(
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=233والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين ) ، مناسبة هذه الآية لما قبلها أنه تعالى لما ذكر جملة في : النكاح ، والطلاق ، والعدة ، والرجعة ، والعضل ؛ أخذ يذكر حكم ما كان من نتيجة النكاح ، وهو ما شرع من
nindex.php?page=treesubj&link=12852_27249حكم الإرضاع ومدته ، وحكم الكسوة ، والنفقة ، على ما يقع الكلام فيه في هذه الآية ، إن شاء الله . (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=233والوالدات ) : جمع والدة بالتاء ، وكان القياس أن يقال : والد ، لكن قد أطلق على الأب والد ؛ ولذلك قيل فيه وفي الأم ( الوالدات ) ؛ فجاءت التاء في الوالدة للفرق بين المذكر والمؤنث من حيث الإطلاق اللغوي ، وكأنه روعي في الإطلاق أنهما أصلان للولد ؛ فأطلق عليهما : والدان . وظاهر لفظ " الوالدات " العموم ؛ فيدخل فيه الزوجات والمطلقات . وقال
الضحاك ،
والسدي ، وغيرهما : في المطلقات ، جعلها الله حدا عند اختلاف الزوجين في مدة الرضاع ، فمن دعا منهما إلى إكمال الحولين فذلك له ، ورجح هذا القول لأن قوله (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=233والوالدات ) عقيب آية الطلاق ، فكانت من تتمتها ؛ فشرع ذلك لهن لأن الطلاق يحصل فيه التباغض ، فربما حمل على أذى الولد ؛ لأن إيذاءه إيذاء والده ، ولأن في رغبتها في التزويج بآخر إهمال الولد . وقيل : هي في الزوجات فقط ، لأن المطلقة لا تستحق الكسوة ، وإنما تستحق الأجرة ، (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=233يرضعن أولادهن ) صورته خبر ، محتمل أن يكون معناه خبرا ، أي : في حكم الله تعالى الذي
[ ص: 212 ] شرعه ، فالوالدات أحق برضاع أولادهن ، سواء كانت في حيالة الزوج أو لم تكن ، فإن الإرضاع من خصائص الولادة لا من خصائص الزوجية . ويحتمل أن يكون معناه الأمر كقوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=228والمطلقات يتربصن ) ، لكنه أمر ندب لا إيجاب ؛ إذ لو كان واجبا لما استحق الأجرة . وقال تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=65&ayano=6وإن تعاسرتم فسترضع له أخرى ) ؛ فوجوب الإرضاع إنما هو على الأب لا على الأم ، وعليه أن يتخذ له ظئرا ، إلا إذا تطوعت الأم بإرضاعه ، وهي مندوبة إلى ذلك ولا تجبر عليه ، فإذا لم يقبل ثديها ، أو لم يوجد له ظئرا ، وعجز الأب عن الاستئجار ؛ وجب عليها إرضاعه ، فعلى هذا يكون الأمر للوجوب في بعض الوالدات . ومذهب
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي أن الإرضاع لا يلزم إلا الوالد أو الجد وإن علا . ومذهب
مالك : أنه حق على الزوجة ؛ لأنه كالشرط ، إلا أن تكون شريفة ذات نسب ، فعرفها أن لا ترضع . وعنه خلاف في بعض مسائل الإرضاع . (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=233حولين كاملين ) ، وصف الحولين بالكمال دفعا للمجاز الذي يحتمله حولين ؛ إذ يقال : أقمت عند فلان حولين - وإن لم يستكملهما - وهي صفة توكيد ، كقوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=196عشرة كاملة ) ، وجعل تعالى هذه المدة حدا عند اختلاف الزوجين في مدة الرضاع ، فمن دعا منهما إلى كمال الحولين فذلك له . وظاهر قوله : " أولادهن " العموم ؛ فالحولان لكل ولد ، وهو قول الجمهور . وروي عن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس أنه قال : هي في الولد يمكث في البطن ستة أشهر ، فإن مكث سبعة فرضاعه ثلاثة وعشرون ، أو ثمانية ؛ فاثنان وعشرون ، أو تسعة ، فأحد وعشرون ، وكأن هذا القول انبنى على قوله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=46&ayano=15وحمله وفصاله ثلاثون شهرا ) ؛ لأن ذلك حكم على الإنسان عموما . وفي قوله " يرضعن " دلالة على أن الأم أحق برضاع الولد ، وقد تكلم بعض المفسرين هنا في مسائل لا تعلق لها بلفظ القرآن ، منها : مدة الرضاع المحرمة ، وقدر الرضاع الذي يتعلق به التحريم ، والحضانة ، ومن أحق بها بعد الأم ؟ وما الحكم في الولد إذا تزوجت الأم ؟ وهل للذمية حق في الرضاعة ؟ وأطالوا بنقل الخلاف والدلائل ، وموضوع هذا علم الفقه .
