( التوراة ) : اسم عبراني ، وقد تكلف النحاة في اشتقاقها وفي وزنها ، وذلك بعد تقرير النحاة أن الأسماء الأعجمية لا يدخلها اشتقاق ، وأنها لا توزن ، يعنون اشتقاقا عربيا . [ ص: 371 ] فأما اشتقاق ( التوراة ) ففيه قولان : أحدهما : إنها من : ورى الزند يرى ، إذا قدح وظهر منه النار ، فكأن التوراة ضياء من الضلال ، وهذا الاشتقاق قول الجمهور ، وذهب أبو فيد مورج السدوسي إلى أنها مشتقة من : ورى ، كما روي أنه كان إذا أراد سفرا ورى بغيره ؛ لأن أكثر التوراة تلويح . وأما وزنها فذهب الخليل ، ، وسائر البصريين إلى أن وزنها : فوعلة ، والتاء بدل من الواو ، كما أبدلت في : تولج ، فالأصل فيها ووزنه وولج ؛ لأنهما من ورى ، ومن ولج ، فهي : كحوقلة ، وذهب وسيبويه الفراء إلى أن وزنها : تفعلة ، كتوصية ، ثم أبدلت كسرة العين فتحة والياء ألفا ، كما قالوا في : ناصية ، وجارية : ناصاه وجاراه .
وقال : كأنه يجيز في توصية توصاه ، وهذا غير مسموع ، وذهب بعض الكوفيين إلى أن وزنها : تفعلة ، بفتح العين من : وريت بك زنادي ، وتجوز إمالة التوراة وقد قرئ بذلك على ما سيأتي إن شاء الله تعالى . الزجاج
( الإنجيل ) اسم عبراني أيضا ، وينبغي أن لا يدخله اشتقاق ، وأنه لا يوزن ، وقد قالوا : وزنه : إفعيل كإجفيل ، وهو مشتق من النجل ، وهو الماء الذي ينز من الأرض . قال الخليل : استنجلت الأرض نجالا ، وبها نجال ، إذا خرج منها الماء ، والنجل أيضا : الولد والنسل ، قاله الخليل ، وغيره ، ونجله أبوه أي : ولده ، وحكى في نوادره : أن الولد يقال له : نجل ، وأن اللفظة من الأضداد ، والنجل أيضا : الرمي بالشيء . وقال أبو القاسم الزجاجي : الإنجيل مأخوذ من النجل ، وهو الأصل ، فهذا ينحو إلى ما حكاه الزجاج الزجاجي .
قال أبو الفتح : فهو من نجل إذا ظهر ولده ، أو من ظهور الماء من الأرض ، فهو مستخرج إما من اللوح المحفوظ ، وإما من التوراة ، وقيل : هو مشتق من التناجل ، وهو التنازع ، سمي بذلك لتنازع الناس فيه .
وقال : التوراة والإنجيل اسمان أعجميان ، وتكلف اشتقاقهما من الوري والنجل ، ووزنهما متفعلة وإفعيل : إنما يصح بعد كونهما عربيين ، انتهى ، وكلامه صحيح ، إلا أن في كلامه استدراكا في قوله : متفعلة ، ولم يذكر مذهب البصريين في أن وزنها : فوعلة ، ولم ينبه في : تفعلة ، على أنها مكسورة العين ، أو مفتوحتها ، وقيل : هو مشتق من نجل العين ، كأنه وسع فيه ما ضيق في التوراة . الزمخشري
الانتقام : افتعال من النقمة ، وهو السطوة والانتصار ، وقيل : هي المعاقبة على الذنب مبالغة في ذلك ، ويقال : نقم ونقم إذا أنكر ، وانتقم عاقب .
صور : جعل له صورة ، قيل : وهو بناء للمبالغة من صار يصور ، إذا أمال ، وثنى إلى حال ، ولما كان التصوير إمالة إلى حال وإثباتا فيها ، جاء بناؤه على المبالغة ، والصورة : الهيئة يكون عليها الشيء بالتأليف . وقال المروزي : التصوير إنه ابتداء مثال من غير أن يسبقه مثله .
