تقي نقي لم يكثر غنيمة بنهكة ذي قربى ولا بحقلد
المعنى في قوله : لم يكثر ليس بمكثر ، ولذلك راعى هذا المعنى فعطف عليه قوله : ولا بحقلد ، وقال آخر :
أجدك لن ترى بثعيلبات ولا بيدان ناجية ذمولا
ولا متداركا والليل طفل ببعض نواشغ الوادي حمولا
المعنى : أجدك لست برآء ، ولما راعى هذا المعنى عطف عليه قوله : ولا متداركا ، والعطف على المعنى نصوا على أنه لا ينقاس ، وقال ، أو كالذي : معناه أو رأيت مثل الذي ؟ فحذف لدلالة ( ألم تر ) عليه ؛ لأن كلتيهما كلمة تعجيب ، انتهى . هو تخريج حسن ؛ لأن إضمار الفعل لدلالة المعنى عليه أسهل من العطف على مراعاة المعنى ، وقد جوز الزمخشري الوجه الأول . الزمخشري
وقيل : الكاف زائدة ، فيكون : الذي قد عطف على : الذي ، التقدير : ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم ، أو الذي مر على قرية ؟ قيل : كما زيدت في قوله تعالى : ( ليس كمثله شيء وهو السميع البصير ) وفي قول الراجز :
فصيروا مثل كعصف مأكول
ويحتمل أن لا يكون ذلك على حذف فعل ، ولا على العطف على المعنى ، ولا على زيادة الكاف ، بل تكون الكاف اسما على ما يذهب إليه أبو الحسن ، فتكون الكاف في موضع جر معطوفة على الذي ، التقدير : ( ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم ) أو إلى مثل ( الذي مر على قرية ) ؟ ومجيء الكاف اسما فاعلة ومبتدأة ومجرورة بحرف الجر ثابت في لسان العرب ، وتأويلها بعيد ، فالأولى هذا الوجه الأخير ، وإنما عرض لهم الإشكال من حيث اعتقاد حرفية الكاف ، حملا على مشهور مذهب البصريين ، والصحيح ما ذهب إليه أبو الحسن ، ألا ترى في الفاعلية لمثل في قول الشاعر :
وإنك لم يفخر عليك كفاخر ضعيف ولم يغلبك مثل مغلب
والكلام على الكاف يذكر في علم النحو .
والذي مر على قرية هو عزير ، قاله علي ، وابن عباس وعكرمة ، وأبو العالية ، ، وسعيد بن جبير وقتادة ، والربيع ، والضحاك ، والسدي ، ومقاتل ، ، وسليمان بن بريدة وناجية بن كعب ، وسالم الخواص . وقيل : أرمياء ، قاله وهب ، ومجاهد ، وعبد الله بن عبيد بن عمير ، . وقال وبكر بن مضر : هو أرمياء ، وهو الخضر ، وحكاه ابن إسحاق النقاش عن وهب .
قال ابن عطية : وهذا كما نراه إلا أن يكون اسما وافق اسما ؛ لأن الخضر معاصر لموسى ، وهذا الذي مر على القرية هو بعده بزمان من سبط هارون فيما روى وهب ; قال بعض شيوخنا ، يحتمل أن يكون الخضر بعينه ويكون من المعمرين ، فيكون أدرك زمان خراب القرية ، وهو إلى الآن باق على قول أكثر العلماء [ ص: 291 ] انتهى كلامه . وقيل : على كافر مر على قرية وكان على حمار ومعه سلة تين ، قاله الحسن ، وقيل : رجل من بني إسرائيل غير مسمى ، قاله مجاهد فيما حكاه ، وقيل : غلام مكي لوط ، عليه السلام ، وقيل : أشعياء . والذي أحياها بعد خرابها : لوسك الفارسي ، حكاه السهيلي عن القتيبي .
