وهل أنا إلا من غزية إن غوت غويت ، وإن ترشد غزية أرشد
و " ينظرون " هنا معناه : ينتظرون ، تقول العرب : نظرت فلانا أنتظره ، وهو لا يتعدى لواحد بنفسه إلا بحرف جر . قال امرؤ القيس :
فإنكما إن تنظراني ساعة من الدهر تنفعني لدى أم جندب
ومفعول " ينظرون " هو ما بعد إلا ، أي : ما ينتظرون إلا إتيان الله ، وهو استثناء مفرغ . قيل : وينظرون هنا ليست من النظر الذي هو تردد العين في المنظور إليه : لأنه لو كان من النظر لعدي بإلى ، وكان مضافا إلى الوجه ، وإنما هو من الانتظار ، انتهى . وهذا التعليل ليس بشيء : لأنه يقال هو من النظر ، وهو تردد العين . وهو معدى بإلى ، لكنها محذوفة ، والتقدير : هل ينظرون إلا إلى أن يأتيهم الله ؟ وحذف حرف الجر مع " أن " إذا لم يلبس قياس مطرد ، ولا لبس هنا ، فحذفت إلى ، وقوله : وكان مضافا إلى الوجه يشير إلى قوله : ( وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة ) ، فكذلك ليس بلازم ، قد نسب النظر إلى الذوات كثيرا ، كقوله : ( أفلا ينظرون إلى الإبل ) ، ( أرني أنظر إليك ) ، والضمير في " ينظرون " عائد على الذالين ، وهو التفات من ضمير الخطاب إلى ضمير الغيبة .
والإتيان : حقيقة في الانتقال من حيز إلى حيز ، وذلك مستحيل بالنسبة إلى الله تعالى ، فروى أبو صالح عن : إن هذا من المكتوم الذي لا يفسر ، ولم يزل السلف في هذا وأمثاله يؤمنون ، ويكلون فهم معناه إلى علم المتكلم به ، وهو الله تعالى . والمتأخرون تأولوا الإتيان وإسناده على وجوه : ابن عباس
أحدها : أنه إتيان على ما يليق بالله تعالى من غير انتقال . الثاني : أنه عبر به عن المجازاة لهم ، والانتقام ، كما قال : ( فأتى الله بنيانهم من القواعد ) ، ( فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا ) . الثالث : أن يكون متعلق الإتيان محذوفا ، أي : أن يأتيهم الله بما وعدهم من الثواب ، والعقاب ، قاله . الرابع : أنه على حذف مضاف ، التقدير : أمر الله بمعنى ما يفعله الله بهم ، لا الأمر الذي مقابله النهي ، ويبينه قوله بعد : ( الزجاج وقضي الأمر ) . الخامس : قدرته ، ذكره عن القاضي أبو يعلى أحمد . السادس : أن " في ظلل " بمعنى بظلل ، فيكون " في " بمعنى الباء ، كما قال :
خبيرون في طعن الأباهر والكلى
أي : بطعن : لأن خبيرا لا يتعدى إلا بالباء ، كما قال :
خبير بأدواء النساء طبيب
قال وغيره . والأولى أن يكون المعنى : أمر الله ، إذ قد صرح به في قوله : ( الزجاج أو يأتي أمر ربك ) ، وتكون عبارة عن بأسه وعذابه : لأن هذه الآية إنما جاءت مجيء التهديد والوعيد ، وقيل : المحذوف آيات الله ، فجعل مجيء آياته مجيئا له على التفخيم لشأنها ، قاله في ( المنتخب ) . ونقل عن أنه قال : يأتيهم بمحاسبتهم على الغمام على عرشه تحمله ثمانية من الملائكة ، وقيل : الخطاب مع ابن جرير اليهود ، وهم مشبهة ، ويدل على أنه مع اليهود قوله بعد : ( سل بني إسرائيل ) ، وإذا كان كذلك فالمعنى : أنهم لا يقبلون ذلك إلا أن يأتيهم الله ، فالآية على ظاهرها ، إذ المعنى : أن قوما ينتظرون إتيان الله ، ولا يدل ذلك على أنهم محقون ولا مبطلون . ( في ظلل من الغمام ) تقدم الكلام على ذلك في قوله : ( وظللنا عليكم الغمام ) ، ويستحيل على