الزيغ : الميل ، ومنه : زاغت الشمس ( وزاغت الأبصار ) وقال الراغب : الزيغ : الميل عن الاستقامة إلى أحد الجانبين ، وزاغ وزال وما يتقارب ، لكن زاغ لا يقال إلا فيما كان من حق إلى باطل .
التأويل : مصدر أول ، ومعناه : آخر الشيء ومآله ، قاله الراغب ، وقال غيره : التأويل المرد والمرجع ، قال :
أؤول الحكم على وجهه ليس قضائي بالهوى الجائر
الرسوخ : الثبوت ، قال :
لقد رسخت في القلب مني مودة لليلى أبت أيامها أن تغيرا
الهبة : العطية المتبرع بها ، يقال : وهب يهب هبة ، وأصله : أن يأتي المضارع على يفعل ، بكسر العين ، ولذلك حذفت الواو لوقوعها بين ياء وكسرة ، لكن لما كانت العين حرف حلق فتحت مع مراعاة الكسرة المقدرة ، وهو نحو : وضع يضع ، إلا أن هذا فتح لكون لامه حرف حلق ، والأصل فيهما : يوهب ويوضع ، ويكون : وهب ، بمعنى جعل ، ويتعدى إذ ذاك إلى مفعولين ، تقول العرب : وهبني الله فداك ، أي : جعلني الله فداك ، وهي في هذا الوجه لا تتصرف ، فلا تستعمل منها بهذا المعنى إلا الفعل الماضي خاصة .
لدن : [ ص: 372 ] ظرف ، وقل أن تفارقها : من ، قاله ابن جني ، ومعناها : ابتداء الغاية في زمان أو مكان ، أو غيره من الذوات غير المكانية ، وهي مبنية عند أكثر العرب ، وإعرابها لغة قيسية ، وذلك إذا كانت مفتوحة اللام مضمومة الدال ، بعدها النون ، فمن بناها قيل : فلشبهها بالحروف في لزوم استعمال واحد ، وامتناع الإخبار بها ، بخلاف : عند ، ولدي ، فإنهما لا يلزمان استعمالا واحدا فإنهما يكونان لابتداء الغاية ، وغير ذلك ، ويستعملان فضلة وعمدة ، فالفضلة كثير ، ومن العمدة ( وعنده مفاتح الغيب ) ( ولدينا كتاب ينطق بالحق ) وأوضح بعضهم علة البناء فقال : علة البناء كونها تدل على الملاصقة للشيء وتختص بها ، بخلاف ( عند ) فإنها لا تختص بالملاصقة ، فصار فيها معنى لا يدل عليه الظرف ، بل هو من قبيل ما يدل عليه الحرف ، فهي كأنها متضمنة للحرف الذي كان ينبغي أن يوضع دليلا على القرب ، ومثله : ثم وهنا ؛ لأنهما بنيا لما تضمنا معنى الحرف الذي كان ينبغي أن يوضع ليدل على الإشارة ، ومن أعربها ، وهم قيس ، فتشبيها بعند لكون موضعها صالحا لعند ، وفيها تسع لغات غير الأولى : لدن ، ولدن ، ولدن ، ولدن ، ولدن ، ولد ولد ، ولد ولت ، بإبدال الدال تاء ، وتضاف إلى المفرد لفظا كثيرا ، وإلى الجملة قليلا ، فمن إضافتها إلى الجملة الفعلية قول الشاعر :
صريع غوان راقهن ورقنه لدن شب حتى شاب سود الذوائب
وقال الآخر :
لزمنا لدن سألتمونا وفاقكم فلا يك منكم للخلاف جنوح
ومن إضافتها إلى الجملة الاسمية قول الشاعر :
تذكر نعماه لدن أنت يافع إلى أنت ذو فودين أبيض كالنسر
وجاء إضافتها إلى : أن والفعل ، قال :
وليت فلم يقطع لدن أن وليتنا قرابة ذي قربى ولا حق مسلم
وأحكام لدن كثيرة ، ذكرت في علم النحو .