والقرية : بيت المقدس ، قاله وهب ، وقتادة ، والضحاك ، وعكرمة ، والربيع . أو قرية العنب ، وهي على فرسخين من بيت المقدس ، أو الأرض المقدسة ، قاله الضحاك ، أو المؤتفكة ، قاله قوم ، أو القرية التي خرج منها الألوف حذر الموت ، قاله ابن زيد ، أو دير هرقل ، قاله ، أو شابوراباد ، قاله ابن عباس الكلبي ، أو سلماياذ ، قاله . السدي
( وهي خاوية على عروشها ) قيل : المعنى خاوية من أهلها ثابتة على عروشها ، فالبيوت قائمة . وقال : ساقطة متهدمة جدرانها على سقوفها بعد سقوط السقوف ، وقيل : على بمعنى مع ، أي : مع أبنيتها ، والعروش على هذه الأبنية ، وهذه الجملة في موضع الحال من الفاعل الذي في ( مر ) أو من قرية ، والحال من النكرة إذا تأخرت ، تقل : وقيل : الجملة في موضع الصفة للقرية ، ويبعد هذا القول الواو ، وعلى ، متعلقة بمحذوف إذا كان المعنى : خاوية من أهلها ، أي : مستقرة على عروشها ، أو بـ ( خاوية ) إذا كان المعنى ساقطة . وقيل : ( على عروشها ) بدل من قوله : ( قرية ) أي : مر على عروشها ، وقيل : في موضع الصفة لـ ( قرية ) أي : مر على قرية كائنة على عروشها وهي خاوية . السدي
( قال أنى يحيي هذه الله بعد موتها ) قيل : لما خرب بخت نصر البابلي بيت المقدس ، حين أحدثت بنو إسرائيل الأحداث ، وقف أرمياء - أو عزير - على القرية وهي كالتل العظيم وسط بيت المقدس ؛ لأن بخت نصر أمر جنده بنقل التراب إليه حتى جعله كالجبل ، فقال هذا الكلام . قال : والمار كان كافرا بالبعث وهو الظاهر لانتظامه مع الزمخشري نمروذ في سلك ، ولكلمة الاستبعاد التي هي ( أنى يحيي ) وقيل : عزير ، أو الخضر ، أراد أن يعاين إحياء الموتى ليزداد بصيرة كما طلبه إبراهيم ، انتهى . وقال أبو علي : لا يجوز أن يكون نبيا ؛ لأن مثل هذا الشك لا يقع للأنبياء . والإحياء والإماتة هنا مجازان ، عبر بالإحياء عن العمارة ، وبالموت عن الخراب ، وقيل : حقيقتان فيكون ثم مضاف محذوف تقديره : أنى يحيي أهل هذه القرية ، أو يكون ( هذه ) إشارة إلى ما دل عليه المعنى من عظام أهلها البالية ، وجثثهم المتمزقة ، وأوصالهم المتفرقة ، فعلى القول بالمجاز يكون قوله : ( أنى يحيي ) على سبيل التلهف من الواقف المعتبر على مدينته التي عهد فيها أهله وأحبته ، وضرب له المثل في نفسه بما هو أعظم مما سأل عنه . وعلى القول الثاني يكون قوله : ( أنى يحيي ) اعترافا بالعجز عن معرفة طريقة الإحياء واستعظاما لقدرة المحيي ، وليس ذلك على سبيل الشك . وحكى عن بعضهم أنه قال : كان هذا القول شكا في الطبري ، فلذلك ضرب له المثل في نفسه . قدرة الله على الإحياء
( فأماته الله مائة عام ثم بعثه ) أي : أحياه وجعل له الحركة والانتقال ، قيل : لما مر سبعون سنة من موته ، وقد منعه من السباع والطير ، ومنع العيون أن تراه ، أرسل الله ملكا إلى ملك من ملوك فارس عظيم يقال له : لوسك ، فقال له : إن الله يأمرك أن تنفر بقوم ; فتعمر بيت المقدس وإيلياء وأرضها حتى تعود أحسن ما كانت ، فانتدب الملك ، قيل : ثلاثة آلاف قهرمان ، مع كل قهرمان ألف عامل ، وجعلوا يعمرونها ، وأهلك الله بخت نصر ببعوضة دخلت دماغه ، ونجى الله من بقي من بني إسرائيل وردهم إلى بيت المقدس ونواحيه فعمروها ثلاثين سنة ، وكثروا حتى كانوا كأحسن ما كانوا عليه .
