده للمنقاد ، والمعنى : ولا تقبضوا التهلكة أيديكم ، أي : لا تجعلوها آخذة بأيديكم ، مالكة لكم ، انتهى كلامه . الزمخشري
وفي كلامه أن الباء مزيدة ، وقد ذكرنا أن ذلك لا ينقاس . ( وأحسنوا ) هذا أمر بالإحسان ، والأولى حمله على طلب الإحسان من غير تقييد بمفعول معين . وقال عكرمة : المعنى : وأحسنوا الظن بالله ، وقال : وأحسنوا بالإنفاق في سبيل الله ، وفي الصدقات . وقيل : وأحسنوا في أعمالكم بامتثال الطاعات ، قال ذلك بعض الصحابة . قيل وأحسنوا معناه : جاهدوا في سبيل الله ، والمجاهد محسن . زيد بن أسلم
( إن الله يحب المحسنين ) هذا تحريض على الإحسان : لأن فيه إعلاما بأن الله يحب من الإحسان صفة له ، ومن أحبه الله لهذا الوصف فينبغي أن يقوم وصف الإحسان به دائما : بحيث لا يخلو منه محبة الله دائما .