الإغناء : الدفع والنفع ، وفلان عظيم الغنى ، أي : الدفع والنفع . الدأب : العادة ، دأب على كذا : واظب عليه وأدمن ، قال زهير :
لأرتحلن بالفجر ثم لأدأبن إلى الليل إلا أن يعرجني طفل
الذنب : التلو ؛ لأن العقاب يتلوه ، ومنه الذنب والذنوب لأنه يتبع الجاذب .
[ ص: 373 ] بسم الله الرحمن الرحيم ( الم الله لا إله إلا هو الحي القيوم ) هذه السورة ، سورة آل عمران ، وتسمى : الزهراء ، والأمان ، والكنز ، والمعينة ، والمجادلة ، وسورة الاستغفار ، وطيبة ، وهي مدنية ، الآيات ستين ، وسبب نزولها فيما ذكره الجمهور : أنه وفد على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفد نصارى نجران ، وكانوا ستين راكبا ، فيهم أربعة عشر من أشرافهم ، منهم ثلاثة إليهم يئول أمرهم ، أميرهم العاقب عبد المسيح ، وصاحب رحلهم السيد الأيهم ، وعالمهم أبو حارثة بن علقمة ، أحد بني بكر بن وائل ، وذكر من جلالتهم ، وحسن شارتهم [ ص: 374 ] وهيئتهم ، وأقاموا بالمدينة أياما يناظرون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في عيسى ، ويزعمون تارة أنه الله ، وتارة ولد الإله ، وتارة : ثالث ثلاثة ، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يذكر لهم أشياء من صفات الباري تعالى ، وانتفاءها عن عيسى ، وهم يوافقونه على ذلك ، ثم أبوا إلا جحودا ، ثم قالوا : يا محمد ، ألست تزعم أنه كلمة الله وروح منه ؟ قال : " بلى " قالوا : فحسبنا ، فأنزل الله فيهم صدر هذه السورة إلى نيف وثمانين آية منها ، إلى أن دعاهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى الابتهال .
وقال مقاتل : نزلت في اليهود المبغضين لعيسى ، القاذفين لأمه ، المنكرين لما أنزل الله عليه من الإنجيل .
ومناسبة هذه السورة لما قبلها واضحة ؛ لأنه لما ذكر آخر البقرة ( أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين ) ناسب أن يذكر نصرة الله تعالى على الكافرين ، حيث ناظرهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ورد عليهم بالبراهين الساطعة ، والحجج القاطعة ، فقص تعالى أحوالهم ، ورد عليهم في اعتقادهم ، وذكر تنزيهه تعالى عما يقولون ، وبداءة خلق مريم وابنها المسيح إلى آخر ما رد عليهم ، ولما كان مفتتح آية آخر البقرة ( آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه ) فكأن في ذلك الإيمان بالله وبالكتب ، ناسب ذكر أوصاف الله تعالى ، وذكر ما أنزل على رسوله ، وذكر المنزل على غيره ، صلى الله عليهم .
قرأ السبعة : الم الله ، بفتح الميم ، وألف الوصل ساقطة ، وروى أبو بكر في بعض طرقه ، عن عاصم : سكون الميم ، وقطع الألف ، وذكرها الفراء عن عاصم ، ورويت هذه القراءة عن الحسن ، وعمرو بن عبيد ، والرواسي ، والأعمش ، والبرجمي ، وابن القعقاع : وقفوا على الميم ، كما وقفوا على الألف واللام ، وحقها ذلك ، وأن يبدأ بعدها كما تقول : واحد اثنان .