( قال كم لبثت ) الظاهر أن القائل هو الله تعالى لقوله : ( كيف ننشزها ) وقيل : هاتف من السماء ، وقيل : جبريل ، وقيل : نبي ، وقيل : رجل مؤمن شاهده حين مات وعمر إلى حين إحيائه ، وعلى اختيار لم يكن بعد البعث كافرا ، فلذلك ساغ أن يكلمه الله ، انتهى . ولا نص في الآية على أن الله كلمه شفاها ، و ( كم ) ظرف أي : كم مدة لبثت ؟ أي : لبثت [ ص: 292 ] ميتا وهو سؤال على سبيل التقرير . الزمخشري
( قال لبثت يوما أو بعض يوم ) قال ، ابن جريج وقتادة ، والربيع : أماته الله غدوة يوم ثم بعثه قبل الغروب بعد مائة سنة ، فقال : قبل النظر إلى الشمس يوما ، ثم التفت فرأى بقية من الشمس ، فقال : أو بعض يوم ، فكان قوله : يوما على سبيل الظن ، ثم لما تحقق أنه لم يكمل اليوم ، قال : أو بعض يوم ، والأولى أن لا تكون ( أو ) هنا للترديد ، بل تكون للإضراب ، كأنه قال : بل بعض يوم ، لما لاحت له الشمس أضرب عن الإخبار الأول الذي كان على طريق الظن ، ثم أخبر بالثاني على طريق التيقن عنده . وفي قوله : ( أو بعض يوم ) دليل على أنه يطلق لفظ بعض على أكثر الشيء .
( قال بل لبثت مائة عام ) بل ، لعطف هذه الجملة على الجملة محذوفة التقدير ، قال : ما لبثت هذه المدة بل لبثت مائة عام ، وقرأ نافع ، وابن كثير ، وعاصم بإظهار التاء في ( لبثت ) وقرأ الباقون بالإدغام ، وذلك في جميع القرآن ، وذكر تعيين المدة هنا في قوله : بل لبثت مائة عام ، ولم يذكر تعيينها في قوله : ( قال إن لبثتم إلا قليلا ) وإن اشتركوا في جواب : ( لبثنا يوما أو بعض يوم ) لأن المبعوث في البقرة واحد فانحصرت مدة إماتة الله إياه ، وأولئك متفاوتو اللبث تحت الأرض ، نحو : من مات في أول الدنيا ، ومن مات في آخرها ، فلم ينحصروا تحت عدد مخصوص ، فلذلك أدرجوا تحت قوله : ( إلا قليلا ) لأن مدة الحياة الدنيا بالنسبة إلى حياة الآخرة قليلة ، والله تعالى محيط علمه بمدة لبث كل واحد واحد ، فلو ذكر مدة كل واحد واحد لاحتيج في عدة ذلك إلى أسفار كثيرة .
( فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه ) في قصة عزير أنه لما نجا من بابل ارتحل على حمار له حتى نزل دير هرقل على شط دجلة ، فطاف في القرية فلم ير فيها أحدا ، وعامة شجرها حامل ، فأكل من الفاكهة واعتصر من العنب فشرب منه ، وجعل فضل الفاكهة في سلة وفضل العنب في زق ، فلما رأى خراب القرية وهلاك أهلها قال : ( أنى يحيي ) على سبيل التعجب ، لا شكا في البعث ، وقيل : كان شرابه لبنا . قيل : وجد التين والعنب كما تركه جنيا ، والشراب على حاله .
