العبرة : الاتعاظ يقال منه : اعتبر ، وهو الاستدلال بشيء على شيء يشبهه ، واشتقاقها من العبور ، وهو مجاوزة الشيء إلى الشيء ، ومنه : عبر النهر ، وهو شطه ، والمعبر : السفينة ، والعبارة يعبر بها إلى [ ص: 392 ] المخاطب بالمعاني ، وعبرت الرؤيا مخففا ومثقلا : نقلت ما عندك من علمها إلى الرائي أو غيره ممن يجهل . وكان الاعتبار انتقالا عن منزلة الجهل إلى منزلة العلم ، ومنه العبرة : وهي الدمع ; لأنها تجاوز العين .
الشهوة : ما تدعو النفس إليه ، والفعل منه : اشتهى ، ويجمع بالألف والتاء فيقال : شهوات ، ووجدت أنا في شعر العرب جمعها على : شهى ، نحو : نزوة ونزى ، وكوة وكوى ، على قول من زعم أن : كوى جمع كوة ، بفتح الكاف ، وهذا مع : قرية وقرى ، ذكره النحويون مما جاء على وزن " فعلة " معتل اللام ، وجمع على " فعل " ، واستدركت أنا : شهى ، وقالت امرأة من بني نضر بن معاوية :
فلولا الشهى والله كنت جديرة بأن أترك اللذات في كل مشهد
القنطار : فنعال نونه زائدة ، قاله ، فيكون وزنه : فنعالا من : قطر يقطر . وقيل : أصل ؛ ووزن " فعلال " ، فيه خلاف : أهو واقع على عدد مخصوص ؟ أم هو وزن لا يحد ولا يحصر ؟ والقائلون بأنه عدد مخصوص اختلفوا في ذلك العدد ، ويأتي ذلك في التفسير ، إن شاء الله تعالى . ابن دريد
ويقال منه : قنطر لرجل إذا كان عنده قناطير ، أو قنطار من المال . وقال : هو مأخوذ من : قنطرت الشيء ، عقدته وأحكمته ، ومنه سميت القنطرة لإحكامها ; وقيل : قنطرته : عبيته شيئا على شيء ، ومنه سمي القنطرة . فشبه المال الكثير الذي يعبى بعضه على بعض بالقنطرة . الزجاج
الذهب : معروف ، وهو مؤنث ، يجمع على ذهاب وذهوب . وقيل : الذهب جمع ذهبة .
والفضة : معروفة ، وجمعها فضض ، فالذهب مشتق من الذهاب ، والفضة من انفض الشيء : تفرق ، ومنه : فضضت القوم .
الخيل : جمع لا واحد له من لفظه ، بل واحده : فرس ؛ وقيل : واحده : خايل ، كراكب وركب ، قاله أبو عبيدة ; سميت بذلك لاختيالها في مشيها . وقيل : اشتقاقه من التخيل ، لأنه يتخيل في صورة من هو أعظم منه . وقيل : الاختيال مأخوذ من التخيل .
النعم : الإبل فقط ، قال الفراء : وهو مذكر ، ولا يؤنث ، يقولون هذا نعم وارد . وقال الهروي : النعم : يذكر ويؤنث ، وإذا جمع انطلق على الإبل والبقر والغنم . وقال ابن قتيبة : الأنعام : الإبل ، والبقر ، والغنم ، واحدها نعم ، وهو جمع لا واحد له من لفظه ; وسميت بذلك لنعومة مسها وهو لينها ، ومنه : الناعم ، والنعامة ، والنعامي : الجنوب ، سميت بذلك للين هبوبها .
المآب : مفعل من : آب يئوب إيابا . أي : رجع ، يكون للمصدر ، والمكان والزمان .
( قل للذين كفروا ستغلبون وتحشرون إلى جهنم وبئس المهاد ) سبب نزولها أن يهود بني قينقاع قالوا بعد وقعة بدر : إن قريشا كانوا أغمارا ، ولو حاربتنا لرأيت رجالا . وقيل : نزلت في قريش قبل بدر بسنتين ، فحقق الله تعالى ذلك . وقيل : لما غلب قريشا ببدر ، قالت اليهود : هو النبي المبعوث الذي في كتابنا ، لا تهزم له راية . فقالت لهم شياطينهم : لا تعجلوا حتى نرى أمره في وقعة أخرى . فلما كانت أحد كفروا جميعهم ; وقالوا : ليس بالنبي المنصور .