وقرأ أبو حيوة بكسر الميم ، ونسبها ابن عطية إلى الرواسي ، ونسبها إلى الزمخشري ، وقال : توهم التحريك لالتقاء الساكنين ، وما هي بمقبولة ، يعني : هذه القراءة ، انتهى ، وقال غيره : ذلك رديء ؛ لأن الياء تمنع من ذلك ، والصواب الفتح ، قراءة جمهور الناس ، انتهى ، وقال عمرو بن عبيد الأخفش : يجوز الم الله ، بكسر الميم لالتقاء الساكنين . قال : هذا خطأ ، ولا تقوله العرب لثقله . الزجاج
واختلفوا في فتحة الميم : فذهب إلى أنها حركت لالتقاء الساكنين ، كما حركوا : من الله ، وهمزة الوصل ساقطة للدرج كما سقطت في نحو : من الرجل ، وكان الفتح أولى من الكسر لأجل الياء ، كما قالوا : أين وكيف ، ولزيادة الكسرة قبل الياء ، فزال الثقل ، وذهب سيبويه الفراء إلى أنها حركة نقل من همزة الوصل ؛ لأن حروف الهجاء ينوى بها الوقف ، فينوى بما بعدها الاستئناف ، فكأن الهمزة في حكم الثبات كما في أنصاف الأبيات نحو :
لتسمعن وشيكا في دياركم ألله أكبر يا ثارات عثمانا
وضعف هذا المذهب بإجماعهم على أن الألف الموصولة في التعريف تسقط في الوصل ، وما يسقط لا تلقى حركته ، قاله أبو علي ، وقد اختار مذهب الفراء في أن الفتحة في الميم هي حركة الهمزة حين [ ص: 375 ] أسقطت للتخفيف ، وأورد أسئلة وأجاب عنها ، فقال : فإن قلت : كيف جاز إلقاء حركتها عليها وهي همزة وصل لا تثبت في درج الكلام ، فلا تثبت حركتها ؛ لأن ثبات حركتها كثباتها ؟ قلت : ليس هذا بدرج ؛ لأن الميم في حكم الوقف والسكون ، والهمزة في حكم الثابت ، وإنما حذفت تخفيفا ، وألقيت حركتها على الساكن قبلها لتدل عليها ، ونظيره قولهم : واحد اثنان ، بإلقاء حركة الهمزة على الدال ، انتهى هذا السؤال وجوابه ، وليس جوابه بشيء ؛ لأنه ادعى أن الميم حين حركت موقوفة عليها ، وأن ذلك ليس بدرج ، بل هو وقف ، وهذا خلاف لما أجمعت العرب والنحاة عليه من أنه لا يوقف على متحرك ألبتة ، سواء كانت حركته إعرابية ، أو بنائية ، أو نقلية ، أو لالتقاء الساكنين ، أو للحكاية ، أو للاتباع ، فلا يجوز في : قد أفلح ، إذا حذفت الهمزة ، ونقلت حركتها إلى دال قد ، أن تقف على دال قد ، بالفتحة ، بل تسكنها قولا واحدا . الزمخشري
وأما قوله : ونظير ذلك قولهم : واحد اثنان بإلقاء حركة الهمزة على الدال ، فإن ذكر أنهم يشمون آخر واحد لتمكنه ، ولم يحك الكسر لغة ، فإن صح الكسر فليس واحد موقوفا عليه ، كما زعم سيبويه ، ولا حركته حركة نقل من همزة الوصل ، ولكنه موصول بقولهم : اثنان ، فالتقى ساكنان ، دال واحد ، وثاء اثنين ، فكسرت الدال لالتقائهما ، وحذفت الهمزة ؛ لأنها لا تثبت في الوصل ، وأما ما استدل به الزمخشري الفراء من قولهم : ثلاثة أربعة ، بإلقاء الهمزة على الهاء ، فلا دلالة فيه ؛ لأن همزة أربعة همزة قطع في حال الوصل بما قبلها وابتدائها ، وليس كذلك همزة الوصل نحو : من الله ، وأيضا ، فقولهم : ثلاثة أربعة بالنقل ليس فيه وقف على ثلاثة ، إذ لو وقف عليها لم تكن تقبل الحركة ، ولكن أقرت في الوصل هاء اعتبارا بما آلت إليه في حال ما ، لا أنها موقوف عليها .
ثم أورد سؤالا ثانيا ، فقال : فإن قلت هلا زعمت أنها حركت لالتقاء الساكنين ؟ قلت : لأن التقاء الساكنين لا نبالي به في باب الوقف ، وذلك كقولك : هذا الزمخشري إبراهيم ، وداود ، وإسحاق ، ولو كان لالتقاء الساكنين في حال الوقف موجب التحريك لحرك الميمان في ألف لام ميم لالتقاء الساكنين ، ولما انتظر ساكن آخر ، انتهى هذا السؤال وجوابه ، وهو سؤال صحيح ، وجواب صحيح ، لكن الذي قال : إن الحركة هي لالتقاء الساكنين لا يتوهم أنه أراد التقاء الياء والميم من ألف لام ميم في الوقف ، وإنما عنى التقاء الساكنين اللذين هما : ميم ميم الأخيرة ، ولام التعريف ، كالتقاء نون من ولام الرجل ، إذا قلت : من الرجل .
