( كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون في الدنيا والآخرة ) ، الكاف للتشبيه وهي في موضع نعت لمصدر محذوف ، أو في موضع الحال على مذهب ، أي : تبيينا مثل ذلك يبين ، أو في حال كونه منها ذلك التبيين يبينه ، أي : يبين التبيين مماثلا لذلك التبيين ، واسم الإشارة الأقرب أن يعود إلى الأقرب من تبينه حال المنفق ، قاله سيبويه . وقال ابن الأنباري : ما يؤول إليه وهو تبيين أن العفو أصلح من الجهد في النفقة أو حكم الخمر والميسر ، والإنفاق القريب . أي : مثل ما يبين في هذا يبين في المستقبل ، والمعنى : أنه يوضح الآيات مثل ما أوضح هذا ، ويجوز أن يشار به إلى بيان ما سألوا عنه ، فبين لهم كتبيين مصرف ما ينفقون ، وتبيين ما ترتب عليه من الجزاء الدال عليه علم الله في قوله : ( فإن الله به عليم ) ، وتبيين حكم القتال ، وتبيين حاله في الشهر الحرام ، وما تضمنته الآية التي ذكر فيها القتال في الشهر الحرام ، وتبيين حال الخمر والميسر ، وتبيين مقدار ما ينفقون . وأبعد من خص اسم الإشارة ببيان حكم الخمر والميسر فقط ، وأبعد من ذلك من جعله إشارة إلى بيان ما سبق في السورة من الأحكام . وكاف الخطاب إما أن تكون للنبي - صلى الله عليه وسلم - أو للسامع أو للقبيل ؛ فلذلك أفرد ، أو لجماعة المؤمنين فيكون بمعنى " كذلكم " وهي لغة العرب يخاطبون الجمع بخطاب الواحد ، وذلك في اسم الإشارة ، ويؤيد هذا هنا قوله : ( يبين لكم ) ، فأتى بضمير الجمع فدل على أن الخطاب للجمع . ( لكم ) متعلق بـ " يبين " ، واللام فيها للتبليغ ، كقولك : قلت لك ، ويبعد فيها التعليل ، والآيات : العلامات والدلائل ، لعلكم تتفكرون : ترجئة للتفكر تحصل عند تبيين الآيات ؛ لأنه متى كانت الآية مبينة وواضحة لا لبس فيها ؛ ترتب عليها التفكر والتدبر فيما جاءت له تلك الآية الواضحة من أمر الدنيا وأمر الآخرة . و ( في الدنيا والآخرة ) ، الأحسن أن يكون ظرفا للتفكر ومتعلقا به ، ويكون توضيح الآيات لرجاء التفكر في أمر الدنيا والآخرة مطلقا ، لا بالنسبة إلى شيء مخصوص من أحوالها ، بل ليحصل التفكر فيما يعن من أمرهما ، وهذا ذكر معناه أولا الزمخشري فقال " تتفكرون " فيما يتعلق [ ص: 160 ] بالدارين ، فتأخذون بما هو أصلح لكم ، وقيل : تتفكرون في أوامر الله ونواهيه ، وتستدركون طاعته في الدنيا ، وثوابه في الآخرة ، وقال الزمخشري : تتفكرون في أمر النفقة في الدنيا والآخرة ، فتمسكون من أموالكم ما يصلحكم في معاش الدنيا ، وتنفقون الباقي فيما ينفعكم في العقبى ، وقيل : تتفكرون في زوال الدنيا وبقاء الآخرة ؛ فتعملون للباقي منهما . قال معناه المفضل بن سلمة ابن عباس ، وقيل : تتفكرون في منافع الخمر في الدنيا ، ومضارها في الآخرة ؛ فلا تختاروا النفع العاجل على النجاة من العقاب المستمر ، وقال قريبا منه والزمخشري ، وقيل : تتفكرون في الدنيا فتمسكون ، وفي الآخرة فتتصدقون . وجوزوا أن يكون " في الدنيا " متعلقا بقوله " يبين لكم " الآيات ، لا بـ " تتفكرون " ، ويتعلق بلفظ " يبين " أي : يبين الله في الدنيا والآخرة . وروي هذا عن الحسن . ولا بد من تأويل على هذا إن كان التبيين للآيات يقع في الدنيا ؛ فيكون التقدير في أمر الدنيا والآخرة ، وإن كان يقع فيهما فلا يحتاج إلى تأويل ؛ لأن الآيات - وهي العلامات - يظهرها الله تعالى في الدنيا والآخرة . وجعل بعضهم هذا القول من باب التقديم والتأخير ؛ إذ تقديره عنده : " كذلك يبين الله لكم الآيات في الدنيا والآخرة لعلكم تتفكرون " ، قال : ويمكن الحمل على ظاهر الكلام ؛ لتعلق " في الدنيا والآخرة " بـ " تتفكرون " ، ففرض التقديم والتأخير ، على ما قاله الحسن ، يكون عدولا عن الظاهر لا الدليل ، وإنه لا يجوز ، وليس هذا من باب التقديم والتأخير ؛ لأن " لعل " هنا جارية مجرى التعليل ، فهي كالمتعلقة بـ " يبين " ، وإذا كانت كذلك فهي والظرف من مطلوب " يبين " ، وتقدم أحد المطلوبين وتأخر الآخر ، لا يكون ذلك من باب التقديم والتأخير . ويحتمل أن تكون " لعلكم تتفكرون " جملة اعتراضية ؛ فلا يكون ذلك من باب التقديم والتأخير ؛ لأن شرط جملة الاعتراض أن تكون فاصلة بين متقاضيين . قال الزمخشري ابن عطية ، وقال : معنى الآية أنه يبين للمؤمنين آيات في الدنيا والآخرة ، يدل عليهما وعلى منزلتهما ، لعلكم تتفكرون في تلك الآيات . قال مكي ابن عطية : فقوله " في الدنيا " متعلق على هذا التأويل بالآيات ، انتهى كلامه . وشرح الآية بأن جعل الآيات منكرة ، حتى يجعل الظرفين صفة للآيات ، والمعنى عنده : آيات كائنة في الدنيا والآخرة ، وهو شرح معنى لا شرح إعراب ، وما ذكره مكي ابن عطية من أنه متعلق على هذا التأويل بالآيات ، إن عنى ظاهر ما يريده النحاة بالتعلق فهو فاسد ؛ لأن الآيات لا يتعلق بها جار ومجرور ، ولا تعمل في شيء البتة ، وإن عنى أنه يكون الظرف من تمام الآيات ، وذلك لا يتأتى إلا باعتقاد أن تكون في موضع الحال ، أي : كائنة في الدنيا والآخرة ؛ ولذلك فسره بما يقتضي أن تكون صفة ، إذ قدر الآيات منكرة ، والحال والصفة سواء في أن العامل فيهما محذوف إذا كانا ظرفين أو مجرورين ، فعلى هذا تكون " في الدنيا " متعلقا بمحذوف لا بالآيات ، وعلى رأي مكي الكوفيين تكون الآيات موصولا وصل بالظرف ؛ ولتقرير مذهبهم ورده موضع غير هذا .