تعود بسط الكف حتى لو انه دعاها لقبض لم تجبه أنامله
الملأ : الأشراف من الناس ، وهو اسم جمع ، ويجمع على أملاء ، قال الشاعر :
وقال لها الأملاء من كل معشر وخير أقاويل الرجال سديدها
وسموا بذلك لأنهم يملؤون العيون هيبة ، أو المكان إذا حضروه ، أو لأنهم مليئون بما يحتاج إليه . وقال الفراء : الملأ : الرجال في كل القرآن لا تكون فيهم امرأة ، وكذلك : القوم ، والنفر ، والرهط . وقال : الملأ : هم الوجوه وذوو الرأي . الزجاج طالوت : اسمه بالسريانية " سايل " وبالعبرانية " ساول بن قيس " ، من أولاد بنيامين بن يعقوب ، وسمي طالوت ، قالوا : لطوله ، وكان أطول من كل أحد برأسه ومنكبيه ؛ فعلى هذا يكون وزنه : فعلوتا ، كرحموت وملكوت ؛ فتكون ألفه منقلبة عن واو ، إلا أنه يعكر على هذا الاشتقاق منعه الصرف ، إلا أن يقال : إن هذا التركيب مفقود في اللسان العربي ، ولم يوجد إلا في اللسان العجمي ، وقد اتفقت اللغتان في مادة الكلمة ، كما زعموا في " يعقوب " أنه مشتق من العقب ، لكن هذا التركيب بهذا المعنى مفقود في اللسان العربي . الجسم : معروف ، وجمع في الكثرة على جسوم ، إذا كان عظيم الجسم . ( ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف ) ، مناسبة هذه الآية لما قبلها أنه تعالى متى ذكر شيئا من الأحكام التكليفية ؛ أعقب ذلك بشيء من القصص [ ص: 249 ] على سبيل الاعتبار للسامع ؛ فيحمله ذلك على الانقياد وترك العناد ، وكان تعالى قد ذكر أشياء من أحكام الموتى ومن خلفوا ؛ فأعقب ذلك بذكر هذه القصة العجيبة ، وكيف أمات الله هؤلاء الخارجين من ديارهم ، ثم أحياهم في الدنيا ، فكما كان قادرا على إحيائهم في الدنيا هو قادر على إحياء المتوفين في الآخرة ، فيجازي كلا منهم بما عمل . ففي هذه القصة تنبيه على المعاد ، وأنه كائن لا محالة ؛ فيليق بكل عاقل أن يعمل لمعاده بأن يحافظ على عبادة ربه ، وأن يوفي في حقوق عباده . وقيل : لما بين تعالى حكم النكاح بين حكم القتال ؛ لأن النكاح تحصين للدين ، والقتال تحصين للدين والمال والروح ، وقيل : مناسبة هذه الآية لما قبلها : هو أنه لما ذكر : ( كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تعقلون ) ذكر هذه القصة لأنها من عظيم آياته ، وبدائع قدرته . وهذه همزة الاستفهام دخلت على حرف النفي ؛ فصار الكلام تقريرا ، فيمكن أن يكون المخاطب علم بهذه الصفة قبل نزول هذه الآية ، ويجوز أن يكون لم يعرفها إلا من هذه الآية . ومعناه التنبيه والتعجب من حال هؤلاء ، والرؤية هنا علمية ، وضمنت معنى ما يتعدى بـ إلى ، فلذلك لم يتعد إلى مفعولين ، وكأنه قيل : ألم ينته علمك إلى كذا ؟ وقال الراغب : " رأيت " يتعدى بنفسه دون الجار ، لكن لما استعير قولهم " ألم تر " لمعنى : ألم تنظر ، عدي تعديته ، وقلما يستعمل ذلك في غير التقرير ، ما يقال : رأيت إلى كذا . انتهى . و " ألم تر " جرى مجرى التعجب في لسانهم ، كما جاء في الحديث : ( ألم تر إلى مجزز ) ، وذلك في رؤيته أرجل زيد وابنه أسامة ، وكان أسود ، فقال هذه الأقدام بعضها من بعض ، فدخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على بعض نسائه ، فقال على سبيل التعجب : ( ألم تر إلى مجزز ) الحديث . وقد جاء هذا اللفظ في القرآن : ( ألم تر إلى الذين نافقوا ) ، ( ألم تر إلى الذين تولوا قوما غضب الله عليهم ) ، ( ألم تر إلى ربك كيف مد الظل ) ، وقال الشاعر :