الذات المقدسة أن تحل في ظلة ، وقيل : المقصود تصوير عظمة يوم القيامة وحصولها وشدتها : لأنه لا شيء أشد على المذنبين ، وأهول من وقت جمعهم وحضور أمهر الحكام وأكثرهم هيبة لفصل الخصومة ، فيكون هذا من باب التمثيل ، وإذا فسر بأن عذاب الله يأتيهم في ظلل من الغمام ، فكان ذلك : لأنه أعظم ، أو يأتيهم الشر من جهة الخير ، لقوله : [ ص: 125 ] ( هذا عارض ممطرنا بل هو ما استعجلتم به ريح فيها عذاب أليم ) : ولأنه إذا كان ذلك يوم القيامة ، فهو علامة لأشد الأهوال في ذلك اليوم ، قال الله تعالى : ( ويوم تشقق السماء بالغمام ) : ولأن الغمام ينزل قطرات غير محدودة ، فكذلك العذاب غير محصور ، وقيل : إن العذاب لا يأتي في الظلل ، بل المعنى تشبيه الأهوال بالظلل من الغمام ، كما قال : ( وإذا غشيهم موج كالظلل ) ، فالمعنى أن عذاب الله يأتيهم في أهوال عظيمة ، كظلل الغمام . واختلفوا في هذا التوعد ، فقال : هو توعد بما يقع في الدنيا ، وقال قوم : بل توعد بيوم القيامة . وقرأ ابن جريج أبي ، وعبد الله ، وقتادة ، والضحاك : " في ظلال " ، وكذلك روى هارون بن حاتم ، عن أبي بكر ، عن عاصم هنا وفي الحرفين في الزمر ، وهي جمع ظلة ، نحو قلة وقلال ، وهو جمع لا ينقاس ، بخلاف ظلل ، فإنه جمع منقاس ، أو جمع ظل نحو ضل وضلال . و " في ظلل " متعلق بـ " يأتيهم " ، وجوزوا أن يكون حالا فيتعلق بمحذوف ، و " من الغمام " في موضع الصفة لظلل ، وجوزوا أن يتعلق بـ " يأتيهم " ، أي من ناحية الغمام ، فتكون " من " لابتداء الغاية ، وعلى الوجه الأول تكون للتبعيض ، وقرأ الحسن ، وأبو حيوة ، وأبو جعفر : والملائكة ، بالجر عطفا على " في ظلل " أو عطفا على الغمام ، فيختلف تقدير حرف الجر ، إذ على الأول التقدير : وفي الملائكة ، وعلى الثاني التقدير : ومن الملائكة . وقرأ الجمهور بالرفع عطفا على " الله " ، وقيل : في هذا الكلام تقديم وتأخير ، فالإتيان في الظلل مضاف إلى الملائكة ، والتقدير : إلا أن يأتيهم الله والملائكة في ظلل ، فالمضاف إلى الله تعالى هو الإيتان فقط ، ويؤيد هذا قراءة عبد الله : " إلا أن يأتيهم الله والملائكة في ظلل " .
( وقضي الأمر ) ، معناه : وقع الجزاء وعذب أهل العصيان ، وقيل : أتم أمر هلاكهم وفرغ منه ، وقيل : فرغ من وقت الانتظار ، وجاء وقت المؤاخذة ، وقيل : فرغ لهم مما يوعدون به إلى يوم القيامة ، وقيل : فرغ من الحساب ووجب العذاب . وهذه أقوال متقاربة . ( وقضي الأمر ) ، معطوف على قوله " يأتيهم " ، فهو من وضع الماضي موضع المستقبل ، وعبر بالماضي عن المستقبل : لأنه كالمفروغ منه الذي وقع ، والتقدير : ويقضى الأمر ، ويحتمل أن يكون هذا إخبارا من الله تعالى ، أي : فرغ من أمرهم بما سبق في القدر ، فيكون من عطف الجمل لا أنه في حيز ما ينتظر . وقرأ : " وقضاء الأمر " ، قال : قال معاذ بن جبل : على المصدر المرفوع عطفا على الملائكة ، وقال غيره بالمد والخفض عطفا على الملائكة ، وقيل : ويكون " في " على هذا بمعنى الباء ، أي : بظلل من الغمام ، وبالملائكة ، وبقضاء الأمر . وقرأ الزمخشري يحيى بن معمر : وقضي الأمور ، بالجمع ، وبني الفعل للمفعول وحذف الفاعل للعلم به : ولأنه لو أبرز وبني الفعل للفاعل لتكرر الاسم ثلاث مرات .