وقرأ حمزة ، بحذف الهاء في الوصل على أنها هاء السكت ، وقرأ باقي السبعة بإثبات الهاء في الوصل والوقف ، والأظهر أن تكون الهاء أصلية ، ويحتمل أن يكون ذلك من إجراء الوصل مجرى الوقف ، وقد تقدم الكلام على هذه اللفظة في الكلام على المفردات ، وقرأ والكسائي أبي : ( لم يسنه ) بإدغام التاء في السين ، كما قرئ : ( لا يسمعون ) والأصل : لا يتسمعون ، وقرأ طلحة بن مصرف وغيره : ( لمائة سنة ) مكان لم يتسنه . وقرأ عبد الله : ( وهذا شرابك لم يتسنه ) والضمير في ( يتسنه ) مفرد ، فيحتمل أن يكون عائدا على الشراب خاصة ، ويكون قد حذف مثل هذه الجملة الحالية من الطعام لدلالة ما بعده عليه ، ويحتمل أن يكون الطعام والشراب أفرد ضميرهما لكونهما متلازمين ، فعوملا معاملة المفرد ، أو لكونهما في معنى الغذاء ، فكأنه قيل : وانظر إلى غذائك لم يتسنه ، وقال الشاعر في المتلازمين :
وكأن في العينين حب قرنفل أو سنبلا كحلت به فانهلت
والجملة من قوله : ( لم يتسنه ) ، في موضع الحال ، وهي منفية : بـ ( لم ) ، وزعم بعض أصحابنا أن إثبات الواو في الجملة المنفية بـ ( لم ) هو المختار ، كما قال الشاعر :
بأيدي رجال لم يشيموا سيوفهم ولم تكثر القتلى بها حين سلت
وزعم بعضهم أنه إذا كان منفيا فالأولى أن ينفى بلما ، نحو جاء زيد ولما يضحك ، قال : وقد تكون منفية بلم وما ، نحو : قام زيد ولم يضحك ، أو ما يضحك ، وذلك قليل جدا ، انتهى كلامه . وليس إثبات الواو مع لم أحسن من عدمها ، بل يجوز إثباتها وحذفها فصيحا ، وقد جاء ذلك في القرآن في مواضع ، قال تعالى : ( فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء ) وقال تعالى : ( أو قال أوحي إلي ولم يوح إليه شيء ) ومن قال : إن النفي بلم قليل [ ص: 293 ] جدا فغير مصيب ، وقد أمعنا الكلام على هذه المسألة في باب الحال ، في ( منهج السالك على شرح ألفية ابن مالك ) من تأليفنا .
( وانظر إلى حمارك ) قيل : لما مضت المائة أحيا الله منه عينيه وسائر جسده ميت ، ثم أحيا جسده وهو ينظر ، ثم نظر إلى حماره ، فإذا عظامه متفرقة بيض تلوح ، فسمع صوتا من السماء : أيتها العظام البالية إن الله يأمرك أن تجتمعي ، فاجتمع بعضها على بعض ، واتصلت ، ثم نودي : إن الله يأمرك أن تكتسي لحما وجلدا ، فكان كذلك . وروي أنه حين أحياه الله نهق ، وقيل : رد الله الحياة في عينيه وأخر جسده ميتا ، فنظر إلى إيلياء وما حولها وهي تعمر وتجدد ، ثم نظر إلى طعامه وشرابه لم يتغير ، نظر إلى حماره واقفا كهيئته يوم ربطه لم يطعم ولم يشرب أحياه الله له وهو يرى ، ونظر إلى الجبل وهو لم يتغير وقد أتى عليه ريح مائة عام ومطرها وشمسها وبردها . وقال وهب ، والضحاك : وانظر إلى حمارك قائما في مربطه لم يصبه شيء مائة سنة ، قال : وذلك من أعظم الآيات أن يعيشه مائة عام من غير علف ولا ماء ، كما حفظ طعامه وشرابه من التغير . الزمخشري
( ولنجعلك آية للناس ) قيل : الواو مقحمة أي : لنجعلك آية ، وقيل : تتعلق اللام بفعل محذوف مقدر تقديره أي : أريناك ذلك لتعلم قدرتنا ، ولنجعلك آية للناس ، وقيل : بفعل محذوف مقدر تأخيره ، أي : ولنجعلك آية للناس فعلنا ذلك ، يريد إحياءه بعد الموت وحفظ ما معه . وقال : كونه آية هو أنه جاء شابا على حاله يوم مات ، فوجد الحفدة والأبناء شيوخا . وقال الأعمش عكرمة : جاء وهو ابن أربعين سنة كما كان يوم مات ، ووجد بنيه قد يتوفون على مائة سنة ، وقيل : كونه آية هو أنه جاء وقد هلك كل من يعرف ، وكان آية لمن كان حيا من قومه ؛ إذ كانوا موقنين بحاله سماعا ، وقيل : أتى قومه راكب حماره ، وقال : أنا عزير ، فكذبوه ، فقال : هاتوا التوراة ، فأخذ يهذهذ عن ظهر قلبه وهم ينظرون في الكتاب ، فما خرم حرفا ، فقالوا : هو ابن الله ، ولم يقرأ التوراة ظاهرا أحد قبل عزير ، فذلك كونه آية ، وفي إماتته هذه المدة ثم إحيائه أعظم آية ، وأمره كله آية للناس غابر الدهر لا يحتاج إلى تخصيص بعض دون بعض ، والألف واللام في ( للناس ) للعهد إن عنى به من بقي من قومه ، أو من كان في عصره . أو للجنس إذ هو آية لمن عاصره ولمن يأتي بعدهم إلى يوم القيامة .
