وقرأ الجمهور : ذو عسرة ، على أن : كان تامة ، وهو قول ، سيبويه وأبي علي ، وإن وقع غريم من غرمائكم ذو عسرة ، وأجاز بعض الكوفيين أن تكون : كان ، ناقصة هنا ، وقدر الخبر : وإن كان من غرمائكم ذو عسرة فحذف المجرور الذي هو الخبر ، وقدر أيضا : وإن كان ذو عسرة لكم عليه حق ، وحذف خبر كان لا يجوز عند أصحابنا ، لا اقتصارا ولا اختصارا لعلة ذكروها في النحو .
وقرأ أبي ، ، وابن مسعود وعثمان ، ( ذا عسرة ) وقرأ وابن عباس ( معسرا ) وحكى الأعمش الداني عن أحمد بن موسى أنها كذلك في مصحف أبي علي إن في كان اسمها ضميرا تقديره : هو ، أي : الغريم ، يدل على إضماره ما تقدم من الكلام ؛ لأن المرابي لا بد له ممن يرابيه .
وقرئ ( ومن كان ذا عسرة ) وهي قراءة ، وحكى أبان بن عثمان المهدوي أن في مصحف عثمان ( فإن كان ) بالفاء ، فمن نصب ذا عسرة أو قرأ معسرا ، وذلك بعد ( وإن كان ) فقيل : يختص بأهل الربا ، ومن رفع فهو عام في جميع من عليه دين وليس بلازم ؛ لأن الآية إنما سيقت في أهل الربا ، وفيهم نزلت ، وقيل : ظاهر الآية يدل على أن الأصل الإيسار ، وأن العدم طارئ جاذب يحتاج إلى أن يثبت .
( فنظرة إلى ميسرة ) قرأ الجمهور ( فنظرة ) على وزن نبقة ، وقرأ أبو رجاء ، ومجاهد ، والحسن ، والضحاك ، وقتادة : بسكون الظاء وهي لغة تميمية ، يقولون في : كبد كبد . وقرأ عطاء ( فناظرة ) على وزن : فاعلة وخرجه على أنها مصدر كقوله تعالى : ( الزجاج ليس لوقعتها كاذبة ) وكقوله : ( تظن أن يفعل بها فاقرة ) وكقوله : ( يعلم خائنة الأعين ) وقال : قرأ عطاء ( فناظرة ) بمعنى : فصاحب الحق ناظره ، أي : منتظره ، أو صاحب نظرته ، على طريقة النسب ، كقولهم : مكان عاشب ، وباقل ، بمعنى : ذو عشب وذو بقل ، وعنه : فناظره ، على الأمر بمعنى : فسامحه بالنظرة ، وباشره بها ، انتهى ، ونقلها ابن عطية ، وعن مجاهد : جعلاه أمرا ، والهاء ضمير الغريم ، وقرأ عبد الله ( فناظروه ) أي : فأنتم ناظروه ، أي : فأنتم منتظروه ، فهذه ست قراءات ، ومن جعله اسم مصدر أو مصدرا فهو يرتفع على أنه خبر مبتدأ محذوف تقديره : فالأمر والواجب على صاحب الدين نظرة منه لطلب الدين من المدين إلى ميسرة منه .
وقرأ نافع وحده ( ميسرة ) بضم السين ، والضم لغة أهل الحجاز ، وهو قليل ; كمقبرة ، ومشرفة ، ومسربة ، والكثير مفعلة بفتح العين ، وقرأ الجمهور بفتح السين على اللغة الكثيرة ، وهي لغة أهل نجد ، وقرأ عبد الله ( إلى ميسوره ) على وزن مفعول مضافا إلى ضمير الغريم ، وهو عند الأخفش مصدر كالمعقول والمجلود في قولهم : ماله معقول ولا مجلود ، أي : عقل وجلد ، ولم يثبت مفعولا مصدرا ، وقرأ سيبويه عطاء ومجاهد ( إلى ميسره ) بضم السين وكسر الراء بعدها ضمير الغريم . وقرئ كذلك بفتح السين ، وخرج ذلك على حذف التاء لأجل الإضافة ، كقوله :
وأخلفوك عد الأمر الذي وعدوا
أي : عدة ، وهذا - أعني حذف التاء - لأجل الإضافة ، هو مذهب الفراء وبعض المتأخرين ، وأداهم إلى هذا التأويل : أن مفعلا ليس في الأسماء المفردة ، فأما في الجمع فقد ذكروا ذلك في قول : عدي بن زيد
أبلغ النعمان عنى مألكا أنه قد طال حبسي وانتظاري
وفي قول جميل :
بثين الزمي لا إن لا إن لزمته على كثرة الواشين أي معون
فمألك ومعون جمع مألكة ومعونة ، وكذلك قوله :
ليوم روع أو فعال مكرم
