( لمن أراد أن يتم الرضاعة ) ، هذا يدل على أن الإرضاع في الحولين ليس بحد لا يتعدى ، وإنما ذلك لمن أراد الإتمام ، أما من لا يريده فله فطم الولد دون بلوغ ذلك ، إذا لم يكن فيه ضرر للولد ، وروي عن قتادة أنه قال : تضمنت فرض الإرضاع على الوالدات ، ثم يسر ذلك وخفف ، فنزل : ( لمن أراد أن يتم الرضاعة ) . قال ابن عطية : وهذا قول متداع . قال الراغب : وفي قوله : ( حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة ) تنبيه على أنه لا يجوز تجاوز ذلك ، وأن لا حكم للرضاع بعد الحولين ، وتقوية لإرضاع بعد الحولين ، والرضاعة من المجاعة ، ويؤكده أن كل حكم في الشرع علق بعدد مخصوص يجوز الإخلال به في أحد الطرفين ، لم يجز الإخلال به في الطرف الآخر ، كخيار الثلاث ، وعدد حجارة الاستنجاء ، والمسح على الخفين يوما وليلة وثلاثة أيام ، ولما كان الرضاع يجوز الإخلال في أحد الطرفين - وهو النقصان - لم تجز مجاوزته . انتهى كلامه . وقال غيره : ذكر الحولين ليس على التوقيت الواجب ، وإنما هو لقطع المشاجرة بين الوالدين . وجمهور الفقهاء على أنه يجوز إذا رأيا ذلك . واللام في " لمن " قيل متعلقة بـ " يرضعن " ، كما تقول : أرضعت فلانة لفلان ولده ، وتكون اللام على هذا للتعليل ، أي : لأجله ؛ فتكون " من " واقعة على الأب ، كأنه قيل : لأجل من أراد أن يتم الرضاعة على الآباء ، وقيل : اللام للتبيين ؛ فيتعلق بمحذوف ، كهي في قولهم : سقيا لك ، وفي قوله تعالى : ( الزيادة والنقصان هيت لك ) ، فاللام لتبيين المدعو له بالسقي ، وللمهيت به ، وذلك أنه لما قدم قوله : ( يرضعن أولادهن حولين كاملين ) ؛ بين أن هذا الحكم إنما هو لمن يريد أن يتم الرضاعة من الوالدات ، فتكون " من " واقعة على الأم ، كأنه قيل : ( لمن أراد أن يتم الرضاعة ) من الوالدات . أو تكون " من " واقعة على الوالدات والمولود له ، كل ذلك يحتمله اللفظ . وقرأ الجمهور : " أن يتم الرضاعة " [ ص: 213 ] بالياء ، من أتم ، ونصب الرضاعة . وقرأ مجاهد ، والحسن ، وحميد ، وابن محيص ، وأبو رجاء : " تتم " بالتاء ، من تم ، ورفع الرضاعة . وقرأ أبو حنيفة ، ، وابن أبي عبلة والجارود بن أبي سبرة كذلك ، إلا أنهم كسروا الراء من الرضاعة ، وهي لغة ، كالحضارة والحضارة ، والبصريون يقولون بفتح الراء مع الهاء ، وبكسرها دون الهاء ، والكوفيون يعكسون ذلك ، وروي عن مجاهد أنه قرأ : " الرضعة " على وزن " القصعة " ، وروي عن أنه قرأ : " أن يكمل الرضاعة " بضم الياء ، وقرئ : " أن يتم " برفع الميم ، ونسبها النحويون إلى ابن عباس مجاهد ، وقد جاز رفع الفعل بعد " أن " في كلام العرب في الشعر . أنشد الفراء رحمه الله تعالى :
أن تهبطين بلاد قو م يرتعون من الطلاح
وقال آخر :
أن تقرآن على أسماء ويحكما مني السلام وأن لا تبلغا أحدا
وهذا عند البصريين هي الناصبة للفعل المضارع ، وترك إعمالها حملا على " ما " أختها في كون كل منهما مصدرية ، وأما الكوفيون فهي عندهم المخففة من الثقيلة ، وشذ وقوعها موقع الناصبة ، كما شذ وقوع الناصبة موقع المخففة في قول جرير :
نرضى عن الله أن الناس قد علموا أن لا يدانينا من خلقه بشر
والذي يظهر أن إثبات النون في المضارع المذكور مع " أن " مخصوص بضرورة الشعر ، ولا يحفظ " أن " غير ناصبة إلا في هذا الشعر ، والقراءة المنسوبة إلى مجاهد ، وما سبيله هذا ، لا تبنى عليه قاعدة . ( وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف ) ، المولود : جنس ، واللام فيه موصولة وصلت باسم المفعول و " أل " كـ " من " ، و " ما " يعود الضمير على اللفظ مفردا مذكرا ، ويجوز أن يعود على المعنى بحسب ما تريده من المعنى من تثنية أو جمع أو تأنيث ، وهنا عاد الضمير على اللفظ ، فجاء له . ويجوز في العربية أن يعود على المعنى ؛ فكان يكون " لهم " ، إلا أنه لم يقرأ به ، والمفعول الذي لم يسم فاعله هو الجار والمجرور ، وحذف الفاعل - وهو " الوالدات " - والمفعول به - وهو الأولاد - وأقيم الجار والمجرور مقام الفاعل ، وهذا على مذهب البصريين ، أعني : أن يقام الجار مقام الفاعل إذا حذف ، نحو : مر بزيد . وذهب الكوفيون إلى