وبعد فإن المحبة والإرادة والعلم والجهل أفعال القلب وهي من أعظم أفعال العباد ، وقال : بين أن أفعال القلوب كأفعال الجوارح في أن الوعيد يتناولها ، ويعني ما يلزم إظهاره إذا خفي ، وما يلزم كتمانه إذا ظهر مما يتعلق به الحقوق ، ولم يرد بذلك ما يخطر بالقلب مما قد رفع فيه المأثم ، انتهى كلامه . وإلى ما يهجس في النفس أشار ، والله أعلم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقوله : " القاضي عبد الجبار " وقال : إن تظهروا العمل أو تسروه . إن الله تعالى تجاوز لأمتي ما حدثت به أنفسها ولم تعمل به وتكلم
وقال أبو علي : يحاسب عباده على ما يخفون من أعمالهم وعلى ما يبدونه ، فيغفر للمستحق ويعذب المستحق ، ودلت على أن . الثواب والعقاب يستحقان بالعزم وسائر أفعال القلوب إذا كانت طاعة أو معصية
وقال : من السوء وهذا حسن لأنه جاء بعد ذلك ذكر الغفران والتعذيب ، لكن ذيل ذلك الزمخشري بقوله : ( الزمخشري فيغفر لمن يشاء ) لمن استوجب المغفرة بالتوبة مما أظهر منه أو أضمر ، ( ويعذب من يشاء ) من استوجب العقوبة بالإصرار ، انتهى ، وهذه نزعة اعتزالية ، وأهل السنة يقولون : إن الغفران قد يكون من الله تعالى لمن مات مصرا على المعصية ولم يتب ، فهو في المشيئة ، إن شاء غفر له وإن شاء عذبه ( إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ) .
ثم قال : ولا يدخل فيما يخفيه الإنسان الوسواس ، وحديث النفس ؛ لأن ذلك مما ليس في وسعه الخلو منه ، ولكن ما اعتقده وعزم عليه ، وعن الزمخشري عبد الله بن عمر ، أنه تلاها فقال : لئن أخذنا الله بهذا لنهلكن ، ثم بكى حتى سمع نشجه ، فذكر فقال : يغفر الله لابن عباس لأبي عبد الرحمن ، قد وجد المسلمون منها مثل ما وجد ، فنزل : ( لا يكلف الله نفسا إلا وسعها ) انتهى كلامه ، وقال ابن عطية : في أنفسكم ، يقتضي قوة اللفظ أنه ما تقرر في النفس واعتقد واستصحب الفكر فيه ، وأما الخواطر التي لا يمكن دفعها فليست في النفس إلا على تجوز ، انتهى .
وقال بعضهم : إن هذه الآية منسوخة بقوله : ( لا يكلف الله نفسا إلا وسعها ) وينبغي أن يجعل هذا تخصيصا إذا قلنا : إن الوسوسة والهواجس مندرجة تحت ما في قوله : ( ما في أنفسكم ) والأصح أنها محكمة ، وأنه تعالى يحاسبهم على ما عملوا وما لم يعملوا مما ثبت في نفوسهم ونووه وأرادوه ، فيغفر للمؤمنين ، ويأخذ به أهل الكفر والنفاق ، وقيل : العذاب الذي يكون جزاء للخواطر هو مصائب الدنيا وآلامها وسائر مكارهها ، وروي هذا المعنى عن عائشة ، ولما كان اللفظ مما يمكن أن يدخل فيه الخواطر ، أشفق الصحابة ، فبين الله ما أراد بها وخصصها ، ونص على حكمه أنه لا يكلف نفسا إلا وسعها ، والخواطر ليس دفعها في الوسع ، وكان في هذا فرجهم وكشف كربهم .
والآية خبر ، والنسخ لا يدخل الأخبار ، وانجزم ( يحاسبكم ) على أنه جواب الشرط ، وقيل : عبر عن العلم بالمحاسبة إذ من جملة تفاسير الحسيب : العالم ، فالمعنى : أنه يعلم ما في السرائر والضمائر ، وقيل : الجزاء مشروط بالمشيئة أو بعدم المحاسبة ، ويكون التقدير : يحاسبكم إن شاء أو يحاسبكم إن لم يسمح .