وقيل : في أبي سفيان وقومه ، جمعوا لرسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، بعد بدر ، فنزلت . ولما أخبر تعالى قبل أن الذين كفروا لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم وأنهم وقود النار ، ناسب ذلك الوعد الصادق اتباعه هذا الوعد الصادق ، وهو كالتوكيد لما قبله ، فالغلبة تحصل بعدم انتفاعهم بالأموال والأولاد ، والحشر لجهنم مبدأ كونهم يكونون لها وقودا .
وقرأ حمزة ، : سيغلبون ويحشرون ، بالياء على الغيبة ، وقرأ باقي السبعة : بالتاء ، خطابا ، فتكون الجملة معمولا للقول . ومن قرأ بالياء فالظاهر أن الضمير للذين كفروا ، وتكون الجملة إذ ذاك ليست محكية بقل ، بل محكية بقول آخر ، التقدير : قل لهم قولي سيغلبون ، وإخباري أنه يقع عليهم الغلبة والهزيمة . كما قال تعالى : ( والكسائي قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف ) فبالتاء أخبرهم ; بمعنى ما أخبر به من أنهم سيغلبون ، وبالياء أخبرهم باللفظ [ ص: 393 ] الذي أخبر به أنهم سيغلبون ، وأجاز بعضهم ، وهو : الفراء ، وأحمد بن يحيى ، وأورده ابن عطية احتمالا أن يعود الضمير في : سيغلبون ، في قراءة التاء على قريش ، أي : قل لليهود ستغلب قريش ، وفيه بعد .
والظاهر أن : الذين كفروا ، يعم الفريقين المشركين واليهود ، وكل قد غلب بالسيف ، والجزية ، والذلة ، وظهور الدلائل والحجج ، وإلى معناها الغاية ، وإن جهنم منتهى حشرهم ; وأبعد من ذهب إلى أن " إلى " في معنى " في " ، فيكون المعنى : إنهم يجمعون في جهنم وبئس المهاد ; يحتمل أن يكون من جملة المقول ، ويحتمل أن يكون استئناف كلام منه تعالى ، قاله الراغب ; والمخصوص بالذم محذوف لدلالة ما قبله عليه ، التقدير : وبئس المهاد جهنم . وكثيرا ما يحذف لفهم المعنى ، وهذا مما يستدل به لمذهب : أنه مبتدأ والجملة التي قبله في موضع الخبر ; إذ لو كان خبر مبتدأ محذوف ، أو مبتدأ محذوف الخبر للزم من ذلك حذف الجملة برأسها من غير أن يبقى ما يدل عليها ، وذلك لا يجوز ، لأن حذف المفرد أسهل من حذف الجملة . وأما من جعل " المهاد " : ما مهدوا لأنفسهم ، أي : بئسما مهدوا لأنفسهم ، وكان المعنى عنده ، وبئس : فعلهم الذي أداهم إلى جهنم ، ففيه بعد ، ويروى عن سيبويه مجاهد .
( قد كان لكم آية في فئتين التقتا ) قال في ( ري الظمآن ) : أجمع المفسرون على أنها وقعة بدر ، والخطاب للمؤمنين ، قاله ، ابن مسعود والحسن . فعلى هذا معنى الآية تثبيت النفوس وتشجيعها ، لأنه لما أمر أن يقول للكفار ما قال ; أمكن أن يستبعد ذلك المنافقون ، وبعض ضعفة المؤمنين ، كما قال من قال يوم الخندق : يعدنا محمد أموال كسرى وقيصر ; ونحن لا نأمن على النساء في المذهب ، وكما قال حين أخبره النبي - صلى الله عليه وسلم - بالأمنة التي تأتي ، فقلت في نفسي : فأين دعار عدي بن حاتم طيئ الذين سعروا البلاد ؟ الحديث بكماله .
وقيل : الخطاب للكافرين ، وهو ظاهر ، ولا سيما على قراءة من قرأ ستغلبون ، بالتاء ، ويخرج ذلك من قول ابن عباس ، وعلى هذا يكون ذلك تخويفا لهم ; وإعلاما بأن الله سينصر دينه ، وقد أراكم في ذلك مثالا بما جرى لمشركي قريش من الخذلان والقتل والأسر .