أن ذلك لا يجوز إلا فيما حرف الجر فيه زائد ، نحو : ما ضرب من أحد ، فإن كان حرف الجر غير زائد لم يجز ذلك عندهم ، ولا يجوز أن يكون الاسم المجرور في موضع رفع باتفاق منهم . واختلفوا بعد هذا الاتفاق في الذي أقيم مقام الفاعل ؛ فذهب الفراء إلى أن حرف الجر وحده في موضع رفع ، كما أن : يقوم من " زيد يقوم " ، في موضع رفع ، وذهب الكسائي وهشام إلى أن مفعول الفعل ضمير مبهم مستتر في الفعل ، وإبهامه من حيث إنه يحتمل أن يراد به ما يدل عليه الفعل من مصدر ، أو ظرف زمان ، أو ظرف مكان ، ولم يقم الدليل على أن المراد به بعض ذلك دون بعض ، ومنهم من ذهب إلى أن مرفوع الفعل ضمير عائد على المصدر ، والتقدير : سير هو ، يريد : أي سير السير ، والضمير يعود على المصدر المفهوم من الفعل ، وهذا سائغ عند بعض البصريين ، وممنوع عند محققي البصريين ، والنظر في دلائل هذه المذاهب تصحيحا وإبطالا يذكر في عالم النحو . وقد وهم بعض كبرائنا فذكر في كتابه المسمى بـ ( الشرح الكبير لجمل الزجاجي ) أن النحويين أجمعوا على جواز إقامة المجرور مقام الفاعل إلا السهيلي ؛ فإنه منع ذلك ، وليس كما ذكر ؛ إذ قد ذكرنا الخلاف عن الفراء ، ، والكسائي وهشام ، والتفصيل في المجرور . وممن تبع السهيلي على قوله : تلميذه أبو علي الزيدي شارح ( الجمل ) . و " المولود له " : هو الوالد ، وهو الأب ، ولم يأت بلفظ الوالد ، ولا بلفظ الأب ، بل جاء بلفظ " المولود له " ، لما في ذلك من إعلام الأب ما منح الله له وأعطاه ؛ إذ [ ص: 214 ] اللام في " له " معناها شبه التمليك ، كقوله تعالى : ( وجعل لكم من أزواجكم بنين وحفدة ) ، وهو أحد المعاني التي ذكرناها في اللام في أول الفاتحة ؛ ولذلك يتصرف الوالد في ولده بما يختار ، وتجد الولد في الغالب مطيعا لأبيه ، ممتثلا ما أمر به ، منفذا ما أوصى به ، فالأولاد في الحقيقة هم للآباء ، وينتسبون إليهم لا إلى أمهاتهم ، كما أنشد ، وكانت أمه جارية طباخة تدعى المأمون بن الرشيد مراجل ، قال :
فإنما أمهات الناس أوعية مستودعات وللأبناء آباء
فلما كان لفظ " المولود " مشعرا بالمنحة وشبه التمليك ، أتى به دون لفظ " الولد " ولفظ " الأب " ، وحيث لم يرد هذا المعنى أتى بلفظ " الوالد " ولفظ " الأب " ، كما قال تعالى : ( لا يجزي والد عن ولده ) ، وقال : ( لا جناح عليهن في آبائهن ) . ولطيفة أخرى في قوله : ( وعلى المولود له ) ، وهو أنه لما كلف بمؤن المرضعة لولده من الرزق والكسوة ؛ ناسب أن يسلى بأن ذلك الولد هو ولد لك لا لأمه ، وأنك الذي تنتفع به في التناصر وتكثير العشيرة ، وأن لك عليه الطواعية كما كان عليك لأجله كلفة الرزق والكسوة لمرضعته . وفسر ابن عطية هنا " الرزق " بأنه الطعام الكافي ؛ فجعله اسما للمرزوق ، كالطحن والرعي . وقال : فكان عليهم أن يرزقوهن ويكسوهن ؛ فشرح الرزق بـ " أن والفعل " اللذين ينسبك منهما المصدر ، ويحتمل الرزق الوجهين من إرادة المرزوق ، وإرادة المصدر . وقد ذكرنا أن " رزقا " بكسر الراء : حكي مصدرا ، كرزق بفتحها ، فيما تقدم ، وقد جعله مصدرا الزمخشري أبو علي الفارسي في قوله : ( ما لا يملك لهم رزقا من السماوات والأرض شيئا ) ، وقد رد ذلك عليه ابن الطراوة ، وسيأتي ذلك في مكانه ، إن شاء الله تعالى . ومعنى " بالمعروف " : ما جرى به العرف من نفقة وكسوة لمثلها ؛ بحيث لا يكون إكثار ولا إقلال ، قاله الضحاك . وقال ابن عطية : " بالمعروف " يجمع جنس القدر في الطعام ، وجودة الاقتضاء له ، وحسن الاقتضاء من المرأة . انتهى كلامه . ولا يدل على حسن الاقتضاء من المرأة ؛ لأن الآية إنما هي فيما يجب على المولود له من الرزق والكسوة ؛ فـ " بالمعروف " يتعلق بـ " رزقهن " أو بـ " كسوتهن " على الإعمال ، إما للأول وإما للثاني - إن كانا مصدرين - وإن عنى بهما المرزوق ، والشأن ؛ فلا بد من حذف مضاف ، التقدير : إيصال أو دفع ، أو ما أشبه ذلك مما يصح به المعنى ، ويكون " بالمعروف " في موضع الحال منهما ؛ فيتعلق بمحذوف . وقيل : العامل فيه معنى الاستقرار في على . وقرأ طلحة : ( وكسوتهن ) بضم الكاف ، وهما لغتان ، يقال : كسوة وكسوة ، بضم الكاف وكسرها .