هذا تأويل أبي علي ، وتأول أبو الفتح على أنها مفردة حذف منها التاء ، وقال : ليس في [ ص: 341 ] الكلام مفعل ، يعني في الآحاد ، كذا قال سيبويه أبو علي ، وحكي عن : مهلك ، مثلث اللام ، وأجاز سيبويه أن يكون : مفعل واحدا ولا يخالف قول الكسائي ، إذ يقال : ليس في الكلام كذا ، وإن كان قد جاء منه حرف أو حرفان ، كأنه لا يعتد بالقليل ، ولا يجعل له حكم ، وتقدم شيء من الإشارة إلى الخلاف : أهذا الإنظار يختص بدين الربا ؟ وهو قول سيبويه ابن عباس وشريح ، أم ذلك عام في كل معسر بدين ربا أو غيره ؟ وهو قول ، أبي هريرة والحسن ، وعطاء ، والضحاك ، ، وعامة الفقهاء . والربيع بن خيثم
وقد جاء في أحاديث كثيرة ، منها : " فضل إنظار المعسر " . ومنها : " من أنظر معسرا ، ووضع عنه ، أظله الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله " . يؤتى بالعبد يوم القيامة فيقول : يا رب ما عملت لك خيرا قط أريدك به إلا أنك رزقتني مالا فكنت أوسع على المقتر ، وأنظر المعسر ، فيقول الله عز وجل : أنا أحق بذلك منك ، فتجاوزوا عن عبدي
( وأن تصدقوا خير لكم ) أي : تصدقوا على الغريم برأس المال أو ببعضه خير من الإنظار ، قاله الضحاك والسدي ، وابن زيد ، والجمهور ، وقيل : وأن تصدقوا فالإنظار خير لكم من المطالبة ، وهذا ضعيف ؛ لأن الإنظار للمعسر واجب على رب الدين ، فالحمل على فائدة جديدة أولى ، ولأن : أفعل التفضيل باقية على أصل وصفها ، والمراد بالخير : حصول الثناء الجميل في الدنيا والأجر الجزيل في الآخرة . وقال قتادة : ندبوا إلى أن يتصدقوا برءوس أموالهم على الغني والفقير .
وقرأ الجمهور ( وأن تصدقوا ) بإدغام التاء في الصاد ، وقرأ عاصم ( تصدقوا ) بحذف التاء ، وفي مصحف عبد الله ( تتصدقوا ) بتاءين وهو الأصل ، والإدغام تخفيف ، والحذف أكثر تخفيفا .
( إن كنتم تعلمون ) : يريد العمل ، فجعله من لوازم العلم ، وقيل : تعلمون والقبض ، وقيل : تعلمون أن ما أمركم به ربكم أصلح لكم . فضل التصدق على الإنظار
قيل : آخر آية نزلت آية الربا ، قاله عمر ، ، ويحمل على أنها من آخر ما نزل ؛ لأنه الجمهور قالوا : آخر آية نزلت : ( وابن عباس واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله ) فقيل : قبل موته بتسع ليال ، ثم لم ينزل شيء . وروي : بثلاث ساعات ، وقيل : عاش بعدها أحدا وثمانين يوما ، وقيل : أحدا وعشرين يوما ، وقيل : سبعة أيام ، وروي أنه قال : " اجعلوها بين آية الربا وآية الدين " . وروي أنه قال ، عليه السلام : جاءني جبريل فقال : اجعلها على رأس مائتين وثمانين آية من البقرة ، وتقدم الكلام على : واتقوا يوما ، في قوله : ( واتقوا يوما لا تجزي ) .
وقرأ يعقوب ، وأبو عمرو ( ترجعون ) مبنيا للفاعل ، وخبر عباس عن أبي عمرو ، وقرأ باقي السبعة مبنيا للمفعول وقرأ الحسن ( يرجعون ) على معنى يرجع جميع الناس ، وهو من باب الالتفات ، قال : كان الله تعالى رفق بالمؤمنين عن أن يواجههم بذكر الرجعة إذ هي مما تتفطر له القلوب ، فقال لهم : ( ابن جني واتقوا ) ثم رجع في ذكر الرجعة إلى الغيبة رفقا بهم ، انتهى ، وقرأ أبي ( تردون ) بضم التاء ، حكاه عنه ابن عطية ، وقال : وقرأ الزمخشري عبد الله ( يردون ) وقرأ أبي ( تصيرون ) انتهى .
قال الجمهور : والمراد بهذا اليوم يوم القيامة ، وقال قوم : هو يوم الموت ، والأول أظهر لقوله : ( ثم توفى كل نفس ما كسبت ) والمعنى إلى حكم الله وفصل قضائه .
( ثم توفى كل نفس ) أي : تعطى وافيا جزاء ( ما كسبت ) من خير وشر ، وفيه نص على تعلق الجزاء بالكسب ، وفيه رد على الجبرية .
( وهم لا يظلمون ) أي : لا ينقصون مما يكون جزاء العمل الصالح من الثواب ، ولا يزادون على جزاء العمل السيء من العقاب ، وأعاد الضمير أولا في ( كسبت ) على لفظ النفس ، وفي قوله : ( وهم لا يظلمون ) على المعنى لأجل فاصلة الآي ، إذ لو أتى وهي لا تظلم لم تكن فاصلة ، ومن قرأ ( يرجعون ) بالياء فتجيء ( وهم ) عليه غائبا مجموعا لغائب مجموع .