وطائفة قد أكفروني بحبهم وطائفة قالوا مسيء ومذنب
وقيل : لا يكره على الإسلام من خرج إلى غيره . وقال أبو مسلم ، والقفال : معناه أنه ما بنى تعالى أمر الإيمان على الإجبار والقسر ، وإنما بناه على التمكن والاختيار ، ويدل على هذا المعنى أنه لما بين دلائل [ ص: 282 ] التوحيد بيانا شافيا ، قال بعد ذلك : لم يبق عذر في الكفر إلا أن يقسر على الإيمان ويجبر عليه ، وهذا ما لا يجوز في دار الدنيا التي هي دار الابتلاء ، إذ في القهر والإكراه على الدين بطلان معنى الابتلاء . ويؤكد هذا قوله بعد : ( قد تبين الرشد من الغي ) يعني : ظهرت الدلائل ووضحت البينات ، ولم يبق بعدها إلا طريق القسر والإلجاء وليس بجائز ؛ لأنه ينافي التكليف ، وهذا الذي قاله أبو مسلم والقفال لائق بأصول المعتزلة ، ولذلك قال : لم يجر الله أمر الإيمان على الإجبار والقسر ، ولكن على التمكين والاختيار ، ونحوه قوله : ( الزمخشري ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين ) أي : لو شاء لقسرهم على الإيمان ، ولكنه لم يفعل ، وبنى الأمر على الاختيار .
والدين هنا ملة الإسلام واعتقاده ، والألف واللام للعهد ، وقيل : بدل من الإضافة أي : في دين الله .
( قد تبين الرشد من الغي ) أي : استبان الإيمان من الكفر ، وهذا يبين أن الدين هو معتقد الإسلام . وقرأ الجمهور : ( الرشد ) على وزن القفل ، والحسن : ( الرشد ) على وزن العنق ، وأبو عبد الرحمن : ( الرشد ) على وزن الجبل ، ورويت هذه أيضا عن الشعبي والحسن ومجاهد . وحكى ابن عطية عن أبي عبد الرحمن : ( الرشاد ) بالألف . والجمهور على إدغام دال ( قد ) في تاء ( تبين ) . وقرئ شاذا بالإظهار ( وتبين الرشد ) بنصب الأدلة الواضحة وبعثة الرسول الداعي إلى الإيمان ، وهذه الجملة كأنها كالعلة لانتفاء الإكراه في الدين ؛ لأن وضوح الرشد واستبانته يحمل على الدخول في الدين طوعا من غير إكراه ، ولا موضع لها من الإعراب .
( فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى ) ( الطاغوت ) : الشيطان . قاله عمر ومجاهد والشعبي والضحاك وقتادة والسدي . أو الساحر ، قاله ابن سيرين وأبو العالية . أو الكاهن ، قاله جابر وابن جبير ورفيع . أو ما عبد من دون الله ممن يرضى ذلك : كفرعون ، ونمروذ ، قاله وابن جريج . أو الأصنام ، قاله بعضهم ، وينبغي أن تجعل هذه الأقوال كلها تمثيلا ؛ لأن الطاغوت محصور في كل واحد منها . قال الطبري ابن عطية : وقدم ذكر الكفر بالطاغوت على الإيمان بالله ليظهر الاهتمام بوجوب الكفر بالطاغوت ، انتهى .
وناسب ذلك أيضا اتصاله بلفظ الغي ، ولأن الكفر بالطاغوت متقدم على الإيمان بالله ؛ لأن الكفر بها هو رفضها ورفض عبادتها ، ولم يكتف بالجملة الأولى ؛ لأنها لا تستلزم الجملة الثانية ، إذ قد يرفض عبادتها ولا يؤمن بالله ، لكن الإيمان يستلزم الكفر بالطاغوت ، ولكنه نبه بذكر الكفر بالطاغوت على الانسلاخ بالكلية ، مما كان مشتبها به ، سابقا له قبل الإيمان ؛ لأن في النصية عليه مزيد تأكيد على تركه ، وجواب الشرط ( فقد استمسك ) وأبرز في صورة الفعل الماضي المقرون بقد الدالة في الماضي على تحقيقه ، وإن كان مستقبلا في المعنى ؛ لأنه جواب الشرط ، إشعارا بأنه مما وقع استمساكه وثبت ، وذلك للمبالغة في ترتيب الجزاء على الشرط ، وأنه كائن لا محالة لا يمكن أن يتخلف عنه ، و ( بالعروة ) متعلق بـ ( استمسك ) جعل ما تمسك به من الإيمان عروة ، وهي في الأجرام موضع الإمساك وشد الأيدي ، شبه الإيمان بذلك . قال : وهذا تمثيل للمعلوم بالنظر ، والاستدلال بالمشاهد المحسوس ، حتى يتصوره السامع كأنه ينظر إليه بعينه ، فيحكم اعتقاده والتيقن ، والمشبه بالعروة الإيمان ، قاله : الزمخشري مجاهد أو الإسلام قاله ، أو لا إله إلا الله ، قاله السدي ، ابن عباس ، وابن جبير والضحاك ، أو القرآن ، قاله أيضا ، أو السنة ، أو التوفيق . أو العهد الوثيق . أو السبب الموصل إلى رضا الله [ ص: 283 ] وهذه أقوال متقاربة . السدي
( لا انفصام لها ) لا انكسار لها ولا انقطاع ، قال الفراء : الانفصام والانقصام هما لغتان ، وبالفاء أفصح ، وفرق بعضهم بينهما ، فقال : الفصم انكسار بغير بينونة ، والقصم انكسار ببينونة ، وهذه الجملة في موضع نصب على الحال من العروة ، وقيل : من الضمير المستكن في ( الوثقى ) ويجوز أن يكون خبرا مستأنفا من الله عن العروة ، ولها ، في موضع الخبر ، فتتعلق بمحذوف أي : كائن لها .
( والله سميع عليم ) أتى بهذين الوصفين ؛ لأن الكفر بالطاغوت والإيمان بالله مما ينطق به اللسان ويعتقده الجنان ، فناسب هذا ذكر هذين الوصفين ؛ لأن الكفر بالطاغوت والإيمان بالله ، وقيل : سميع لدعائك يا محمد ، عليم بحرصك واجتهادك .