(
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=233لمن أراد أن يتم الرضاعة ) ، هذا يدل على أن الإرضاع في الحولين ليس بحد لا يتعدى ، وإنما ذلك لمن أراد الإتمام ، أما من لا يريده فله فطم الولد دون بلوغ ذلك ، إذا لم يكن فيه ضرر للولد ، وروي عن
قتادة أنه قال : تضمنت فرض الإرضاع على الوالدات ، ثم يسر ذلك وخفف ، فنزل : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=233لمن أراد أن يتم الرضاعة ) . قال
ابن عطية : وهذا قول متداع . قال الراغب : وفي قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=233حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة ) تنبيه على أنه لا يجوز تجاوز ذلك ، وأن لا حكم للرضاع بعد الحولين ، وتقوية لإرضاع بعد الحولين ، والرضاعة من المجاعة ، ويؤكده أن كل حكم في الشرع علق بعدد مخصوص يجوز الإخلال به في أحد الطرفين ، لم يجز الإخلال به في الطرف الآخر ، كخيار الثلاث ، وعدد حجارة الاستنجاء ، والمسح على الخفين يوما وليلة وثلاثة أيام ، ولما كان الرضاع يجوز الإخلال في أحد الطرفين - وهو النقصان - لم تجز مجاوزته . انتهى كلامه . وقال غيره : ذكر الحولين ليس على التوقيت الواجب ، وإنما هو لقطع المشاجرة بين الوالدين . وجمهور الفقهاء على أنه يجوز
nindex.php?page=treesubj&link=27249الزيادة والنقصان إذا رأيا ذلك . واللام في " لمن " قيل متعلقة بـ " يرضعن " ، كما تقول : أرضعت فلانة لفلان ولده ، وتكون اللام على هذا للتعليل ، أي : لأجله ؛ فتكون " من " واقعة على الأب ، كأنه قيل : لأجل من أراد أن يتم الرضاعة على الآباء ، وقيل : اللام للتبيين ؛ فيتعلق بمحذوف ، كهي في قولهم : سقيا لك ، وفي قوله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=12&ayano=23هيت لك ) ، فاللام لتبيين المدعو له بالسقي ، وللمهيت به ، وذلك أنه لما قدم قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=233يرضعن أولادهن حولين كاملين ) ؛ بين أن هذا الحكم إنما هو لمن يريد أن يتم الرضاعة من الوالدات ، فتكون " من " واقعة على الأم ، كأنه قيل : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=233لمن أراد أن يتم الرضاعة ) من الوالدات . أو تكون " من " واقعة على الوالدات والمولود له ، كل ذلك يحتمله اللفظ . وقرأ الجمهور : " أن يتم الرضاعة "
[ ص: 213 ] بالياء ، من أتم ، ونصب الرضاعة . وقرأ
مجاهد ،
والحسن ،
وحميد ،
وابن محيص ،
وأبو رجاء : " تتم " بالتاء ، من تم ، ورفع الرضاعة . وقرأ
أبو حنيفة ،
nindex.php?page=showalam&ids=12356وابن أبي عبلة ،
والجارود بن أبي سبرة كذلك ، إلا أنهم كسروا الراء من الرضاعة ، وهي لغة ، كالحضارة والحضارة ، والبصريون يقولون بفتح الراء مع الهاء ، وبكسرها دون الهاء ، والكوفيون يعكسون ذلك ، وروي عن
مجاهد أنه قرأ : " الرضعة " على وزن " القصعة " ، وروي عن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس أنه قرأ : " أن يكمل الرضاعة " بضم الياء ، وقرئ : " أن يتم " برفع الميم ، ونسبها النحويون إلى
مجاهد ، وقد جاز رفع الفعل بعد " أن " في كلام العرب في الشعر . أنشد
الفراء رحمه الله تعالى :
أن تهبطين بلاد قو م يرتعون من الطلاح
وقال آخر :
أن تقرآن على أسماء ويحكما مني السلام وأن لا تبلغا أحدا
وهذا عند البصريين هي الناصبة للفعل المضارع ، وترك إعمالها حملا على " ما " أختها في كون كل منهما مصدرية ، وأما الكوفيون فهي عندهم المخففة من الثقيلة ، وشذ وقوعها موقع الناصبة ، كما شذ وقوع الناصبة موقع المخففة في قول
جرير :
نرضى عن الله أن الناس قد علموا أن لا يدانينا من خلقه بشر
والذي يظهر أن إثبات النون في المضارع المذكور مع " أن " مخصوص بضرورة الشعر ، ولا يحفظ " أن " غير ناصبة إلا في هذا الشعر ، والقراءة المنسوبة إلى
مجاهد ، وما سبيله هذا ، لا تبنى عليه قاعدة . (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=233وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف ) ، المولود : جنس ، واللام فيه موصولة وصلت باسم المفعول و " أل " كـ " من " ، و " ما " يعود الضمير على اللفظ مفردا مذكرا ، ويجوز أن يعود على المعنى بحسب ما تريده من المعنى من تثنية أو جمع أو تأنيث ، وهنا عاد الضمير على اللفظ ، فجاء له . ويجوز في العربية أن يعود على المعنى ؛ فكان يكون " لهم " ، إلا أنه لم يقرأ به ، والمفعول الذي لم يسم فاعله هو الجار والمجرور ، وحذف الفاعل - وهو " الوالدات " - والمفعول به - وهو الأولاد - وأقيم الجار والمجرور مقام الفاعل ، وهذا على مذهب البصريين ، أعني : أن يقام الجار مقام الفاعل إذا حذف ، نحو : مر بزيد . وذهب الكوفيون إلى أن ذلك لا يجوز إلا فيما حرف الجر فيه زائد ، نحو : ما ضرب من أحد ، فإن كان حرف الجر غير زائد لم يجز ذلك عندهم ، ولا يجوز أن يكون الاسم المجرور في موضع رفع باتفاق منهم . واختلفوا بعد هذا الاتفاق في الذي أقيم مقام الفاعل ؛ فذهب
