يا أوسط الناس طرا في مفاخرهم وأكرم الناس أما برة وأبا
وهو خيار الشيء وأعدله ، كما يقال : فلان من واسطة قومه ، أي : من أعيانهم ، وهل سميت " الوسطى " لكونها بين شيئين ، من : وسط فلان يسط ، إذا كان وسطا بين شيئين ؟ أو من وسط قومه إذا فضلهم ؟ فيه قولان ، والذي تقتضيه العربية أن تكون الوسطى مؤنث الأوسط ، بمعنى الفضلى مؤنث الأفضل ، كالبيت الذي أنشدناه : يا أوسط الناس ، وذلك أن أفعل التفضيل لا يبنى إلا مما يقبل الزيادة والنقص ، وكذلك فعل التعجب ، فكل ما لا يقبل الزيادة والنقص لا يبنيان منه ، ألا ترى أنك لا تقول : زيد أموت الناس ؟ ولا : ما أموت زيدا ؟ لأن الموت شيء لا يقبل الزيادة ولا النقص ، وإذا تقرر هذا فكون الشيء وسطا بين شيئين لا يقبل الزيادة ولا النقص ، فلا يجوز أن يبنى منه أفعل التفضيل ؛ لأنه لا تفاضل فيه ؛ فتعين أن تكون الوسطى بمعنى الأخير والأعدل ؛ لأن ذلك معنى يقبل التفاوت ، وخصت الصلاة الوسطى بالذكر ، وإن كانت قد اندرجت في عموم الصلوات قبلها ، تنبيها على فضلها على غيرها من الصلوات ، كما نبه على فضل جبريل وميكال في تجريدهما بالذكر في قوله : ( وملائكته ورسله وجبريل وميكال ) ، وعلى فضل من ذكر وجرد من الأنبياء بعد قوله : ( وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح ) الآية ، وعلى فضل النخل والرمان في قوله : ( فيهما فاكهة ونخل ورمان ) ، وقد تكلمنا على هذا النوع من الذكر في قوله : ( وملائكته ورسله وجبريل وميكال ) . وكثر اختلاف العلماء - من الصحابة والتابعين والفقهاء بعدهم - في ؛ ولهذا قال المراد بالصلاة الوسطى : كان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الصلاة الوسطى هكذا ، وشبك بين أصابعه . والذي تلخص فيه أقوال : أحدها : أنها العصر ، قاله سعيد بن المسيب علي ، ، وابن مسعود وأبو أيوب ، في رواية ، وابن عمر ، وسمرة بن جندب ، وأبو هريرة في رواية وابن عباس عطية ، ، وأبو سعيد الخدري وعائشة في رواية ، ، وحفصة والحسن بن المسيب ، ، وابن جبير وعطاء في رواية ، ، وطاوس والضحاك ، والنخعي ، وعبيد بن حميد ، وذر بن حبيش ، وقتادة ، وأبو حنيفة ، وأحمد ، في قول ، والشافعي من أصحاب وعبد الملك بن حبيب مالك ، وهو اختيار الحافظ في كتابه المسمى بـ ( القبس في شرح موطأ أبي بكر بن العربي ) ، واختيار مالك بن أنس أبي محمد بن عطية في تفسيره ، وقد استفاض من الحديث الصحيح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال يوم الأحزاب : ( ) . وقال شغلونا عن الصلاة الوسطى ، صلاة العصر ، ملأ الله قلوبهم وبيوتهم نارا علي : كنا نراها الصبح حتى قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذلك ؛ فعرفنا أنها العصر . وروى أبو مالك الأشعري ، : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : ( وسمرة بن جندب الصلاة الوسطى صلاة العصر ) ، وفي مصحف عائشة ، وإملاء حفصة : والصلاة الوسطى ، وهي العصر ، ومن روى : وصلاة العصر ، أول على أنه عطف إحدى الصفتين على الأخرى . وقرأ أبي ، ، وابن عباس : والصلاة الوسطى ، صلاة العصر ، على البدل . الثاني : أنها الفجر ، روي ذلك عن وعبيد بن عمير عمر ، وعلي في رواية ، وأبي موسى ، ومعاذ ، وجابر ، وأبي أمامة ، في رواية وابن عمر مجاهد ، وأنس ، ، وجابر بن زيد وعطاء ، وعكرمة ، وطاوس في رواية ابنه ، ومجاهد ، ، وعبد الله بن شداد ومالك ، في قول ، وقد والشافعي قال أبو العالية : صليت مع أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الغداة ؛ فقلت لهم : أيما الصلاة الوسطى ؟ فقالوا : التي صليت قبل ، [ ص: 241 ] ورووا عن قال : ( صلى بنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاة الغداة ، فقنت فيها قبل الركوع ورفع يديه ، فلما فرغ قال : هذه الصلاة الوسطى التي أمرنا بها أن نقوم فيها قانتين أبي رجاء العطاردي . الثالث : أنها الظهر ، روي ذلك عن ، ابن عمر وزيد ، وأسامة ، وأبي سعيد ، وعائشة . وفي رواية قالوا : وروى زيد بن ثابت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي الهاجرة والناس في هاجرتهم ، فلم يجتمع إليه أحد فتكلم في ذلك ؛ فأنزل الله تعالى : والصلاة الوسطى يريد الظهر ، وقد روي أنه لا يكون وراءه إلا الصف والصفان ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : ( ) ؛ فنزلت هذه الآية : ( لقد هممت أحرق على قوم لا يشهدون الصلاة بيوتهم حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى ) . الرابع : أنها المغرب ، روي ذلك عن ، ابن عباس . الخامس : أنها العشاء الآخرة ، ذكره وقبيصة بن ذؤيب في تفسيره ، وحكاه علي بن أحمد النيسابوري عن فرقة . السادس : أنها الصلوات الخمس ، قاله أبو عمر بن عبد البر . السابع : أنها إحدى الصلوات الخمس لا بعينها ، وبه قال معاذ بن جبل ، سعيد بن المسيب ، وأخفاها ليحافظ على الصلوات كلها ، كما أخفى ليلة القدر في ليالي شهر رمضان ، واسم الله الأعظم في سائر الأسماء ، وساعة الإجابة في يوم الجمعة ، وقد رواه وأبو بكر الوراق نافع عن ، وقاله ابن عمر ، وقد روي أنه نزلت : " والصلاة الوسطى صلاة العصر " ، ثم نسخت فنزلت : ( الربيع بن خيثم حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى ) ؛ فيلزم من هذا نسخ تعيينها ، وأبهمت بعد أن عينت . قال القرطبي المفسر : وهو الصحيح - إن شاء الله - لتعارض الأدلة وعدم الترجيح ، فلم يبق إلا المحافظة على جميعها وأدائها . الثامن : أنها الجمعة ، وفي سائر الأيام الظهر . روي ذلك عن علي ، ذكره ابن حبيب . التاسع : أنها العتمة والصبح ، قاله عمر وعثمان . العاشر : أنها الصبح والعصر معا ، قاله من فقهاء المالكية . ورجح كل قول من الأقوال التي عينت فيها أن الوسطى هي كذا ، بأحاديث وردت في فضل تلك الصلاة ، ورجح بعضها بأنها وسط بين كذا وكذا ، ولا حجة في شيء من ذلك ؛ لأن ذكر فضل صلاة معينة لا يدل على أنها التي أراد الله بقوله : ( أبو بكر الأبهري والصلاة الوسطى ) ، ولأن كونها وسطا بين كذا وكذا لا يصلح أن يبنى منه أفعل التفضيل ، كما بيناه قبل . وقد صنف شيخنا الإمام المحدث ، أوحد زمانه وحافظ أوانه ، شرف الدين كتابا في هذا المعنى سماه : ( كتاب كشف المغطى في تبيين الصلاة الوسطى ) ، قرأناه عليه ، ورجح فيه أنها صلاة العصر ، وأن ذلك مروي نصا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - روى