ألم ترياني كلما جئت طارقا وجدت بها طيبا وإن لم تطيب
ويجوز أن يكون الخطاب للنبي - صلى الله عليه وسلم - ويجوز أن يكون لكل سامع . وقرأ السلمي : " تر " بسكون الراء ، قالوا : على توهم أن الراء آخر الكلمة ، قال الراجز :
قالت سليمى اشتر لنا سويقا واشتر فعجل خادما لبيقا
ويجوز أن يكون من إجراء الوصل مجرى الوقف ، وقد جاء في القرآن : كإثبات ألف : ( الظنونا ) ، و ( السبيلا ) و ( الرسولا ) في الوصل . وهؤلاء الذين خرجوا قوم من بني إسرائيل أمروا بالجهاد فخافوا القتل ؛ فخرجوا من ديارهم فرارا من ذلك ، فأماتهم الله ليعرفهم أنه لا ينجيهم من الموت شيء ، ثم أحياهم وأمرهم بالجهاد بقوله : ( وقاتلوا في سبيل الله ) الآية . وقيل : قوم من بني إسرائيل وقع فيهم الوباء ؛ فخرجوا فرارا منه ، فأماتهم الله فبنى عليهم سائر بني إسرائيل حائطا ، حتى إذا بليت عظامهم بعث الله حزقيل فدعا الله فأحياهم له . حكى هذا قوم من اليهود . وقال لعمر بن الخطاب : هم أمة كانت قبل السدي واسط في قرية يقال لها داوردان وقع بها الطاعون ؛ فهربوا منه ، فأماتهم الله ، ثم أحياهم ليعتبروا ويعلموا أن لا مفر من قضاء الله . وقيل : مر عليهم حزقيل بعد زمان طويل وقد عريت عظامهم وتفرقت أوصالهم ، فلوى شدقه وأصابعه تعجبا مما رأى ؛ فأوحي إليه : ناد فيهم أن قوموا بإذن الله ، فنادى ، فنظر إليهم قياما يقولون : سبحانك اللهم وبحمدك ، لا إله لا أنت . وممن قال فروا من الطاعون : الحسن ، وعمار بن دينار . وقيل : فروا من الحمى ، حكاه النقاش . وقد كثر الاختلاف والزيادة والنقص في هذه القصص ، والله أعلم بصحة ذلك ، ولا تعارض بين هذه القصص ، إلا إن عين أن ( الذين خرجوا من ديارهم ) هم من ذكر في القصة لا غير ؛ وإلا فيجوز إن ذكرت كل قصة على سبيل المثال ؛ إذ لا يمتنع أن يفر ناس من الجهاد ، [ ص: 250 ] وناس من الطاعون ، وناس من الحمى ، فيميتهم ثم يحييهم ؛ ليعتبروا بذلك ويعتبر من يأتي بعدهم ، وليعلموا جميعا أن الإماتة والإحياء بيد الله ؛ فلا ينبغي أن يخاف من شيء مقدر ، ولا يغتر فطن بحيلة أنها تنجيه مما شاء الله . ( وهم ألوف ) ، في هذا تنبيه على أن الكثرة والتعاضد ، وإن كانا نافعين في دفع الأذيات الدنيوية ، فليسا بمغنيين في الأمور الإلهية . وهي جملة حالية ، وألوف جمع ألف جمع كثرة ، فناسب أن يفسر بما زاد على عشرة آلاف ، فقيل : ستمائة ألف ، وقال عطاء : تسعون ، وقيل : ثمانون ، وقال عطاء أيضا : سبعون ، وقال : أربعون ، وقال أيضا : بضع وثلاثون ، وقال ابن عباس أبو مالك : ثلاثون . يعنون ألفا . وقد فسر بما هو لأدنى العدد استعير لفظ الجمع الكثير للجمع القليل ، فقال : عشرة آلاف ، وقال أبو روق الكلبي ومقاتل : ثمانية ، وقال أبو صالح : سبعة ، وقال ، ابن عباس : أربعة ، وقال وابن جبير : ثلاثة آلاف ، وقال عطاء الخراساني البغوي : الأولى قول من قال : إنهم كانوا زيادة على عشرة آلاف ؛ لأن ألوفا جمع الكثير ، ولا يقال لما دون العشرة الآلاف ألوف . انتهى . وهذا ليس كما ذكر ؛ فقد يستعار أحد الجمعين للآخر ، وإن كان الأصل استعمال كل واحد منهما في موضوعه . وهذه التقديرات كلها لا دليل على شيء منها ، ولفظ القرآن : ( وهم ألوف ) لم ينص على عدد معين ، ويحتمل أن لا يراد ظاهر جمع ألف ، بل يكون ذلك المراد منه التكثير ، كأنه قيل : خرجوا من ديارهم وهم عالم كثيرون ، لا يكادون يحصيهم عاد ؛ فعبر عن هذا المعنى بقوله : " وهم ألوف " ، كما يصح أن تقول : جئتك ألف مرة ، لا تريد حقيقة العدد إنما تريد جئتك مرارا كثيرة لا تكاد تحصى من كثرتها ، ونظير ذلك قول الشاعر :
هو المنزل الآلاف من جو ناعط بني أسد حزنا من الأرض أوعرا
ولعل من كان معه لم يكن ألوفا ، فضلا عن أن يكونوا آلافا ، ولكنه أراد بذلك التكثير ؛ لأن العرب تكثر بآلاف وتجمعه ، والجمهور على أن قوله : " وهم ألوف " جمع ألف العدد المعروف الذي هو تكرير مائة عشر مرات ، وقال ابن زيد : ألوف جمع ألف . كقاعد وقعود . أي : خرجوا وهم مؤتلفون لم يخرجهم فرقة قومهم ولا فتنة بينهم ، بل ائتلفوا ، فخالفت هذه الفرقة ، فخرجت فرارا من الموت وابتغاء الحياة ؛ فأماتهم الله في منجاهم بزعمهم . وقال : وهذا من بدع التفاسير ، وهو كما قال . وقال القاضي : كونه جمع ألف من العدد أولى ؛ لأن ورود الموت عليهم وهم كثرة عظيمة تفيد مزيد اعتبار ، وأما وروده على قوم بينهم ائتلاف فكوروده وبينهم اختلاف في أن وجه الاعتبار لا يتغير . الزمخشري
( حذر الموت ) ، هذا علة لخروجهم ، لما غلب على ظنهم الموت بالطاعون أو بالجهاد ؛ حملهم على الخروج ذلك ، وهو مفعول من أجله ، وشروط المفعول له موجودة فيه من كونه مصدرا متحد الفاعل والزمان . ( فقال لهم الله موتوا ) ، ظاهره أن ثم قولا لله ، فقيل : قال لهم ذلك على لسان الرسول الذي أذن له في أن يقول لهم ذلك عن الله ، وقيل : على لسان الملك . وحكي : أن ملكين صاحا بهم : موتوا ؛ فماتوا . وقيل : سمعت الملائكة ذلك فتوفتهم ، وقيل : لا قول هناك ، وهو كناية عن قابليتهم الموت في ساعة واحدة ، وموتهم كموتة رجل واحد ، والمعنى : فأماتهم ، لكن أخرج ذلك مخرج الشخص المأمور بشيء ، المسرع الامتثال من غير توقف ولا امتناع ، كقوله تعالى : ( كن فيكون ) . وفي الكلام حذف ، التقدير : فماتوا ، وظاهر هذا الموت مفارقة الأرواح الأجساد ، فقيل : ماتوا ثمانية أيام ثم أحياهم بعد بدعاء حزقيل . وقيل : سبعة أيام . وقد تقدم في بعض القصص أنه عريت عظامهم وتفرقت أوصالهم ، وهذا لا يكون في العادة في ثمانية أيام ، وهذا الموت