( وانظر إلى العظام كيف ننشزها ) يعني بالعظام عظام نفسه ، قاله قتادة والضحاك ، والربيع ، وابن زيد ، أو عظام حماره ، أو عظامهما . زاد : أو عظام الموتى الذين تعجب من إحيائهم ، وهذا فيه بعد ؛ لأنهم لم يحيوا له في الدنيا ، ولا يمكن أن يكون يقال له في الآخرة : ( وانظر إلى العظام كيف ننشزها ) وإنما هذا قيل له في الدنيا ، فلا يمكن حمله إلا على عظامه ، أو عظام حماره ، أو عظامهما . والأظهر أن يراد عظام الحمار ، والتقدير : إلى العظام منه ، أو على رأي الكوفيين ، أن الألف واللام عوض من الضمير ، أي : إلى عظامه ؛ لأنه قد أخبر أنه بعثه ، ثم أخبر بمحاورته تعالى له في السؤال عن مقدار ما أقام ميتا ، ثم أعقب الأمر بالنظر بالفاء ، فدل على أن إحياءه تقدم على المحاورة وعلى الأمر بالنظر . الزمخشري
وقرأ الحرميان وأبو عمرو : ( ننشرها ) بضم النون والراء المهملة ، وقرأ ، ابن عباس والحسن ، وأبو حيوة ، وأبان عن عاصم : بفتح النون والراء المهملة ، وهما من أنشر ونشر بمعنى : أحيا ، ويحتمل ( نشر ) أن يكون ضد الطي ، كأن الموت طي العظام والأعضاء ، وكأن جمع بعضها إلى بعض نشر ، وقرأ باقي السبعة ( ننشزها ) بضم النون والزاي المعجمة ، وقرأ النخعي : بفتح النون ، وضم الشين والزاي ، وروي ذلك عن ، ابن عباس وقتادة ، قاله ابن عطية . وقال السجاوندي ، عن النخعي أنه قرأ بفتح الياء وضمها مع الراء والزاي .
ومعنى ( ننشزها ) بالزاي : نحركها ، أو نرفع بعضها إلى بعض للتركيب للإحياء ، يقال : نشز وأنشزته . قال ابن عطية : وتعلق عندي أن يكون معنى النشوز رفع العظام بعضها إلى بعض ، وإنما النشوز الارتفاع قليلا ، فكأنه [ ص: 294 ] وقف على نبات العظام الرفات ، وخرج ما يوجد منها عند الاختراع ، وقال النقاشي : ( ننشزها ) معناه ننبتها ، وانظر استعمال العرب تجده على ما ذكرت لك ، ومن ذلك : نشز ناب البعير ، والنشز من الأرض على التشبيه بذلك ، ونشزت المرأة ، كأنها فارقت الحال التي ينبغي أن تكون عليها ، وانشزوا فانشزوا أي : ارتفعوا شيئا فشيئا كنشوز الناب ، فبذلك تكون التوسعة ، فكأن النشوز ضرب من الارتفاع ، ويبعد في الاستعمال لمن ارتفع في حائط أو غرفة : نشز ، انتهى كلامه .
وقرأ أبي : ( كيف ننشيها ) بالياء أي : نخلقها . وقال بعضهم : العظام لا تحيا على الانفراد حتى ينضم بعضها إلى بعض ، فالزاي أولى بهذا المعنى ، إذ هو بمعنى الانضمام دون الإحياء ، فالموصوف بالإحياء الرجل دون العظام ، ولا يقال : هذا عظم حي ، فالمعنى : وانظر إلى العظام كيف نرفعها من أماكنها من الأرض إلى جسم صاحبها للإحياء ، انتهى . والقراءة بالراء متواترة ، فلا تكون قراءة الزاي أولى .