ذلك عنه أبو محمد عبد المؤمن بن خلف بن أبي الحسن بن العفيف شرف بن الخضر بن موسى الدمياطي ، واستفاض ذلك عنه ، علي بن أبي طالب ، وعبد الله بن مسعود ، وحذيفة بن اليمان ، وعبد الله بن عباس ، وسمرة بن جندب ، وعبد الله بن عمر ، وأبو هريرة وأبو هاشم بن عتبة بن ربيعة ، وذكر فيه بقية الأقاويل العشرة التي سردناها ، وزاد سبعة أقاويل : أحدها : أنها الجمعة خاصة . الثاني : أنها الجماعة في جميع الصلوات . الثالث : أنها صلاة الخوف . الرابع : أنها الوتر ، واختاره . الخامس : أنها صلاة عيد الأضحى . السادس : أنها صلاة العيد يوم الفطر . السابع : أنها صلاة الضحى ، حكاه بعضهم وتردد فيه . فإن ثبت هذا القول فيكون تمام سبعة عشر قولا . والذي ينبغي أن نعول عليه منها هو قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو أنها صلاة العصر ، وبه قال شيخنا الحافظ أبو الحسن علي بن محمد السخاوي النحوي المقري أبو محمد - رحمه الله - أخبرنا المسند أبو بكر محمد بن أبي الطاهر إسماعيل بن عبد المحسن الدمشقي ، بقراءتي عليه بالقاهرة من ديار مصر - حرسها الله - عن ، قال : أخبرنا فقيه أبي الحسن المؤيد بن محمد بن علي الطوسي المقري الحرم أبو عبد الله محمد بن الفضل بن أحمد الصاعدي ، قال : أخبرنا أبو الحسن عبد الغفار بن محمد بن عبد الغفار الفارسي ( ح ) . وأخبرنا [ ص: 242 ] أستاذنا العلامة أبو جعفر أحمد بن إبراهيم بن الزبير الثقفي ، بقراءتي عليه بغرناطة ، من جزيرة الأندلس ، قال : أخبرنا أبو الحسن علي بن محمد بن يحيى الفارقي ، قال : أخبرنا ، قال : أخبرنا أبو محمد عبد الله بن محمد بن عبيد الله الحجري أبو عبد الله محمد بن عبد العزيز بن زغيبة المشاور ، قال : أخبرنا ( ح ) ، وأخبرنا القاضي أبو العباس أحمد بن عمر بن أنس بن دلهاث أبو علي الحسين بن عبد العزيز بن أبي الأحوص ، مناولة عن أبي القاسم أحمد بن عمر بن أحمد الخزرجي ، وهو آخر من حدث عنه ، ولم يحدثنا عنه من شيوخنا غيره ، عن أبي الحسن علي بن عبد الله بن موهب الجذامي ، وهو آخر من حدث عنه ، عن ، قال : أخبرنا أبي العباس بن دلهاث أبو العباس أحمد بن الحسن بن مندار بمكة قالا - أعني عبد الغفار وابن مندار : أخبرنا أبو أحمد محمد بن عيسى بن عمرويه الجلودي ، قال : أخبرنا أبو إسحاق إبراهيم بن محمد بن سفيان الفقيه ، أخبرنا الحافظ ، قال : وحدثنا أبو الحسين مسلم بن الحجاج النيسابوري عون بن سلام الكوفي ، حدثنا ، عن محمد بن طلحة اليامي زبيد ، عن مرة ، عن عبد الله ، قال : حبس المشركون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن صلاة العصر حتى احمرت الشمس ، أو اصفرت ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : ( ) ، أو : ( شغلونا عن الصلاة الوسطى ، صلاة العصر ، ملأ الله أجوافهم وقبورهم نارا ) . وقرأ حشا الله أجوافهم وقبورهم نارا عبد الله : ( وعلى الصلاة الوسطى ) بإعادة الجار على سبيل التوكيد . وقرأت عائشة : " والصلاة " بالنصب ، ووجه على أنه نصب على المدح والاختصاص ، ويحتمل أن يراعى موضع : على الصلاة ؛ لأنه نصب ، كما تقول : مررت بزيد وعمرا ، وروي عن قالون أنه قرأ : " الوصطى " بالصاد ، أبدلت السين صادا لمجاورة الطاء ، وقد تقدم الكلام على هذا في قوله : ( الصراط ) . الزمخشري