وقيل : الخطاب لليهود ، قاله الفراء ، وابن الأنباري ، وعلى هذا يكون ذلك تخويفا لهم ; كأنه قيل : لا تغتروا بدربتكم في الحرب ، ومنعة حصونكم ، ومجالبتكم لمشركي وابن جرير قريش ، فإن الله غالبكم ; وقد علمتم ما حل بأهل بدر ، ولم يلحق التاء كان ، وإن كان قد أسند إلى مؤنث ، وهو الآية ، لأجل أنه تأنيث مجازي ; وازداد حسنا بالفصل ، وإذا كان الفصل محسنا في المؤنث الحقيقي ، فهو أولى في المؤنث المجازي ، ومن كلامهم : حضر القاضي امرأة وقال :
إن امرأ غره منكن واحدة بعدي وبعدك في الدنيا لمغرور
وقيل : ذكر لأن معنى الآية البيان ، فهو كما قال :
برهرهة رؤدة رخصة كخرعوبة البانة المنفطر
ذهب إلى القضيب ، وفي قوله ( في فئتين ) محذوف تقديره : في قصة فئتين ، ومعنى : التقتا ، أي للحرب والقتال . ( فئة تقاتل في سبيل الله وأخرى كافرة ) أي : فئة مؤمنة تقاتل في سبيل الله ، وفئة أخرى تقاتل في سبيل الشيطان ، فحذف من الأولى ما أثبت مقابله في الثانية ، ومن الثانية ما أثبت نظيره في الأولى ، فذكر في الأولى لازم الإيمان ، وهو القتال في سبيل الله . وذكر في الثانية ملزوم القتال في سبيل الشيطان ، وهو الكفر .
والجمهور برفع " فئة " ، على القطع ، التقدير : إحداهما ، فيكون : فئة ، على هذا خبر مبتدأ محذوف ، أو التقدير : منهما ، فيكون مبتدأ محذوف الخبر .
وقيل : الرفع ، على البدل من الضمير في " التقتا " .
وقرأ مجاهد ، والحسن ، والزهري وحميد : فئة ، بالجر ، على البدل التفصيلي ، وهو بدل كل من كل ، كما قال :
وكنت كذي رجلين رجل صحيحة ورجل رمى فيها الزمان فشلت
[ ص: 394 ] ومنهم من رفع : كافرة ، ومنهم من خفضها على العطف ، فعلى هذه القراءة تكون : فئة الأولى ، بدل بعض من كل ، فيحتاج إلى تقدير ضمير أي : فئة منهما تقاتل في سبيل الله ، وترتفع أخرى على وجهي القطع إما على الابتداء ، وإما على الخبر .
وقرأ ابن السميقع ، : فئة ، بالنصب ، قالوا : على المدح ، وتمام هذا القول : إنه انتصب الأول على المدح ، والثاني على الذم ، كأنه قيل : أمدح فئة تقاتل في سبيل الله ، وأذم أخرى كافرة . وابن أبي عبلة
وقال : النصب في : فئة ، على الاختصاص ، وليس بجيد ، لأن المنصوب على الاختصاص لا يكون نكرة ، ولا مبهما ، وأجاز هو وغيره قبله الزمخشري : أن ينتصب على الحال من الضمير في " التقتا " ، وذكر فئة : على سبيل التوطئة . كالزجاج
وقرأ الجمهور : تقاتل ، بالتاء على تأنيث الفئة ، وقرأ مجاهد ، ومقاتل : يقاتل بالياء ، على التذكير ، قالوا : لأن معنى الفئة القوم فرد إليه ، وجرى على لفظه .