و ( كيف ) منصوبة بـ ( ننشزها ) نصب الأحوال ، وذو الحال مفعول ( ننشزها ) ولا يجوز أن يعمل فيها ( انظر ) لأن الاستفهام لا يعمل فيه ما قبله ، وأعربوا ( كيف ننشزها ) حالا من العظام ، تقديره : وانظر إلى العظام محياة ، وهذا ليس بشيء ؛ لأن الجملة الاستفهامية لا تقع حالا ، وإنما تقع حالا كيف وحدها نحو : كيف ضربت زيدا ؟ ولذلك تقول : قائما أم قاعدا ؟ فتبدل منها الحال ، والذي يقتضيه النظر أن هذه الجملة في موضع البدل من العظام ، وذلك أن ( انظر ) البصرية تتعدى بإلى ، ويجوز فيها التعليق ، فتقول : انظر كيف يصنع زيد ، قال تعالى : ( انظر كيف فضلنا بعضهم على بعض ) فتكون هذه الجملة في موضع نصب على المفعول بانظر ؛ لأن ما يتعدى بحرف الجر ، إذا علق صار يتعدى لمفعول ، تقول : فكرت في أمر زيد ، ثم تقول : فكرت هل يجيء زيد ؟ فيكون : هل يجيء زيد ، في موضع نصب على المفعول بفكرت ، ( فكيف ننشزها ) بدل من العظام على الموضع ؛ لأن موضعه نصب ، وهو على حذف مضاف أي : فانظر إلى حال العظام كيف ننشزها ، ونظير ذلك قول العرب : عرفت زيدا أبو من هو ، على أحد الأوجه فالجملة من قولك : ( أبو من هو ) في موضع البدل من قوله ( زيدا ) مفعول عرفت ، وهو على حذف مضاف ، التقدير : عرفت قصة زيد أبو من ، وليس الاستفهام في باب التعليق مرادا به معناه ، بل هذا من المواضع التي جرت في لسان العرب مغلبا عليها أحكام اللفظ دون المعنى ، ونظير ذلك : أي : في باب الاختصاص ، في نحو قولهم : اللهم اغفر لنا أيتها العصابة ، غلب عليها أكثر أحكام النداء وليس المعنى على النداء ، وقد تقدم من قولنا ، إن كلام العرب على ثلاثة أقسام : قسم يكون فيه اللفظ مطابقا للمعنى ، وهو أكثر كلام العرب . وقسم يغلب فيه أحكام اللفظ كهذا الاستفهام الواقع في التعليق ، والواقع في التسوية . وقسم يغلب فيه أحكام المعنى نحو : أقائم الزيدان . وقد أمعنا الكلام على مسألة الاستفهام الواقع في التعليق في كتابنا الكبير المسمى ( بالتذكرة ) وهي إحدى المسائل التي سألني عنها قاضي القضاة تقي الدين أبو الفتح محمد بن علي القشيري ، عرف بابن دقيق العيد ; وسألني أن أكتب له فيها ، وكان سؤاله في قوله ، عليه السلام : " فإن أحدكم لا يدري أين باتت يده " .
( ثم نكسوها لحما ) الكسوة حقيقة هي ما وارى الجسد من الثياب ، واستعارها هنا لما أنشأ من اللحم الذي غطى به العظم ، كقوله : ( فكسونا العظام لحما ) وهي استعارة في غاية الحسن ، إذ هي استعارة عين لعين ، وقد [ ص: 295 ] جاءت الاستعارة في المعنى للجرم ، قال النابغة :
الحمد لله إذ لم يأتني أجلي حتى اكتسيت من الإسلام سربالا
وروي أنه كان يشاهد اللحم والعصب والعروق كيف تلتئم وتتواصل ، والذي يدل عليه ظاهر اللفظ : أن قول الله له كان بعد تمام بعثه ، لا أن القول كان بعد إحياء بعضه .