وقرأ ابن عامر ، وعاصم ، ويزيد ، ويعقوب ، وسهل : ( فيغفر لمن يشاء ويعذب ) بالرفع فيهما على القطع ، ويجوز على وجهين : أحدهما : أن يجعل الفعل خبر مبتدأ محذوف ، والآخر : أن يعطف جملة من فعل وفاعل على ما تقدم وقرأ باقي السبعة بالجزم عطفا على الجواب ، وقرأ ، ابن عباس ، والأعرج وأبو حيوة بالنصب فيهما على إضمار : إن ، فينسبك منها مع ما بعدها مصدر مرفوع معطوف على مصدر متوهم من الحساب ، تقديره : يكن محاسبة فمغفرة وتعذيب ، وهذه الأوجه قد جاءت في قول الشاعر :
فإن يهلك أبو قابوس يهلك ربيع الناس والشهر الحرام
[ ص: 361 ]
ونأخذ بعده بذناب عيش أجب الظهر ليس له سنام
يروى بجزم : ونأخذ ، ورفعه ونصبه وقرأ الجعفي ، وخلاد : ( يغفر لمن يشاء ) ويروى أنها كذلك في مصحف ، وطلحة بن مصرف عبد الله ، قال : هي على البدل من ( يحاسبكم ) فهي تفسير للمحاسبة ، انتهى . وليس بتفسير ، بل هما مترتبان على المحاسبة ، ومثال الجزم على البدل من الجزاء قوله : ( ابن جني ومن يفعل ذلك يلق أثاما يضاعف له العذاب ) .
وقال : ومعنى هذا البدل التفصيل لجملة الحساب ؛ لأن التفصيل أوضح من المفصل ، فهو جار مجرى بدل البعض من الكل ، أو بدل الاشتمال ، كقولك : ضربت زيدا رأسه ، وأحب زيدا عقله ، وهذا البدل واقع في الأفعال وقوعه في الأسماء لحاجة القبيلين إلى البيان ، انتهى كلامه ، وفيه بعض مناقشة ، أما أولا : فلقوله : ومعنى هذا البدل التفصيل لجملة الحساب ، وليس الغفران والعذاب تفصيلا لجملة الحساب ؛ لأن الحساب إنما هو تعداد حسناته وسيئاته وحصرها ، بحيث لا يشذ شيء منها ، والغفران والعذاب مترتبان على المحاسبة ، فليست المحاسبة تفصل الغفران والعذاب . الزمخشري
وأما ثانيا : فلقوله بعد أن ذكر بدل البعض والكل وبدل الاشتمال : هذا البدل وقوعه في الأسماء لحاجة القبيلين إلى البيان ، أما بدل الاشتمال فهو يمكن ، وقد جاء ؛ لأن الفعل بما هو يدل على الجنس يكون تحته أنواع يشتمل عليها ، ولذلك إذا وقع عليه النفي انتفت جميع أنواع ذلك الجنس ، وأما بدل البعض من الكل فلا يمكن في الفعل ، إذ الفعل لا يقبل التجزي ، فلا يقال في الفعل : له كل وبعض إلا بمجاز بعيد ، فليس كالاسم في ذلك ، ولذلك يستحيل وجود بدل البعض من الكل بالنسبة لله تعالى ؛ إذ الباري تعالى واحد فلا ينقسم ولا يتبعض .