( يرونهم مثليهم رأي العين ) قرأ نافع ، ويعقوب ، وسهل ، " ترونهم " بالتاء على الخطاب ، وقرأ باقي السبعة بالياء على الغيبة . وقرأ ، ابن عباس وطلحة : ترونهم بضم التاء على الخطاب . وقرأ السلمي بضم الياء على الغيبة ، فأما من قرأ بالتاء المفتوحة فهو جار على ما قبله من الخطاب ، فيكون الضمير في " لكم " : للمؤمنين ، والضمير المرفوع في " ترونهم " : للمؤمنين أيضا . وضمير النصب في ترونهم : وضمير الجر في " مثليهم " : عائد على الكافرين ، والتقدير : ترون أيها المؤمنون الكافرين مثلي أنفسهم في العدد ، فيكون ذلك أبلغ في الآية ; أنهم رأوا الكفار في مثلي عددهم ، ومع ذلك نصرهم الله عليهم ; وأوقع المسلمون بهم . وهذه حقيقة التأييد بالنصر ، كقوله تعالى ( كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله )
واستبعد هذا المعنى ; لأنهم جعلوا هذه الآية ، وآية الأنفال ، قصة واحدة ، وهناك نص على أنه تعالى قلل المشركين في أعين المؤمنين ، فلا يجامع هذا التكثير في هذه الآية على هذا التأويل ; ويحتمل على من قرأ بتاء الخطاب أن يكون الخطاب للمؤمنين ، والضمير المنصوب في : ترونهم للكافرين ، والمجرور للمؤمنين ، والتقدير : ترون أيها المؤمنون الكافرين مثلي المؤمنين ، واستبعد هذا إذ كان التركيب يقتضي أن يكون : ترونهم مثليكم .
وأجيب بأنه من الالتفات من ضمير الخطاب إلى ضمير الغيبة ، كقوله تعالى : ( حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيبة ) ويحتمل أن يعود الضمير في : مثليهم ، على الفئة المقاتلة في سبيل الله ، أي : ترون أيها المؤمنون الفئة الكافرة مثلي الفئة المقاتلة في سبيل الله ، وهم أنفسهم ، والمعنى : ترونهم مثليكم ، وهذا تقليل ، إذا كانوا نيفا على ألف ، والمسلمون في تقدير ثلث منهم ; فأرى الله المسلمين الكافرين في ضعفي المسلمين على ما قرر في قوله : ( فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين ) لتجترئوا عليهم .
وإذن كان الضمير في لكم : للكافرين ، وفي " ترونهم " : الخطاب لهم ، والمنصوب والمجرور للمؤمنين ، والتقدير : ترون أيها الكافرون المؤمنين مثلي أنفسهم .
ويحتمل أن يكون الضمير المجرور عائدا على الفئة الكافرة ، أي : مثلي الفئة الكافرة وهم أنفسهم ، فيكون الله تعالى قد أرى المشركين المؤمنين أضعاف أنفس المؤمنين ، أو أضعاف الكافرين على قلة المؤمنين ; ليهابوهم ويجبنوا عنهم ، وكانت تلك الرؤية مددا من الله للمؤمنين ، كما أمدهم تعالى بالملائكة ، فإن كانت هذه ، وآية الأنفال في قصة واحدة ، فالجمع بين هذا التكثير ، وذاك التقليل باعتبار حالين ، قللوا أولا في أعين الكفار حتى يجترئوا على ملاقاة المؤمنين ، وكثروا حالة الملاقاة حتى قهروا وغلبوا ; كقوله : ( وقفوهم إنهم مسئولون ) ( لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جان ) وأما من قرأ بالياء المفتوحة ، فالظاهر أن الجملة تكون صفة لقوله : ( وأخرى كافرة ) وضمير الرفع عائد عليها ، على المعنى ، إذ لو عاد على اللفظ لكان ; تراهم ، وضمير النصب عائد على : فئة تقاتل في سبيل الله ، وضمير الجر في : مثليهم ، عائد على فئة أيضا ، وذلك على معنى الفئة ، [ ص: 395 ] إذ لو عاد على اللفظ لكان التركيب : تراها مثليها ، أي ترى الفئة الكافرة الفئة المؤمنة في مثلي عدد نفسها . أي : ستمائة ونيف وعشرين ، أو مثلي أنفس الفئة الكافرة ، أي : ألفين ، أو قريبا من ألفين .
ويحتمل أن يكون ضمير الفاعل عائدا على الفئة المؤمنة على المعنى ، والضمير المنصوب والمجرور عائدا على الفئة الكافرة على المعنى ، أي : ترى الفئة المؤمنة الفئة الكافرة مثلي نفسها .