الفراء إلى أن حرف الجر وحده في موضع رفع ، كما أن : يقوم من " زيد يقوم " ، في موضع رفع ، وذهب الكسائي وهشام إلى أن مفعول الفعل ضمير مبهم مستتر في الفعل ، وإبهامه من حيث إنه يحتمل أن يراد به ما يدل عليه الفعل من مصدر ، أو ظرف زمان ، أو ظرف مكان ، ولم يقم الدليل على أن المراد به بعض ذلك دون بعض ، ومنهم من ذهب إلى أن مرفوع الفعل ضمير عائد على المصدر ، والتقدير : سير هو ، يريد : أي سير السير ، والضمير يعود على المصدر المفهوم من الفعل ، وهذا سائغ عند بعض البصريين ، وممنوع عند محققي البصريين ، والنظر في دلائل هذه المذاهب تصحيحا وإبطالا يذكر في عالم النحو . وقد وهم بعض كبرائنا فذكر في كتابه المسمى بـ ( الشرح الكبير لجمل
الزجاجي ) أن النحويين أجمعوا على جواز إقامة المجرور مقام الفاعل إلا
السهيلي ؛ فإنه منع ذلك ، وليس كما ذكر ؛ إذ قد ذكرنا الخلاف عن
الفراء ،
nindex.php?page=showalam&ids=15080والكسائي ،
وهشام ، والتفصيل في المجرور . وممن تبع
السهيلي على قوله : تلميذه
أبو علي الزيدي شارح ( الجمل ) . و " المولود له " : هو الوالد ، وهو الأب ، ولم يأت بلفظ الوالد ، ولا بلفظ الأب ، بل جاء بلفظ " المولود له " ، لما في ذلك من إعلام الأب ما منح الله له وأعطاه ؛ إذ
[ ص: 214 ] اللام في " له " معناها شبه التمليك ، كقوله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=72وجعل لكم من أزواجكم بنين وحفدة ) ، وهو أحد المعاني التي ذكرناها في اللام في أول الفاتحة ؛ ولذلك يتصرف الوالد في ولده بما يختار ، وتجد الولد في الغالب مطيعا لأبيه ، ممتثلا ما أمر به ، منفذا ما أوصى به ، فالأولاد في الحقيقة هم للآباء ، وينتسبون إليهم لا إلى أمهاتهم ، كما أنشد
nindex.php?page=showalam&ids=15128المأمون بن الرشيد ، وكانت أمه جارية طباخة تدعى
مراجل ، قال :
فإنما أمهات الناس أوعية مستودعات وللأبناء آباء
فلما كان لفظ " المولود " مشعرا بالمنحة وشبه التمليك ، أتى به دون لفظ " الولد " ولفظ " الأب " ، وحيث لم يرد هذا المعنى أتى بلفظ " الوالد " ولفظ " الأب " ، كما قال تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=31&ayano=33لا يجزي والد عن ولده ) ، وقال : (
nindex.php?page=tafseer&surano=33&ayano=55لا جناح عليهن في آبائهن ) . ولطيفة أخرى في قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=233وعلى المولود له ) ، وهو أنه لما كلف بمؤن المرضعة لولده من الرزق والكسوة ؛ ناسب أن يسلى بأن ذلك الولد هو ولد لك لا لأمه ، وأنك الذي تنتفع به في التناصر وتكثير العشيرة ، وأن لك عليه الطواعية كما كان عليك لأجله كلفة الرزق والكسوة لمرضعته . وفسر
ابن عطية هنا " الرزق " بأنه الطعام الكافي ؛ فجعله اسما للمرزوق ، كالطحن والرعي . وقال
nindex.php?page=showalam&ids=14423الزمخشري : فكان عليهم أن يرزقوهن ويكسوهن ؛ فشرح الرزق بـ " أن والفعل " اللذين ينسبك منهما المصدر ، ويحتمل الرزق الوجهين من إرادة المرزوق ، وإرادة المصدر . وقد ذكرنا أن " رزقا " بكسر الراء : حكي مصدرا ، كرزق بفتحها ، فيما تقدم ، وقد جعله مصدرا
أبو علي الفارسي في قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=73ما لا يملك لهم رزقا من السماوات والأرض شيئا ) ، وقد رد ذلك عليه
ابن الطراوة ، وسيأتي ذلك في مكانه ، إن شاء الله تعالى . ومعنى " بالمعروف " : ما جرى به العرف من نفقة وكسوة لمثلها ؛ بحيث لا يكون إكثار ولا إقلال ، قاله
الضحاك . وقال
ابن عطية : " بالمعروف " يجمع جنس القدر في الطعام ، وجودة الاقتضاء له ، وحسن الاقتضاء من المرأة . انتهى كلامه . ولا يدل على حسن الاقتضاء من المرأة ؛ لأن الآية إنما هي فيما يجب على المولود له من الرزق والكسوة ؛ فـ " بالمعروف " يتعلق بـ " رزقهن " أو بـ " كسوتهن " على الإعمال ، إما للأول وإما للثاني - إن كانا مصدرين - وإن عنى بهما المرزوق ، والشأن ؛ فلا بد من حذف مضاف ، التقدير : إيصال أو دفع ، أو ما أشبه ذلك مما يصح به المعنى ، ويكون " بالمعروف " في موضع الحال منهما ؛ فيتعلق بمحذوف . وقيل : العامل فيه معنى الاستقرار في على . وقرأ
طلحة : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=233وكسوتهن ) بضم الكاف ، وهما لغتان ، يقال : كسوة وكسوة ، بضم الكاف وكسرها .