والتعقيب بالفاء في قوله : ( فانظر ) إلى آخره ، يدل على أن العظام لا يراد بها عظام نفسه ، وتقدم ذكر شيء من هذا ، إلا إن كان وضع ( ننشرها ) مكان أنشرتها ، و ( نكسوها ) مكان كسوتها ، فيحتمل ، وتكرر الأمر بالنظر إلى الطعام والشراب في الثلاث الخوارق ، ولم ينسق نسق المفردات ؛ لأن كل واحد منها خارق عظيم ومعجز بالغ ، وبدأ أولا بالنظر إلى العظام والشراب حيث لم يتغيرا على طول هذه المدة ؛ لأن ذلك أبلغ ، إذ هما من الأشياء التي يتسارع إليها الفساد ، إذ ما قام به الحياة وهو الحمار يمكن بقاؤه الزمان الطويل ، ويمكن أن يحتش بنفسه ويأكل ويرد المياه ، كما قال صلى الله عليه وسلم في ضالة الإبل : . ولما أمر بالنظر إلى الطعام والشراب ، وبالنظر إلى الحمار وهذه الأشياء هي التي كانت صحبته ، وقال تعالى : ( " معها سقاؤها وحذاؤها ترد الماء وتأكل الشجر حتى يأتيها ربها " ولنجعلك آية للناس ) أي : فعلنا ذلك ، ولما كان قوله : ( وانظر إلى حمارك ) كالمجمل ، بين له جهة النظر بالنسبة إلى الحمار ، فجاء النظر الثالث توضيحا للنظر الثاني ، من أي جهة ينظر إلى الحمار ، وهي جهة إحيائه وارتفاع عظامه شيئا فشيئا عند التركيب وكسوتها اللحم ، فليس نظرا مستقلا ، بل هو من تمام النظر الثاني ، فلذلك حسن الفصل بين النظرين بقوله : ( ولنجعلك آية للناس ) وليس في الكلام تقديم وتأخير كما زعم بعضهم ، وإن الأنظار منسوق بعضها على بعض ، وإن قوله : ( ولنجعلك آية للناس ) إلخ وهو مقدم في اللفظ ، مؤخر في الرتبة ، وفي هذه الآية أقوى دليل على البعث إذ وقعت الإماتة والإحياء في دار الدنيا مشاهدة .
( فلما تبين له قال أعلم أن الله على كل شيء قدير ) قرأ الجمهور : ( تبين ) مبنيا للفاعل ، وقرأ : ( تبين له ) مبنيا للمفعول الذي لم يسم فاعله ، وقرأ ابن عباس ابن السميقع : بين له ، بغير تاء مبنيا لما لم يسم فاعله ، فعلى قراءة الجمهور الظاهر أن تبين فعل لازم والفاعل مضمر يدل عليه المعنى ، وقدره : فلما تبين له ما أشكل عليه ، يعني أمر إحياء الموتى ، وينبغي أن يحمل على أنه تفسير معنى ، وتفسير الإعراب أن يقدر مضمرا يعود على كيفية الإحياء التي استغربها بعد الموت ، وقال الزمخشري : لما اتضح له عيانا ما كان مستنكرا في قدرة الله عنده قبل إعادته . قال الطبري ابن عطية : وهذا خطأ ؛ لأنه ألزم ما لا يقتضيه ، وفسر على القول الشاذ . والاحتمال الضعيف ما حكى عن بعضهم أنه قال : كان هذا القول شكا في قدرة الله على الإحياء ، ولذلك ضرب له المثل في نفسه ، انتهى . وقال الطبري وبدأ به - ما نصه - : وفاعل تبين مضمر تقديره : فلما تبين له أن الله على كل شيء قدير ، قال : [ ص: 296 ] أعلم أن الله على كل شيء قدير ، فحذف الأول لدلالة الثاني عليه كما في قولهم : ضربني وضربت زيدا ، انتهى كلامه . فجعل ذلك من باب الإعمال ، وهذا ليس من باب الإعمال ؛ لأنهم نصوا على أن العاملين في هذا الباب لا بد أن يشتركا ، وأدى ذلك بحرف العطف حتى لا يكون الفصل معتبرا ، ويكون العامل الثاني معمولا للأول ، وذلك نحو قولك : جاءني يضحك زيد ، فجعل في جاءني ضميرا أو في يضحك ، حتى لا يكون هذا الفعل فاصلا ، ولا يرد على هذا جعلهم ( الزمخشري آتوني أفرغ عليه قطرا ) ولا ( هاؤم اقرءوا كتابيه ) ولا ( تعالوا يستغفر لكم رسول الله ) ولا ( يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة ) من الإعمال ؛ لأن هذه العوامل مشتركة بوجه ما من وجوه الاشتراك ، ولم يحصل الاشتراك في العطف ولا العمل ، ولتقرير هذا بحث يذكر في النحو ، فإذا كان على ما نصوا فليس العامل الثاني مشركا بينه وبين ( تبين ) الذي هو العامل الأول بحرف عطف ، ولا بغيره ، ولا هو معمول لتبين ، بل هو معمول لقال ، وقال جواب لما أن قلنا : إنها حرف وعاملة في ( لما ) أن قلنا : إنها ظرف ، و ( تبين ) على هذا القول في موضع خفض بالظرف ، ولم يذكر النحويون في مثل هذا الباب : لو جاء قتلت زيدا ، ولا : متى جاء قتلت زيدا ، ولا : إذا جاء ضربت خالدا ، ولذلك حكى النحويون أن العرب لا تقول : أكرمت أهنت زيدا .