ويحتمل أن يعود الضمير المجرور على الفئة الكافرة ، أي : مثلي الفئة الكافرة . والجملة إذ ذاك صفة لقوله : وأخرى كافرة ، ففي الوجه الأول الرابط : الواو ، وفي هذا الوجه الرابط ضمير النصب . وإذا كان الضمير في : لكم لليهود ; فالآية كما أمر الله نبيه - صلى الله عليه وسلم - أن يقوله لهم احتجاجا عليهم ; وتثبيتا لصورة الوعد السابق من أن الكفار : سيغلبون . فمن قرأ بالتاء كان معناه : لو حضرتم ، أو إن كنتم حضرتم ، وساغ هذا الخطاب لوضوح الأمر في نفسه ، ووقوع اليقين به ، لكل إنسان في ذلك العصر ، ومن قرأ بالياء فضمير الفاعل يحتمل أن يكون للفئة المؤمنة ، ويحتمل أن يكون للفئة الكافرة على ما تقرر قبل .
والرؤية في هاتين القراءتين بصرية تتعدى لواحد ، وانتصب مثليهم ، على الحال . قاله أبو علي ، ومكي ، والمهدوي . ويقوي ذلك ظاهر قوله : رأي العين ، وانتصابه على هذا انتصاب المصدر المؤكد .
قال : رؤية ظاهرة مكشوفة ، لا لبس فيها معاينة كسائر المعاينات . وقيل : الرؤية هنا من رؤية القلب ، فيتعدى لاثنين ، والثاني هو : مثليهم . ورد هذا بوجهين : أحدهما : قوله تعالى : رأي العين ، والثاني : أن رؤية القلب علم ، ومحال أن يعلم الشيء شيئين . الزمخشري
وأجيب عن الأول : بأن انتصابه انتصاب المصدر التشبيهي ، أي : رأيا مثل رأي العين ؛ أي : يشبه رأي العين وليس في التحقيق به ، وعن الثاني : بأن معنى الرؤية هنا الاعتقاد ، فلا يكون ذلك محالا ، وإذا كانوا قد أطلقوا العلم في اللغة على الاعتقاد دون اليقين ، فلأن يطلقوا الرأي عليه أولى . قال تعالى : ( فإن علمتموهن مؤمنات ) أي : فإن اعتقدتم إيمانهن ، ويدل على هذا قراءة من قرأ : ترونهم ، بضم التاء ، أو الياء . قالوا : فكان المعنى أن اعتقاد التضعيف في جمع الكفار ، أو المؤمنين كان تخمينا وظنا ، لا يقينا .
فلذلك ترك في العبارة ضرب من الشك ، وذلك أن أري ، بضم الهمزة ، تقولها فيما عندك فيه نظر ، وإذا كان كذلك ، فكما استحال أن يحمل الرأي هنا على العلم ، يستحيل أن يحمل على النظر بالعين ، لأنه كما لا يقع العلم غير مطابق للمعلوم ، كذلك لا يقع النظر البصري مخالفا للمنظور إليه ; فالظاهر أن ذلك إنما هو على سبيل التخمين والظن ، وإنه لتمكن ذلك في اعتقادهم ; شبه برؤية العين ، والرأي مصدر : رأى ، يقال : رأى رأيا ورؤية ورؤيا ، ويغلب رؤيا في المنام ؛ ورؤية في البصرية يقظة ، ورأيا في الاعتقاد ، يقال : هذا رأي فلان ، قال :
رأى الناس إلا من رأى مثل رأيه خوارج تراكين قصد المخارج
ومعنى : مثليهم ، قدرهم مرتين . وزعم الفراء أن معنى : يرونهم مثليهم ، ثلاثة أمثالهم كقول القائل : عندي ألف وأنا محتاج إلى مثليها . وغلطه ، وقال : إنما مثل الشيء مساو له ومثلاه مساويه مرتين . الزجاج
وقال ابن كيسان : أوقع الفراء في هذا التأويل أن المشركين كانوا ثلاثة أمثال المسلمين يوم بدر ، فتوهم أنه لا يجوز أن يكونوا يرونهم إلا على عدتهم ، وهذا بعيد ، وليس المعنى عليه ، وإنما المعنى أراهم الله على غير عدتهم بجهتين : إحداهما : أنه رأى الصلاح في ذلك ، لأن المؤمنين يقوى قلوبهم بذلك ; والأخرى : أنه آية النبي - صلى الله عليه وسلم - انتهى كلام ابن كيسان .