(
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=233وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ ) ، مُنَاسَبَةُ هَذِهِ الْآيَةِ لِمَا قَبْلَهَا أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ جُمْلَةً فِي : النِّكَاحِ ، وَالطَّلَاقِ ، وَالْعِدَّةِ ، وَالرَّجْعَةِ ، وَالْعَضْلِ ؛ أَخَذَ يَذْكُرُ حُكْمَ مَا كَانَ مِنْ نَتِيجَةِ النِّكَاحِ ، وَهُوَ مَا شُرِعَ مِنْ
nindex.php?page=treesubj&link=12852_27249حُكْمِ الْإِرْضَاعِ وَمُدَّتِهِ ، وَحُكْمِ الْكُسْوَةِ ، وَالنَّفَقَةِ ، عَلَى مَا يَقَعُ الْكَلَامُ فِيهِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ . (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=233وَالْوَالِدَاتُ ) : جَمْعُ وَالِدَةٍ بِالتَّاءِ ، وَكَانَ الْقِيَاسُ أَنْ يُقَالَ : وَالِدٌ ، لَكِنْ قَدْ أَطْلَقَ عَلَى الْأَبِ وَالِدٌ ؛ وَلِذَلِكَ قِيلَ فِيهِ وَفِي الْأُمِّ ( الْوَالِدَاتُ ) ؛ فَجَاءَتِ التَّاءُ فِي الْوَالِدَةِ لِلْفَرْقِ بَيْنَ الْمُذَكَّرِ وَالْمُؤَنَّثِ مِنْ حَيْثُ الْإِطْلَاقِ اللُّغَوِيِّ ، وَكَأَنَّهُ رُوعِيَ فِي الْإِطْلَاقِ أَنَّهُمَا أَصْلَانِ لِلْوَلَدِ ؛ فَأُطْلِقَ عَلَيْهِمَا : وَالِدَانِ . وَظَاهِرُ لَفْظِ " الْوَالِدَاتِ " الْعُمُومُ ؛ فَيَدْخُلُ فِيهِ الزَّوْجَاتُ وَالْمُطَلَّقَاتُ . وَقَالَ
الضَّحَّاكُ ،
وَالسُّدِّيُّ ، وَغَيْرُهُمَا : فِي الْمُطَلَّقَاتِ ، جَعَلَهَا اللَّهُ حَدًّا عِنْدَ اخْتِلَافِ الزَّوْجَيْنِ فِي مُدَّةِ الرَّضَاعِ ، فَمَنْ دَعَا مِنْهُمَا إِلَى إِكْمَالِ الْحَوْلَيْنِ فَذَلِكَ لَهُ ، وَرَجَّحَ هَذَا الْقَوْلَ لِأَنَّ قَوْلَهُ (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=233وَالْوَالِدَاتُ ) عُقَيْبَ آيَةِ الطَّلَاقِ ، فَكَانَتْ مِنْ تَتِمَّتِهَا ؛ فَشُرِعَ ذَلِكَ لَهُنَّ لِأَنَّ الطَّلَاقَ يَحْصُلُ فِيهِ التَّبَاغُضُ ، فَرُبَّمَا حَمَلَ عَلَى أَذَى الْوَلَدِ ؛ لِأَنَّ إِيذَاءَهُ إِيذَاءُ وَالِدِهِ ، وَلِأَنَّ فِي رَغْبَتِهَا فِي التَّزْوِيجِ بِآخَرَ إِهْمَالَ الْوَلَدِ . وَقِيلَ : هِيَ فِي الزَّوْجَاتِ فَقَطْ ، لِأَنَّ الْمُطَلَّقَةَ لَا تَسْتَحِقُّ الْكُسْوَةَ ، وَإِنَّمَا تَسْتَحِقُّ الْأُجْرَةَ ، (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=233يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ ) صُورَتُهُ خَبَرٌ ، مُحْتَمِلٌ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ خَبَرًا ، أَيْ : فِي حُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى الَّذِي
[ ص: 212 ] شَرَعَهُ ، فَالْوَالِدَاتُ أَحَقُّ بِرَضَاعِ أَوْلَادِهِنَّ ، سَوَاءً كَانَتْ فِي حِيَالَةِ الزَّوْجِ أَوْ لَمْ تَكُنْ ، فَإِنَّ الْإِرْضَاعَ مِنْ خَصَائِصِ الْوِلَادَةِ لَا مِنْ خَصَائِصِ الزَّوْجِيَّةِ . وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ الْأَمْرُ كَقَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=228وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ ) ، لَكِنَّهُ أَمْرُ نَدْبٍ لَا إِيجَابٍ ؛ إِذْ لَوْ كَانَ وَاجِبًا لَمَا اسْتَحَقَّ الْأُجْرَةَ . وَقَالَ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=65&ayano=6وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى ) ؛ فَوُجُوبُ الْإِرْضَاعِ إِنَّمَا هُوَ عَلَى الْأَبِ لَا عَلَى الْأُمِّ ، وَعَلَيْهِ أَنْ يَتَّخِذَ لَهُ ظِئْرًا ، إِلَّا إِذَا تَطَوَّعَتِ الْأُمُّ بِإِرْضَاعِهِ ، وَهِيَ مَنْدُوبَةٌ إِلَى ذَلِكَ وَلَا تُجْبَرُ عَلَيْهِ ، فَإِذَا لَمْ يَقْبَلْ ثَدْيَهَا ، أَوْ لَمْ يُوجِدْ لَهُ ظِئْرًا ، وَعَجَزَ الْأَبُ عَنِ الِاسْتِئْجَارِ ؛ وَجَبَ عَلَيْهَا إِرْضَاعُهُ ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْأَمْرُ لِلْوُجُوبِ فِي بَعْضِ الْوَالِدَاتِ . وَمَذْهَبُ
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشَّافِعِيِّ أَنَّ الْإِرْضَاعَ لَا يَلْزَمُ إِلَّا الْوَالِدَ أَوِ الْجَدَّ وَإِنْ عَلَا . وَمَذْهَبُ
مَالِكٍ : أَنَّهُ حَقٌّ عَلَى الزَّوْجَةِ ؛ لِأَنَّهُ كَالشَّرْطِ ، إِلَّا أَنْ تَكُونَ شَرِيفَةً ذَاتَ نَسَبٍ ، فَعُرْفُهَا أَنْ لَا تُرْضِعَ . وَعَنْهُ خِلَافٌ فِي بَعْضِ مَسَائِلِ الْإِرْضَاعِ . (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=233حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ ) ، وَصَفَ الْحَوْلَيْنِ بِالْكَمَالِ دَفْعًا لِلْمَجَازِ الَّذِي يَحْتَمِلُهُ حَوْلَيْنِ ؛ إِذْ يُقَالُ : أَقَمْتُ عِنْدَ فُلَانٍ حَوْلَيْنِ - وَإِنْ لَمْ يَسْتَكْمِلْهُمَا - وَهِيَ صِفَةُ تَوْكِيدٍ ، كَقَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=196عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ) ، وَجَعَلَ تَعَالَى هَذِهِ الْمُدَّةَ حَدًّا عِنْدَ اخْتِلَافِ الزَّوْجَيْنِ فِي مُدَّةِ الرَّضَاعِ ، فَمَنْ دَعَا مِنْهُمَا إِلَى كَمَالِ الْحَوْلَيْنِ فَذَلِكَ لَهُ . وَظَاهِرُ قَوْلِهِ : " أَوْلَادَهُنَّ " الْعُمُومُ ؛ فَالْحَوْلَانِ لِكُلِّ وَلَدٍ ، وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ . وَرُوِيَ عَنِ
nindex.php?page=showalam&ids=11ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ : هِيَ فِي الْوَلَدِ يَمْكُثُ فِي الْبَطْنِ سِتَّةَ أَشْهُرٍ ، فَإِنْ مَكَثَ سَبْعَةً فَرَضَاعُهُ ثَلَاثَةٌ وَعِشْرُونَ ، أَوْ ثَمَانِيَةً ؛ فَاثْنَانِ وَعِشْرُونَ ، أَوْ تِسْعَةً ، فَأَحَدَ وَعِشْرُونَ ، وَكَأَنَّ هَذَا الْقَوْلَ انْبَنَى عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=46&ayano=15وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا ) ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ حُكْمٌ عَلَى الْإِنْسَانِ عُمُومًا . وَفِي قَوْلِهِ " يُرْضِعْنَ " دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الْأُمَّ أَحَقُّ بِرَضَاعِ الْوَلَدِ ، وَقَدْ تَكَلَّمَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ هُنَا فِي مَسَائِلَ لَا تَعَلُّقَ لَهَا بِلَفْظِ الْقُرْآنِ ، مِنْهَا : مُدَّةُ الرَّضَاعِ الْمُحَرِّمَةِ ، وَقَدْرُ الرَّضَاعِ الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِهِ التَّحْرِيمُ ، وَالْحَضَانَةُ ، وَمَنْ أَحَقُّ بِهَا بَعْدَ الْأُمِّ ؟ وَمَا الْحُكْمُ فِي الْوَلَدِ إِذَا تَزَوَّجَتِ الْأُمُّ ؟ وَهَلْ لِلذِّمِّيَّةِ حَقٌّ فِي الرَّضَاعَةِ ؟ وَأَطَالُوا بِنَقْلِ الْخِلَافِ وَالدَّلَائِلِ ، وَمَوْضُوعُ هَذَا عِلْمُ الْفِقْهِ .