( وقوموا لله قانتين ) ، أي : مطيعين ، قاله ، وجابر بن زيد ، الشعبي وعطاء ، ، وابن جبير والضحاك ، والحسن . أو خاشعين ، قاله مجاهد . أو مطيلين القيام ، قاله ، ابن عمر والربيع . أو داعين ، قاله . أو ساكتين ، قاله ابن عباس . أو عابدين . أو مصلين . أو قارئين ، روي هذا عن السدي . أو ذاكرين الله في القيام ، قاله ابن عمر . أو راكدين كافي الأيدي والأبصار ، قاله الزمخشري مجاهد ، وهو الذي عبر عنه قبل بالخشوع . والأظهر حمله على السكوت ؛ إذ صح أنهم كانوا يتكلمون في الصلاة ، حتى نزلت : ( وقوموا لله قانتين ) ؛ فأمروا بالسكوت . والمعنى : وقوموا في الصلاة . وروي أنهم كانوا إذا قام أحدهم إلى الصلاة هاب الرحمن أن يمد بصره ، أو يلتفت ، أو يقلب الحصا ، أو يحدث نفسه بشيء من أمور الدنيا . وإذا كان القنوت في الآية هو السكوت على ما جاء في الحديث ، فأجمعوا على أنه لو ، فسدت صلاته ، إلا ما روي عن تكلم عامدا وهو يعلم أنه في الصلاة ، ولم يكن ذلك في إصلاح صلاته : أن الكلام لإحياء نفس ، أو مثل ذلك من الأمور الجسام ، لا يفسد الصلاة . أو ساهيا ، فقال الأوزاعي مالك : لا تفسد . وعن والشافعي مالك في بعض صور الكلام خلاف بينه وبين أصحابه . وقال أبو حنيفة ، : تفسد كالعمد ، لإصلاح صلاة كان أو لغيره ، وهو قول والثوري النخعي ، وعطاء ، والحسن ، وقتادة ، . واختلف قول وحماد بن أبي سليمان أحمد فنقل الخرقي كقول أبي حنيفة ، ونقل الأثرم عنه : إن تكلم لإصلاحها لم تفسد ، أو لغيره فسدت ، وهذا قول مالك . وفي قوله : ( وقوموا لله قانتين ) دليل على مطلوبية القيام ، وأجمعوا على أن القيام في صلاة الفرض واجب على كل صحيح قادر عليه ، كان منفردا أو إماما ، واختلفوا في ؛ فأجاز ذلك جمهور العلماء : المأموم الصحيح يصلي خلف إمام مريض قاعدا لا يستطيع القيام ، جابر بن زيد ، والأوزاعي ومالك ، وأحمد ، وإسحاق ، وأبو أيوب ، ، وسليمان بن داود الهاشمي وأبو خيثمة ، ، وابن أبي شيبة ومحمد بن إسماعيل ، ومن تبعهم من أصحاب الحديث مثل ، محمد بن نصر : فيصلي وراءه [ ص: 243 ] جالسا على مذهب هؤلاء ، وأفتى به من الصحابة : ومحمد بن إسحاق بن خزيمة جابر ، ، وأبو هريرة ، وأسيد بن حضير وقيس بن فهر . وروى هذا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم : أنس ، وعائشة ، ، وأبو هريرة وجابر ، ، وابن عمر . وأجازت طائفة صلاة القائم خلف صلاة المريض قاعدا ، وإلى هذا ذهب وأبو أمامة الباهلي ، الشافعي وداود ، وزفر ، وجماعة ب المدينة ، وهي رواية عن الوليد بن مسلم مالك ، وهي رواية غريبة عنه ، والمشهور عن مالك أنه لا يؤم أحد جالسا ، فإن فعل بطلت صلاته وصلاتهم إلا إن كان عليلا ؛ فتصح صلاته وتفسد صلاتهم ، وإلى هذا ذهب محمد بن الحسن . قال : وأول من أبطل صلاة المأموم قاعدا إذا صلى إمامه جالسا المغيرة بن مقسم صاحب أبو حاتم محمد بن حبان البستي النخعي ، وأخذ عنه ، ثم أخذ عن حماد بن أبي سليمان حماد أبو حنيفة ، وتبعه عليه من بعده من أصحابه .