وتظاهرت الروايات أن جميع الكفار ببدر كانوا نحو الألف أو تسعمائة ، والمؤمنين ثلاثمائة وأربعة عشر . وقيل : وثلاثة عشرة ، لكن رجع بنو زهرة مع الأخنس بن شريق ، ورجع طالب بن أبي طالب ، وأتباع وناس كثير [ ص: 396 ] حتى بقي للقتال من يقرب من الثلثين ، فذكر الله المثلين ، إذ أمرهما متيقن لم يدفعه أحد . وحكي عن : أن المشركين كانوا في قتال ابن عباس بدر ستمائة وستة وعشرين ، وقد ذهب وغيره إلى أنهم كانوا نحو الألف . الزجاج
وروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " . وقال يوم بدر القوم ألف " : نظرنا إلى المشركين فرأيناهم يضعفون علينا ، ثم نظرنا إليهم فما رأيناهم يزيدون علينا رجلا واحدا . وقال في رواية : لقد قللوا في أعيننا حتى لقد قلت لرجل إلى جانبي تراهم سبعين ؟ قال : أراهم مائة ، فأسرنا منهم رجلا فقلنا : كم كنتم ؟ قال : ألفا . ونقل أن المشركين لما أسروا ، قالوا للمسلمين : كم كنتم ؟ قالوا : كنا ثلاثمائة وثلاثة عشرة ، قالوا : ما كنا نراكم إلا تضعفون علينا ، وتكثير كل طائفة في عين الأخرى ، وتقليلها بالنسبة إلى وقتين جائز ، فلا يمتنع . ابن عباس
( والله يؤيد بنصره من يشاء ) أي : يقويه بعونه . وقيل : النصر الحجة . ونسبة التأييد إليه يدل على أن المؤيد هم المؤمنون ، ومفعول : من يشاء ، محذوف ؛ أي : من يشاء نصره .
( إن في ذلك ) أي : النصر . وقيل : رؤية الجيش مثليهم ، ( لعبرة ) أي : اتعاظا ودلالة . ( لأولي الأبصار ) إن كانت الرؤية بصرية ، فالمعنى : للذين أبصروا الجمعين ، وإن كانت اعتقادية ، فالمعنى : لذوي العقول السليمة القابلة للاعتبار .
( زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين ) قرأ الجمهور : زين ؛ مبنيا للمفعول ، والفاعل محذوف ، فقيل : هو الله تعالى ، قاله عمر ; لأنه قال حين نزلت : الآن يا رب حين زينتها ، فنزلت ( قل أؤنبئكم ) الآية ، ومعنى التزيين : خلقها وإنشاء الجبلة على الميل إليها ، وهذا كقوله : ( إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم ) فزينها تعالى للابتلاء ; ويدل عليه قراءة : زين للناس حب ، مبنيا للفاعل ، وهو الضمير العائد على الله في قوله : ( والله يؤيد ) .
وقيل : المزين الشيطان ، وهو ظاهر قول الحسن ، قال : من زينها ؟ ما أحد أشد ذما لها من خالقها ، ويصح إسناد التزيين إلى الله - تعالى - بالإيجاد والتهيئة للانتفاع ، ونسبته إلى الشيطان بالوسوسة ، وتحصيلها من غير وجهها . وأشارت الآية إلى توبيخ معاصري رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من اليهود وغيرهم ، المفتونين بالدنيا ، وأضاف المصدر إلى المفعول ، وهو الكثير في القرآن ، وعبر عن المشتهيات بالشهوات مبالغة ; إذ جعلها نفس الأعيان ، وتنبيها على خستها ، لأن الشهوة مسترذلة عند العقلاء ، يذم متبعها ويشهد له بالانتظام في البهائم ، وناهيك لها ذما قوله - صلى الله عليه وسلم - : " " حفت النار بالشهوات وحفت الجنة بالمكاره
وأتى بذكر الشهوات أولا مجموعة على سبيل الإجمال ، ثم أخذ في تفسيرها شهوة شهوة ; ليدل على أن المزين ما هو إلا شهوة دنيوية لا غير ، فيكون في ذلك تنفير عنها ، وذم لطالبها وللذي يختارها على ما عند الله ، وبدأ في تفصيلها بالأهم فالأهم ، بدأ بالنساء لأنهن حبائل الشيطان وأقرب وأكثر امتزاجا : " " ، " ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء " . ويقال : فيهن فتنتان ; قطع الرحم وجمع المال من الحلال والحرام ، وفي البنين فتنة واحدة وهي جمع المال . وثنى بالبنين لأنهم من ثمرات النساء ، وفروع عنهن ، وشقائق النساء في الفتن ؛ ما رأيت من ناقصات عقل ودين أذهب للب الرجل الحازم منكن . الولد مبخلة مجبنة
وإنما أولادنا بيننا أكبادنا تمشي على الأرض
لو هبت الريح على بعضهم لامتنعت عيني من الغمض
المرء مفتون بابنه وبشعره ، وقدموا على الأموال لأن حب الإنسان ولده أكثر من حبه ماله ; وحيث ذكر الامتنان والإنعام أو الاستعانة والغلبة ، قدمت الأموال على الأولاد ، وظاهر قوله " والبنين " : الذكران . وقيل : يشمل الإناث ، وغلب التذكير .