ليس بموت الآجال ، بل جعله الله في هؤلاء كمرض وحادث مما يحدث على البشر ، كحال ( الذي مر على قرية ) المذكورة بعد هذا . ( ثم أحياهم ) ، العطف بـ ثم يدل على تراخي الإحياء عن [ ص: 251 ] الإماتة ، قال قتادة : أحياهم ليستوفوا آجالهم . وظاهره أن الله هو الذي أحياهم بغير واسطة ، وقال مقاتل : كانوا قوم حزقيل ، فخرج فوجدهم موتى . فأوحى الله إليه : إني جعلت حياتهم إليك . فقال لهم : احيوا . وقال : النبي ابن عباس شمعون ، وريح الموتى توجد في أولادهم . وقيل : النبي يوشع بن نون ، وقال وهب : اسمه شمويل ، وهو ذو الكفل ، وقال مجاهد : لما أحيوا رجعوا إلى قومهم يعرقون ، لكن سحنة الموت على وجوههم ولا يلبس أحد منهم ثوبا إلا عاد كفنا دسما ، حتى ماتوا لآجالهم التي كتبت لهم . وقيل : معنى إماتتهم تذليلهم تذليلا يجري مجرى الموت ؛ فلم تغن عنهم كثرتهم وتظاهرهم من الله شيئا ، ثم أعانهم وخلصهم ليعرفوا قدرة الله في أنه يذل من يشاء ، ويعز من يشاء ، وقيل : عنى بالموت : الجهل ، وبالحياة : العلم ، كما يحيا الجسد بالروح . وأتت هذه القصة بين يدي الأمر بالقتال تشجيعا للمؤمنين ، وحثا على الجهاد . والتعريض للشهادة ، وإعلاما أن لا مفر مما قضى الله تعالى ( قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا ) ، واحتجاجا على اليهود والنصارى بإنبائه - صلى الله عليه وسلم - بما لا يدفعون صحته ، مع كونه أميا لم يقرأ كتابا ، ولم يدارس أحدا ، وعلى مشركي العرب ؛ إذ من قرأ الكتب يصدقه في إخباره بما جاء به مما هو في كتبهم . ( إن الله لذو فضل على الناس ) ، أكد هذه الجملة بـ إن واللام ، وأتى الخبر " لذو " الدالة على الشرف ، بخلاف صاحب ، و " الناس " هنا عام ؛ لأن كل أحد لله عليه فضل أي فضل ، وخصوصا هنا ؛ حيث نبههم على ما به يستبصرون ويعتبرون على النشأة الآخرة ، وأنها ممكنة عقلا ، كائنة بإخباره تعالى ؛ إذ أعاد إلى الأجسام البالية المشاهدة بالعين الأرواح المفارقة ، وأبقاها فيها الأزمان الطويلة إلى أن قبضها ثانية ، وأي فضل أجل من هذا الفضل ؛ إذ تتضمن جميع كليات العقائد المنجية وجزئياتها . ويجوز أن يراد بالناس ههنا : الخصوص ، وهم هؤلاء الذين تفضل عليهم بالنعم ، وأمرهم بالجهاد ففروا منه خوفا من الموت ؛ فأماتهم ، ثم تفضل عليهم بالإحياء وطول لهم في الحياة ؛ ليستيقنوا أن لا مفر من القدر ، ويستدركوا ما فاتهم من الطاعات ، وقص الله علينا ذلك تنبيها على أن لا نسلك مسلكهم ، بل نمتثل ما يأمر به تعالى .
( ولكن أكثر الناس لا يشكرون ) ، تقدم فضل الله على جميع الناس بالإيجاد والرزق ، وغير ذلك ، فكان المناسب لهم أنهم يشكرون الله على ذلك ، وهذا الاستدراك بـ " لكن " مما تضمنه قوله : ( إن الله لذو فضل على الناس ) ، والتقدير : فيجب عليهم أن يشكروا الله على فضله ؛ فاستدرك بأن أكثرهم لا يشكرون ، ودل على أن الشاكر قليل ، كقوله : ( وقليل من عبادي الشكور ) ، ويخص " الناس " الثاني بالمكلفين .