ثم أورد سؤالا ثالثا ، فقال : فإن قلت : إنما لم يحركوا لالتقاء الساكنين في ميم ؛ لأنهم أرادوا [ ص: 376 ] الوقف ، وأمكنهم النطق بساكنين ، فإذا جاء بساكن ثالث لم يمكن إلا التحريك فحركوا ؟ قلت : الدليل على أن الحركة ليست لملاقاة الساكن أنهم كان يمكنهم أن يقولوا : واحد اثنان ، بسكون الدال مع طرح الهمزة ، فجمعوا بين ساكنين ، كما قالوا : أصيم ومديق ، فلما حركوا الدال علم أن حركتها هي حركة الهمزة الساقطة لا غير ، وليست لالتقاء الساكنين ، انتهى هذا السؤال وجوابه ، وفي سؤاله تعمية في قوله : فإن قلت : إنما لم يحركوا لالتقاء الساكنين ؟ ويعني بالساكنين : الياء والميم في ميم ، وحينئذ يجيء التعليل بقوله : لأنهم أرادوا الوقف وأمكنهم النطق بساكنين ، يعني الياء والميم ، ثم قال : فإن جاء بساكن ثالث ، يعني لام التعريف ، لم يمكن إلا التحريك ، يعني في الميم ، فحركوا - يعني الميم - لالتقائها ساكنة مع لام التعريف ، إذ لو لم يحركوا لاجتمع ثلاثة سواكن ، وهو لا يمكن ، هذا شرح السؤال . الزمخشري
وأما جواب عن سؤاله ، فلا يطابق ؛ لأنه استدل على أن الحركة ليست لملاقاة ساكن بإمكانية الجمع بين ساكنين في قولهم : واحد اثنان ، بأن يسكنوا الدال ، والثاء ساكنة ، وتسقط الهمزة ، فعدلوا عن هذا الإمكان إلى نقل حركة الهمزة إلى الدال ، وهذه مكابرة في المحسوس ، لا يمكن ذلك أصلا ، ولا هو في قدرة البشر أن يجمعوا في النطق بين سكون الدال وسكون الثاء ، وطرح الهمزة . الزمخشري
وأما قوله : فجمعوا بين ساكنين ، فلا يمكن الجمع كما قلناه ، وأما قوله : كما قالوا : أصيم ومديق ، فهذا ممكن كما هو في : راد وضال ؛ لأن في ذلك التقاء الساكنين على حدهما المشروط في النحو ، فأمكن النطق به ، وليس مثل : واحد اثنان ؛ لأن الساكن الأول ليس حرف علة ، ولا الثاء في مدغم ، فلا يمكن الجمع بينهما .
وأما قوله : فلما حركوا الدال علم أن حركتها هي حركة الهمزة الساقطة لا غير ، وليست لالتقاء الساكنين ، لما بني على أن الجمع بين الساكنين في واحد اثنان ممكن ، وحركة التقاء الساكنين إنما هي لا يمكن أن يجتمعا فيه في اللفظ ، ادعى أن حركة الدال هي حركة الهمزة الساقطة لالتقاء الساكنين ، وقد ذكرنا عدم إمكان ذلك ، فإن صح كسر الدال ، كما نقل هذا الرجل ، فتكون حركتها لالتقاء الساكنين لا لنقل ، وقد رد قول الفراء ، واختيار إياه بأن قيل : لا يجوز أن تكون حركة الميم حركة الهمزة ألقيت عليها ، لما في ذلك من الفساد والتدافع ، وذلك أن سكون آخر ميم إنما هو على نية الوقف عليها ، وإلقاء حركة الهمزة عليها إنما هو على نية الوصل ، ونية الوصل توجب حذف الهمزة ، ونية الوقف على ما قبلها توجب ثباتها وقطعها ، وهذا متناقض ، انتهى ، وهو رد صحيح . الزمخشري
والذي تحرر في هذه الكلمات : أن العرب متى سردت أسماء مسكنة الآخر وصلا ووقفا ، فلو التقى آخر مسكن منها ، بساكن آخر ، حرك لالتقاء الساكنين ، فهذه الحركة التي في ميم : الم الله ، هي حركة التقاء الساكنين .