( والقناطير المقنطرة ) ثلث بالأموال [ ص: 397 ] لما في المال من الفتنة ، ولأنه يحصل به غالب الشهوات ، ولأن المرء يرتكب الأخطار في تحصيله للولد . واختلف في القنطار ، أهو عدد مخصوص ، أم ليس كذلك ؟ فقيل : ألف ومائتا أوقية ، وقيل : اثنا عشر ألف أوقية ، وقيل : ألف ومائتا دينار . وكل هذه رويت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - الأول : رواه أبي ، وقال به معاذ ، ، وعاصم بن أبي النجود ، وابن عمر والحسن في رواية . والثاني : رواه وقال به . والثالث : رواه أبو هريرة الحسن ، ورواه عن العوفي . ابن عباس
وقيل : اثنا عشر ألف درهم ، أو ألف دينار ذهبا ، وروي عن ، وعن ابن عباس الحسن ، والضحاك ، وقال : ثمانون ألفا . وقال ابن المسيب مجاهد ، وروي عن : سبعون ألف دينار . وقال السدي : ثمانية آلاف مثقال ، وهي مائة رطل . وقال ابن عمر الكلبي : ألف مثقال ذهب أو فضة . وقال قتادة : مائة رطل من الذهب ، أو ثمانون ألف درهم من الفضة . وقال ، سعيد بن جبير وعكرمة : مائة ألف ، ومائة من ، ومائة رطل ، ومائة مثقال ، ومائة درهم . ولقد جاء الإسلام يوم جاء ، وبمكة مائة رجل قد قنطروا . وقيل : أربعون أوقية من ذهب أو فضة ، ذكره وقاله مكي في ( المحكم ) . وقيل : ثمانية آلاف مثقال ، وهي مائة رطل . ابن سيده
وقال في ( المحكم ) القنطار : بلغة بربر : ألف مثقال . وروى ابن سيده أنس ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في تفسير : ( وآتيتم إحداهن قنطارا ) قال : ألف دينار . وحكى أنه قيل : إن القنطار هو رطل ذهب أو فضة . قال الزجاج ابن عطية ، وأظنه وهما ، وإن القول مائة رطل ، فسقطت مائة للناقل ، انتهى . وقال أبو حمزة الثمالي : القنطار بلسان أفريقية والأندلس : ثمانية آلاف مثقال ، وهذا يكون في الزمان الأول . وأما الآن فهو عندنا : مائة رطل ، والرطل عندنا ، ستة عشر أوقية . وقال أبو بصرة ، وأبو عبيدة : ملء مسك ثور ذهبا . قال : وكذا هو بالسريانية . وقال ابن سيده : وكذا هو بلغة الروم . ابن الكلبي
وقال : المال الكثير بعضه على بعض . وقال الربيع بن أنس ابن كيسان : المال العظيم . وقال أبو عبيدة : القنطار عند العرب وزن لا يحد ، وقال الحكم : القنطار ما بين السماء والأرض من مال . وقال ابن عطية : القنطار معيار يوزن به ، كما أن الرطل معيار .
ويقال : لما بلغ ذلك الوزن قنطارا ، أي : يعدل القنطار ، وأصح الأقوال الأول ، والقنطار يختلف باختلاف البلاد في قدر الأوقية انتهى .