قال ، وقد ذكر قراءة الجزم : فإن قلت : كيف يقرأ الجازم ؟ قلت : يظهر الراء ويدغم الباء ، ومدغم الراء في اللام لاحن مخطئ خطأ فاحشا ، وراويه عن الزمخشري أبي عمرو مخطئ مرتين ؛ لأنه يلحن وينسب إلى أعلم الناس بالعربية ما يؤذن بجهل عظيم ، والسبب في نحو هذه الروايات قلة ضبط الرواة ، والسبب في قلة الضبط قلة الدراية ، ولا يضبط نحو هذا إلا أهل النحو ، انتهى كلامه . وذلك على عادته في الطعن على القراء ، وأما ما ذكر أن [ ص: 362 ] مدغم الراء في اللام لاحن مخطئ خطأ فاحشا إلى آخره ، فهذه مسألة اختلف فيها النحويون ، فذهب الخليل ، وأصحابه : إلى أنه لا يجوز إدغام الراء في اللام من أجل التكرير الذي فيها ، ولا في النون . قال وسيبويه أبو سعيد : ولا نعلم أحدا خالفه إلا ، وإلا ما روي عن يعقوب الحضرمي أبي عمرو ، وأنه كان يدغم الراء في اللام ، متحركة متحركا ما قبلها ، نحو : ( يغفر لمن ) ( العمر لكي لا ) ، ( واستغفر لهم الرسول ) فإن سكن ما قبل الراء أدغمها في اللام في موضع الضم والكسر ، نحو ( الأنهار لهم ) و ( النار ليجزي ) فإن انفتحت وكان ما قبلها حرف مد ولين أو غيره لم يدغم نحو ( من مصر لامرأته ) و ( الأبرار لفي نعيم ) و ( لن تبور ليوفيهم ) و ( الحمير لتركبوها ) فإن سكنت الراء أدغمها في اللام بلا خلاف عنه إلا ما روى أحمد بن جبير بلا خلاف عنه ، عن اليزيدي ، عنه : أنه أظهرها ، وذلك إذا قرأ بإظهار المثلين ، والمتقاربين المتحركين لا غير ، على أن المعمول في مذهبه بالوجهين جميعا على الإدغام نحو : ( ويغفر لكم ) انتهى ، وأجاز ذلك الكسائي وحكياه سماعا ، ووافقهما على سماعه رواية وإجازة والفراء أبو جعفر الرواسي ، وهو إمام من أئمة اللغة والعربية من الكوفيين ، وقد وافقهم أبو عمرو على الإدغام رواية وإجازة ، كما ذكرناه ، وتابعه يعقوب كما ذكرناه ، وذلك من رواية الوليد بن حسان ، والإدغام وجه من القياس ، ذكرناه في كتاب ( التكميل لشرح التسهيل ) من تأليفنا ، وقد اعتمد بعض أصحابنا على أن ما روي عن القراء من الإدغام الذي منعه البصريون يكون ذلك إخفاء لا إدغاما ، وذلك لا يجوز أن يعتقد في القراء أنهم غلطوا ، وما ضبطوا ، ولا فرقوا بين الإخفاء والإدغام ، وعقد هذا الرجل بابا قال : هذا باب يذكر فيه ما أدغمت القراء مما ذكر أنه لا يجوز إدغامه ، وهذا لا ينبغي ، فإن لسان العرب ليس محصورا فيما نقله البصريون فقط ، والقراءات لا تجيء على ما علمه البصريون ونقلوه ، بل القراء من الكوفيين يكادون يكونون [ ص: 363 ] مثل قراء البصرة ، وقد اتفق على نقل إدغام الراء في اللام كبير البصريين ورأسهم : ، أبو عمرو بن العلاء ، وكبراء ويعقوب الحضرمي أهل الكوفة : الرواسي ، ، والكسائي ، وأجازوه ورووه عن العرب ، فوجب قبوله والرجوع فيه إلى علمهم ونقلهم ؛ إذ من علم حجة على من لم يعلم . والفراء
وأما قول : إن راوي ذلك عن الزمخشري أبي عمرو مخطئ مرتين ، فقد تبين أن ذلك صواب ، والذي روى ذلك عنه الرواة ، ومنهم : أبو محمد اليزيدي وهو إمام في النحو ، إمام في القراءات ، إمام في اللغات .
قال النقاش : يغفر لمن ينزع عنه ، ويعذب من يشاء إن أقام عليه . وقال : يغفر لمن يشاء العظيم ، ويعذب من يشاء على الصغير . الثوري
وقد تعلق قوم بهذه الآية في جواز تكليف ما لا يطاق ، وقالوا : كلفوا أمر الخواطر ، وذلك مما لا يطاق ، قال ابن عطية : وهذا غير بين ، وإنما كان من الخواطر تأويلا تأوله أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يثبت تكليفا .
( والله على كل شيء قدير ) لما ذكر المغفرة والتعذيب لمن يشاء ، عقب ذلك بذكر القدرة ، إذ ما ذكر جزء من متعلقات القدرة .