والكلام على تفسير : ( الم ) تقدم في أول البقرة ، واختلاف الناس في ذلك الاختلاف المنتشر الذي لا يوقف منه على شيء يعتمد عليه في تفسيره وتفسير أمثاله من الحروف المقطعة .
والكلام على : ( الله لا إله إلا هو الحي القيوم ) تقدم في آية ( وإلهكم إله واحد لا إله ) وفي أول آية الكرسي ، فأغنى ذلك عن إعادته هنا .
وذكر ابن عطية عن القاضي الجرجاني أنه ذهب في النظم إلى أن أحسن الأقوال هنا أن يكون ( الم ) إشارة إلى حروف المعجم ، كأنه يقول : هذه الحروف كتابك ، أو نحو هذا .
ويدل قوله ( الله لا إله إلا هو الحي القيوم نزل عليك الكتاب ) على ما ترك ذكره ، مما هو خبر عن الحروف ، قال : وذلك في نظمه مثل قوله : ( أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه ) وترك الجواب لدلالة قوله ( فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله ) عليه ، تقديره : كمن قسا قلبه ، ومنه قول الشاعر :
[ ص: 377 ]
فلا تدفنوني إن دفني محرم عليكم ولكن خامري أم عامر
أي : ولكن اتركوني للتي يقال لها : خامري أم عامر .
قال ابن عطية : يحسن في هذا القول أن يكون نزل خبر قوله : ( الله ) حتى يرتبط الكلام إلى هذا المعنى الذي ذكره الجرجاني ، وفيه نظر ؛ لأن مثليته ليست صحيحة الشبه بالمعنى الذي نحا إليه ، وما قاله في الآية محتمل ، ولكن الأبرع في نظم الآية أن يكون ( الم ) لا يضم ما بعدها إلى نفسها في المعنى ، وأن يكون ( الله لا إله إلا هو الحي القيوم ) كلاما مبتدأ جزما ، جملة رادة على نصارى نجران الذين وفدوا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فحاجوه في عيسى ابن مريم ، وقالوا : إنه الله ، انتهى كلامه .
قال ابن كيسان : موضع ( الم ) نصب ، والتقدير : اقرءوا الم ، وعليكم الم ، ويجوز أن يكون في موضع رفع بمعنى : هذا الم ، وذلك الم ، وتقدم من قول الجرجاني أن يكون مبتدأ ، والخبر محذوف ، أي : هذه الحروف كتابك .
وقرأ عمر بن الخطاب ، وعبد الله بن مسعود ( القيام ) وقال وعلقمة بن قيس خارجة في مصحف عبد الله ( القيم ) وروي هذا أيضا عن علقمة .
( الله ) رفع على الابتداء ، وخبره : ( لا إله إلا هو ) و ( نزل عليك الكتاب ) خبر بعد خبر ، ويحتمل أن يكون ( نزل ) هو الخبر ، و ( لا إله إلا هو ) جملة اعتراض ، وتقدم في آية الكرسي استقصاء إعراب : ( لا إله إلا هو الحي القيوم ) فأغنى عن إعادته هنا .
وقال الرازي : مطلع هذه السورة عجيب ؛ لأنهم لما نازعوا كأنه قيل : إما أن تنازعوا في معرفة الله ، أو في النبوة ، فإن كان الأول فهو باطل ؛ لأن الأدلة العقلية دلت على أنه : حي قيوم ، والحي القيوم يستحيل أن يكون له ولد ، وإن كان في الثاني فهو باطل ؛ لأن الطريق الذي عرفتم أن الله تعالى أنزل التوراة والإنجيل ، هو بعينه قائم هنا ، وذلك هو المعجزة .