(
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=233لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ ) ، هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْإِرْضَاعَ فِي الْحَوْلَيْنِ لَيْسَ بِحَدٍّ لَا يُتَعَدَّى ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ لِمَنْ أَرَادَ الْإِتْمَامَ ، أَمَّا مَنْ لَا يُرِيدُهُ فَلَهُ فَطْمُ الْوَلَدِ دُونَ بُلُوغِ ذَلِكَ ، إِذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ ضَرَرٌ لِلْوَلَدِ ، وَرُوِيَ عَنْ
قَتَادَةَ أَنَّهُ قَالَ : تَضَمَّنَتْ فَرْضَ الْإِرْضَاعِ عَلَى الْوَالِدَاتِ ، ثُمَّ يُسِّرَ ذَلِكَ وَخُفِّفَ ، فَنَزَلَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=233لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ ) . قَالَ
ابْنُ عَطِيَّةَ : وَهَذَا قَوْلٌ مُتَدَاعٍ . قَالَ الرَّاغِبُ : وَفِي قَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=233حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ ) تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَجَاوُزُ ذَلِكَ ، وَأَنْ لَا حُكْمَ لِلرَّضَاعِ بَعْدَ الْحَوْلَيْنِ ، وَتَقْوِيَةً لِإِرْضَاعٍ بَعْدَ الْحَوْلَيْنِ ، وَالرَّضَاعَةُ مِنَ الْمَجَاعَةِ ، وَيُؤَكِّدُهُ أَنَّ كُلَّ حُكْمٍ فِي الشَّرْعِ عُلِّقَ بِعَدَدٍ مَخْصُوصٍ يَجُوزُ الْإِخْلَالُ بِهِ فِي أَحَدِ الطَّرَفَيْنِ ، لَمْ يَجُزِ الْإِخْلَالُ بِهِ فِي الطَّرَفِ الْآخَرِ ، كَخِيَارِ الثَّلَاثِ ، وَعَدَدِ حِجَارَةِ الِاسْتِنْجَاءِ ، وَالْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ يَوْمًا وَلَيْلَةً وَثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ، وَلَمَّا كَانَ الرَّضَاعُ يَجُوزُ الْإِخْلَالُ فِي أَحَدِ الطَّرَفَيْنِ - وَهُوَ النُّقْصَانُ - لَمْ تَجُزْ مُجَاوَزَتُهُ . انْتَهَى كَلَامُهُ . وَقَالَ غَيْرُهُ : ذِكْرُ الْحَوْلَيْنِ لَيْسَ عَلَى التَّوْقِيتِ الْوَاجِبِ ، وَإِنَّمَا هُوَ لِقَطْعِ الْمُشَاجَرَةِ بَيْنَ الْوَالِدَيْنِ . وَجُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ
nindex.php?page=treesubj&link=27249الزِّيَادَةُ وَالنُّقْصَانُ إِذَا رَأَيَا ذَلِكَ . وَاللَّامُ فِي " لِمَنْ " قِيلَ مُتَعَلِّقَةٌ بِـ " يُرْضِعْنَ " ، كَمَا تَقُولُ : أَرْضَعَتْ فُلَانَةٌ لِفُلَانٍ وَلَدَهُ ، وَتَكُونُ اللَّامُ عَلَى هَذَا لِلتَّعْلِيلِ ، أَيْ : لِأَجْلِهِ ؛ فَتَكُونُ " مَنْ " وَاقِعَةٌ عَلَى الْأَبِ ، كَأَنَّهُ قِيلَ : لِأَجْلِ مَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ عَلَى الْآبَاءِ ، وَقِيلَ : اللَّامُ لِلتَّبْيِينِ ؛ فَيَتَعَلَّقُ بِمَحْذُوفٍ ، كَهِيَ فِي قَوْلِهِمْ : سَقْيًا لَكَ ، وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=12&ayano=23هَيْتَ لَكَ ) ، فَاللَّامُ لِتَبْيِينِ الْمَدْعُوِّ لَهُ بِالسَّقْيِ ، وَلِلْمُهَيَّتِ بِهِ ، وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا قَدَّمَ قَوْلَهُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=233يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ ) ؛ بَيَّنَ أَنَّ هَذَا الْحُكْمَ إِنَّمَا هُوَ لِمَنْ يُرِيدُ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ مِنَ الْوَالِدَاتِ ، فَتَكُونُ " مَنْ " وَاقِعَةً عَلَى الْأُمِّ ، كَأَنَّهُ قِيلَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=233لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ ) مِنَ الْوَالِدَاتِ . أَوْ تَكُونُ " مَنْ " وَاقِعَةٌ عَلَى الْوَالِدَاتِ وَالْمَوْلُودِ لَهُ ، كُلُّ ذَلِكَ يَحْتَمِلُهُ اللَّفْظُ . وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ : " أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ "
[ ص: 213 ] بِالْيَاءِ ، مِنْ أَتَمَّ ، وَنَصْبِ الرَّضَاعَةِ . وَقَرَأَ
مُجَاهِدٌ ،
وَالْحَسَنُ ،
وَحُمَيْدٌ ،
وَابْنُ مُحَيِّصٍ ،
وَأَبُو رَجَاءٍ : " تَتِمَّ " بِالتَّاءِ ، مِنْ تَمَّ ، وَرَفْعِ الرَّضَاعَةِ . وَقَرَأَ
أَبُو حَنِيفَةَ ،
nindex.php?page=showalam&ids=12356وَابْنُ أَبِي عَبْلَةَ ،
وَالْجَارُودُ بْنُ أَبِي سَبْرَةَ كَذَلِكَ ، إِلَّا أَنَّهُمْ كَسَرُوا الرَّاءَ مِنَ الرَّضَاعَةِ ، وَهِيَ لُغَةٌ ، كَالْحَضَارَةِ وَالْحِضَارَةِ ، وَالْبَصْرِيُّونَ يَقُولُونَ بِفَتْحِ الرَّاءِ مَعَ الْهَاءِ ، وَبِكَسْرِهَا دُونَ الْهَاءِ ، وَالْكُوفِيُّونَ يَعْكِسُونَ ذَلِكَ ، وَرُوِيَ عَنْ
مُجَاهِدٍ أَنَّهُ قَرَأَ : " الرَّضْعَةَ " عَلَى وَزْنِ " الْقَصْعَةِ " ، وَرُوِيَ عَنِ
nindex.php?page=showalam&ids=11ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَرَأَ : " أَنْ يُكْمِلَ الرَّضَاعَةَ " بِضَمِّ الْيَاءِ ، وَقُرِئَ : " أَنْ يُتِمُّ " بِرَفْعِ الْمِيمِ ، وَنَسَبَهَا النَّحْوِيُّونَ إِلَى
مُجَاهِدٍ ، وَقَدْ جَازَ رَفْعُ الْفِعْلِ بَعْدَ " أَنْ " فِي كَلَامِ الْعَرَبِ فِي الشِّعْرِ . أَنْشَدَ
الْفَرَّاءُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى :
أَنْ تَهْبِطِينَ بِلَادَ قَوْ مٍ يَرْتَعُونَ مِنَ الطِّلَاحِ
وَقَالَ آخَرُ :
أَنْ تُقْرِآنِ عَلَى أَسْمَاءَ وَيْحَكُمَا مِنِّي السَّلَامَ وَأَنْ لَا تُبْلِغَا أَحَدَا
وَهَذَا عِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ هِيَ النَّاصِبَةُ لِلْفِعْلِ الْمُضَارِعِ ، وَتُرِكَ إِعْمَالُهَا حَمْلًا عَلَى " مَا " أُخْتِهَا فِي كَوْنِ كُلٍّ مِنْهُمَا مَصْدَرِيَّةً ، وَأَمَّا الْكُوفِيُّونَ فَهِيَ عِنْدَهُمُ الْمُخَفَّفَةُ مِنَ الثَّقِيلَةِ ، وَشَذَّ وُقُوعُهَا مَوْقِعَ النَّاصِبَةِ ، كَمَا شَذَّ وُقُوعُ النَّاصِبَةِ مَوْقِعَ الْمُخَفَّفَةِ فِي قَوْلِ
جَرِيرٍ :
نَرْضَى عَنِ اللَّهِ أَنَّ النَّاسَ قَدْ عَلِمُوا أَنْ لَا يُدَانِيَنَا مِنْ خَلْقِهِ بَشَرُ
وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ إِثْبَاتَ النُّونِ فِي الْمُضَارِعِ الْمَذْكُورِ مَعَ " أَنَّ " مَخْصُوصٌ بِضَرُورَةِ الشِّعْرِ ، وَلَا يُحْفَظُ " أَنَّ " غَيْرَ نَاصِبَةٍ إِلَّا فِي هَذَا الشِّعْرِ ، وَالْقِرَاءَةُ الْمَنْسُوبَةُ إِلَى
مُجَاهِدٍ ، وَمَا سَبِيلُهُ هَذَا ، لَا تُبْنَى عَلَيْهِ قَاعِدَةٌ . (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=233وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ ) ، الْمَوْلُودُ : جِنْسٌ ، وَاللَّامُ فِيهِ مَوْصُولَةٌ وُصِلَتْ بِاسْمِ الْمَفْعُولِ وَ " أَلْ " كَـ " مَنْ " ، وَ " مَا " يَعُودُ الضَّمِيرُ عَلَى اللَّفْظِ مُفْرَدًا مُذَكَّرًا ، وَيَجُوزُ أَنْ يَعُودَ عَلَى الْمَعْنَى بِحَسَبِ مَا تُرِيدُهُ مِنَ الْمَعْنَى مِنْ تَثْنِيَةٍ أَوْ جَمْعٍ أَوْ تَأْنِيثٍ ، وَهُنَا عَادَ الضَّمِيرُ عَلَى اللَّفْظِ ، فَجَاءَ لَهُ . وَيَجُوزُ فِي الْعَرَبِيَّةِ أَنْ يَعُودَ عَلَى الْمَعْنَى ؛ فَكَانَ يَكُونُ " لَهُمْ " ، إِلَّا أَنَّهُ لَمْ يُقْرَأْ بِهِ ، وَالْمَفْعُولُ الَّذِي لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ هُوَ الْجَارُّ وَالْمَجْرُورُ ، وَحُذِفَ الْفَاعِلُ - وَهُوَ " الْوَالِدَاتُ " - وَالْمَفْعُولُ بِهِ - وَهُوَ الْأَوْلَادُ - وَأُقِيمَ الْجَارُّ وَالْمَجْرُورُ مَقَامَ الْفَاعِلِ ، وَهَذَا عَلَى مَذْهَبِ الْبَصْرِيِّينَ ، أَعْنِي : أَنْ يُقَامَ الْجَارُّ مَقَامَ الْفَاعِلِ إِذَا حُذِفَ ، نَحْوَ : مُرَّ بِزَيْدٍ . وَذَهَبَ الْكُوفِيُّونَ إِلَى أَنَّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ إِلَّا فِيمَا حَرْفُ الْجَرِّ فِيهِ زَائِدٌ ، نَحْوَ : مَا ضُرِبَ مِنْ أَحَدٍ ، فَإِنْ كَانَ حَرْفُ الْجَرِّ غَيْرَ زَائِدٍ لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ عِنْدَهُمْ ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الِاسْمُ الْمَجْرُورُ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ بِاتِّفَاقٍ مِنْهُمْ . وَاخْتَلَفُوا بَعْدَ هَذَا الِاتِّفَاقِ فِي الَّذِي أُقِيمَ مَقَامَ الْفَاعِلِ ؛ فَذَهَبَ
الْفَرَّاءُ إِلَى أَنَّ حَرْفَ الْجَرِّ وَحْدَهُ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ ، كَمَا أَنَّ : يَقُومُ مِنْ " زَيْدٌ يَقُومُ " ، فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ ، وَذَهَبَ الْكِسَائِيُّ وَهِشَامٌ إِلَى أَنَّ مَفْعُولَ الْفِعْلِ ضَمِيرٌ مُبْهَمٌ مُسْتَتِرٌ فِي الْفِعْلِ ، وَإِبْهَامُهُ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ الْفِعْلُ مِنْ مَصْدَرٍ ، أَوْ ظَرْفِ زَمَانٍ ، أَوْ ظَرْفِ مَكَانٍ ، وَلَمْ يَقُمِ الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ بَعْضُ ذَلِكَ دُونَ بَعْضٍ ، وَمِنْهُمْ مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ مَرْفُوعَ الْفِعْلِ ضَمِيرٌ عَائِدٌ عَلَى الْمَصْدَرِ ، وَالتَّقْدِيرُ : سَيْرٌ هُوَ ، يُرِيدُ : أَيْ سَيْرُ السَّيْرِ ، وَالضَّمِيرُ يَعُودُ عَلَى الْمَصْدَرِ الْمَفْهُومِ مِنَ الْفِعْلِ ، وَهَذَا سَائِغٌ عِنْدَ بَعْضِ الْبَصْرِيِّينَ ، وَمَمْنُوعٌ عِنْدَ مُحَقِّقِي الْبَصْرِيِّينَ ، وَالنَّظَرُ فِي دَلَائِلِ هَذِهِ الْمَذَاهِبِ تَصْحِيحًا وَإِبْطَالًا يُذْكَرُ فِي عَالَمِ النَّحْوِ . وَقَدْ وَهِمَ بَعْضُ كُبَرَائِنَا فَذَكَرَ فِي كِتَابِهِ الْمُسَمَّى بِـ ( الشَّرْحُ الْكَبِيرُ لِجُمَلِ
الزَّجَّاجِيِّ ) أَنَّ النَّحْوِيِّينَ أَجْمَعُوا عَلَى جَوَازِ إِقَامَةِ الْمَجْرُورِ مَقَامَ الْفَاعِلِ إِلَّا
السُّهَيْلِيُّ ؛ فَإِنَّهُ مَنَعَ ذَلِكَ ، وَلَيْسَ كَمَا ذَكَرَ ؛ إِذْ قَدْ ذَكَرْنَا الْخِلَافَ عَنِ
الْفَرَّاءِ ،
nindex.php?page=showalam&ids=15080وَالْكِسَائِيِّ ،
وَهِشَامٍ ، وَالتَّفْصِيلَ فِي الْمَجْرُورِ . وَمِمَّنْ تَبِعَ
السُّهَيْلِيَّ عَلَى قَوْلِهِ : تِلْمِيذُهُ
أَبُو عَلِيٍّ الزَّيْدِيُّ شَارِحُ ( الْجُمَلِ ) . وَ " الْمَوْلُودِ لَهُ " : هُوَ الْوَالِدُ ، وَهُوَ الْأَبُ ، وَلَمْ يَأْتِ بِلَفْظِ الْوَالِدِ ، وَلَا بِلَفْظِ الْأَبِ ، بَلْ جَاءَ بِلَفْظِ " الْمَوْلُودِ لَهُ " ، لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ إِعْلَامِ الْأَبِ مَا مَنَحَ اللَّهُ لَهُ وَأَعْطَاهُ ؛ إِذِ
[ ص: 214 ] اللَّامُ فِي " لَهُ " مَعْنَاهَا شِبْهُ التَّمْلِيكِ ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=72وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً ) ، وَهُوَ أَحَدُ الْمَعَانِي الَّتِي ذَكَرْنَاهَا فِي اللَّامِ فِي أَوَّلِ الْفَاتِحَةِ ؛ وَلِذَلِكَ يَتَصَرَّفُ الْوَالِدُ فِي وَلَدِهِ بِمَا يَخْتَارُ ، وَتَجِدُ الْوَلَدَ فِي الْغَالِبِ مُطِيعًا لِأَبِيهِ ، مُمْتَثِلًا مَا أَمَرَ بِهِ ، مُنَفِّذًا مَا أَوْصَى بِهِ ، فَالْأَوْلَادُ فِي الْحَقِيقَةِ هُمْ لِلْآبَاءِ ، وَيَنْتَسِبُونَ إِلَيْهِمْ لَا إِلَى أُمَّهَاتِهِمْ ، كَمَا أَنْشَدَ
nindex.php?page=showalam&ids=15128الْمَأْمُونُ بْنُ الرَّشِيدِ ، وَكَانَتْ أُمُّهُ جَارِيَةً طَبَّاخَةً تُدْعَى
مَرَاجِلُ ، قَالَ :
فَإِنَّمَا أُمَّهَاتُ النَّاسِ أَوْعِيَةٌ مُسْتَوْدَعَاتٌ وَلِلْأَبْنَاءِ آبَاءُ