وقد ناقض في قوله : فإنه قال : وفاعل ( تبين ) مضمر ، ثم قدره ، فلما تبين له أن الله على كل شيء قدير قال : أعلم ، إلى آخره ، قال : فحذف الأول لدلالة الثاني عليه ، كما في قولهم : ضربني وضربت زيدا ، والحذف ينافي الإضمار للفاعل ، وهذا عند البصريين إضمار يفسره ما بعده ، ولا يجيز البصريون في مثل هذا الباب حذف الفاعل أصلا ، فإن كان أراد بالإضمار الحذف فقد خرج إلى قول الزمخشري من أن الفاعل في هذا الباب لا يضمر ؛ لأنه يؤدي إلى الإضمار قبل الذكر ، بل يحذف عنده الفاعل ، والسماع يرد عليه ، قال الشاعر : الكسائي
هوينني وهويت الخرد العربا أزمان كنت منوطا بي هوى وصبا
وأما على قراءة فالجار والمجرور هو المفعول الذي لم يسم فاعله ، وأما في قراءة ابن عباس ابن السميقع فهو مضمر : أي : بين له هو ، أي : كيفية الإحياء ، وقرأ الجمهور وقال مبنيا للفاعل ، على قراءة جمهور السبعة : أعلم ، مضارعا ضميره يعود على المار ، وقال ذلك على سبيل الاعتبار ، كما أن الإنسان إذا رأى شيئا غريبا قال : لا إله إلا الله . وقال أبو علي : معناه أعلم هذا الضرب من العلم الذي لم أكن علمته ، يعني يعلم عيانا ما كان يعلمه غيبا ، وأما على قراءة أبي رجاء ، وحمزة ، اعلم ، فعل أمر من علم ، فالفاعل ضمير يعود على الله تعالى ، أو على الملك القائل له عن الله ، ويناسب هذا الوجه الأوامر السابقة من قوله : وانظر ، فقال له : اعلم ، ويؤيده قراءة والكسائي عبد الله : ( قيل اعلم ) فبنى : قيل لما لم يسم فاعله ، والمفعول الذي لم يسم فاعله ضمير القول لا الجملة ، وقد تقدم الكلام على ذلك أول هذه السورة مشبعا فأغنى عن إعادته هنا ، وجوزوا أن يكون الفاعل ضمير المار ، ويكون نزل نفسه منزلة المخاطب الأجنبي ، كأنه قال لنفسه : اعلم ، ومنه : والأعمش
ودع هريرة . . . . .
وألم تغتمض عيناك . . . . . .
وتطاول ليلك . . . . .
وإنما يخاطب نفسه ، نزلها منزلة الأجنبي .
وروى الجعبي عن أبي بكر قال : أعلم أمرا ، من أعلم ، فالفاعل بـ ( قال ) يظهر أنه ضمير يعود على الله ، أمره أن يعلم غيره بما شاهد من قدرة الله ، وعلى ما جوزوا في ( اعلم ) الأمر ، من علم يجوز أن يكون الفاعل ضمير المار .