فَلَمَّا كَانَ لَفْظُ " الْمَوْلُودِ " مُشْعِرًا بِالْمِنْحَةِ وَشِبْهِ التَّمْلِيكِ ، أَتَى بِهِ دُونَ لَفْظِ " الْوَلَدِ " وَلَفْظِ " الْأَبِ " ، وَحَيْثُ لَمْ يَرِدْ هَذَا الْمَعْنَى أَتَى بِلَفْظِ " الْوَالِدِ " وَلَفْظِ " الْأَبِ " ، كَمَا قَالَ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=31&ayano=33لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ ) ، وَقَالَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=33&ayano=55لَا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبَائِهِنَّ ) . وَلَطِيفَةٌ أُخْرَى فِي قَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=233وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ ) ، وَهُوَ أَنَّهُ لَمَّا كُلِّفَ بِمُؤَنِ الْمُرْضِعَةِ لِوَلَدِهِ مِنَ الرِّزْقِ وَالْكِسْوَةِ ؛ نَاسَبَ أَنْ يُسَلَّى بِأَنَّ ذَلِكَ الْوَلَدَ هُوَ وَلَدٌ لَكَ لَا لِأُمِّهِ ، وَأَنَّكَ الَّذِي تَنْتَفِعُ بِهِ فِي التَّنَاصُرِ وَتَكْثِيرِ الْعَشِيرَةِ ، وَأَنَّ لَكَ عَلَيْهِ الطَّوَاعِيَةَ كَمَا كَانَ عَلَيْكَ لِأَجْلِهِ كُلْفَةُ الرِّزْقِ وَالْكِسْوَةِ لِمُرْضِعَتِهِ . وَفَسَّرَ
ابْنُ عَطِيَّةَ هُنَا " الرِّزْقَ " بِأَنَّهُ الطَّعَامُ الْكَافِي ؛ فَجَعَلَهُ اسْمًا لِلْمَرْزُوقِ ، كَالطَّحْنِ وَالرَّعْيِ . وَقَالَ
nindex.php?page=showalam&ids=14423الزَّمَخْشَرِيُّ : فَكَانَ عَلَيْهِمْ أَنْ يَرْزُقُوهُنَّ وَيَكْسُوهُنَّ ؛ فَشَرَحَ الرِّزْقَ بِـ " أَنْ وَالْفِعْلِ " اللَّذَيْنِ يَنْسَبِكُ مِنْهُمَا الْمَصْدَرُ ، وَيَحْتَمِلُ الرِّزْقُ الْوَجْهَيْنِ مِنْ إِرَادَةِ الْمَرْزُوقِ ، وَإِرَادَةِ الْمَصْدَرِ . وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ " رِزْقًا " بِكَسْرِ الرَّاءِ : حُكِيَ مَصْدَرًا ، كَرَزْقٍ بِفَتْحِهَا ، فِيمَا تَقَدَّمَ ، وَقَدْ جَعَلَهُ مَصْدَرًا
أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ فِي قَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=73مَا لَا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ شَيْئًا ) ، وَقَدْ رَدَّ ذَلِكَ عَلَيْهِ
ابْنُ الطَّرَاوَةِ ، وَسَيَأْتِي ذَلِكَ فِي مَكَانِهِ ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى . وَمَعْنَى " بِالْمَعْرُوفِ " : مَا جَرَى بِهِ الْعُرْفُ مِنْ نَفَقَةٍ وَكُسْوَةٍ لِمِثْلِهَا ؛ بِحَيْثُ لَا يَكُونُ إِكْثَارٌ وَلَا إِقْلَالٌ ، قَالَهُ
الضَّحَّاكُ . وَقَالَ
ابْنُ عَطِيَّةَ : " بِالْمَعْرُوفِ " يَجْمَعُ جِنْسَ الْقَدْرِ فِي الطَّعَامِ ، وَجَوْدَةَ الِاقْتِضَاءِ لَهُ ، وَحُسْنَ الِاقْتِضَاءِ مِنَ الْمَرْأَةِ . انْتَهَى كَلَامُهُ . وَلَا يَدُلُّ عَلَى حُسْنِ الِاقْتِضَاءِ مِنَ الْمَرْأَةِ ؛ لِأَنَّ الْآيَةَ إِنَّمَا هِيَ فِيمَا يَجِبُ عَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ مِنَ الرِّزْقِ وَالْكِسْوَةِ ؛ فَـ " بِالْمَعْرُوفِ " يَتَعَلَّقُ بِـ " رِزْقُهُنَّ " أَوْ بِـ " كِسْوَتُهُنَّ " عَلَى الْإِعْمَالِ ، إِمَّا لِلْأَوَّلِ وَإِمَّا لِلثَّانِي - إِنْ كَانَا مَصْدَرَيْنِ - وَإِنْ عَنَى بِهِمَا الْمَرْزُوقَ ، وَالشَّأْنَ ؛ فَلَا بُدَّ مِنْ حَذْفِ مُضَافٍ ، التَّقْدِيرُ : إِيصَالٌ أَوْ دَفْعٌ ، أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِمَّا يَصِحُّ بِهِ الْمَعْنَى ، وَيَكُونُ " بِالْمَعْرُوفِ " فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْهُمَا ؛ فَيَتَعَلَّقُ بِمَحْذُوفٍ . وَقِيلَ : الْعَامِلُ فِيهِ مَعْنَى الِاسْتِقْرَارِ فِي عَلَى . وَقَرَأَ
طَلْحَةُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=233وَكِسْوَتُهُنَّ ) بِضَمِّ الْكَافِ ، وَهُمَا لُغَتَانِ ، يُقَالُ : كُسْوَةً وَكِسْوَةً ، بِضَمِّ الْكَافِ وَكَسْرِهَا .