والمقنطرة : مفعللة ، أو مفيعلة من القنطار . ومعناه المجتمعة ، كما يقول : الألوف المؤلفة ، والبدرة المبدرة . اشتقوا منها وصفا للتوكيد . وقيل : المقنطرة المضعفة ، قاله قتادة . وقيل : المقنطرة تسعة قناطير ، لأنه جمع جمع ، قاله والطبري النقاش ، وهذا غير صحيح . وقال ابن كيسان : لا تكون المقنطرة أقل من تسعة . وقال الفراء : لا تكون أكثر من تسعة ، وهذا كله تحكم . وقال : المقنطرة المضروبة دنانير ، أو دراهم . وقال السدي الربيع والضحاك : المنضد الذي بعضه فوق بعض ، وقيل : المخزونة المدخورة . وقال يمان : المدفونة المكنوزة . وقيل : الحاضرة العتيدة ، قاله ابن عطية : وقال : ما المال إلا ما حازته العيان مروان بن الحكم
( من الذهب والفضة ) تبيين للقناطير ، وهو في موضع الحال منها ، أي كائنا من الذهب ( والخيل المسومة ) أي : الراعية في المروج ، سامت : سرحت ، وأخذت سومها من الرعي ؛ أي : غاية جهدها ، ولم تقصر على حال دون حال ، فيكون قد عدي الفعل بالتضعيف ، كما عدي بالهمزة في قولهم : " أسمتها " قاله ، ابن عباس ، وابن جبير والحسن ، وعبد الله بن عبد الرحمن بن أبزى ، ومجاهد ، والربيع . وروي عن مجاهد : أنها المطهمة الحسان . وقال : هي الرائقة من سيما الحسن . وقال السدي عكرمة : سومها : الحسن ، واختاره النحاس . من قولهم : رجل وسيم ، ولا يكون ذلك لاختلاف المادتين ، إلا إن ادعى القلب . وقال أبو عبيدة ، : المعلمة بالشيات . والكسائي
وروي عن ، وهو من السومة ، وهي العلامة قال ابن عباس أبو طالب : [ ص: 398 ]
أمين محب للعباد مسوم بخاتم رب طاهر للخواتم
قال أبو زيد : أصل ذلك أن تجعل عليها صوفة أو علامة تخالف سائر جسدها ; لتبين من غيرها في المرعى . وقال ابن فارس في ( المجمل ) المسومة : هي المرسل عليها ركبانها . وقال ابن زيد : المعدة للجهاد . وقال ابن المبرد : المعروفة في البلدان . وقال ابن كيسان : البلق . وقيل : ذوات الأوضاح من الغرة والتحجيل . وقيل : هي الهماليج .
( والأنعام والحرث ) يحتمل أن يكون المعاطيف من قوله : والقناطير ، إلى آخرها . غير ما أتى تبيينا معطوفا على الشهوات ، أي : وحب القناطير وكذا وكذا . ويحتمل أن يكون معطوفا على قوله : من النساء ، فيكون مندرجا في الشهوات ; ولم يجمع الحرث لأنه مصدر في الأصل . وقيل : يراد به المفعول ، وتقدم الكلام فيه عند قوله ( ولا تسقي الحرث ) .
( ذلك متاع الحياة الدنيا ) أشار : بذلك ، وهو مفرد إلى الأشياء السابقة وهي كثيرة ، لأنه أراد ذلك المذكور ، أو المتقدم ذكره . والمعنى : تحقير أمر الدنيا ، والإشارة إلى فنائها وفناء ما يستمتع به فيها ، وأدغم أبو عمر ؛ وفي الإدغام الكبير ثاء ؛ والحرث : في ذال ذلك ، واستضعف لصحة الساكن قبل الثاء .
( والله عنده حسن المآب ) أي : المرجع ، وهو إشارة إلى نعيم الآخرة الذي لا يفنى ولا ينقطع .
ومن غريب ما استنبط من الأحكام في هذه الآية أن فيها دلالة على إيجاب الصدقة في الخيل السائمة لذكرها مع ما تجب فيه الصدقة أو النفقة ، فالنساء والبنون فيهم النفقة ، وباقيها فيها الصدقة ، قاله الماتريدي .
وذكروا في هذه الآية أنواعا من الفصاحة والبلاغة ، الخطاب العام ، ويراد به الخاص في قوله : ( للذين كفروا ) على قول عامة المفسرين هم اليهود .
وهذا من تلوين الخطاب ، والتجنيس المغاير في ( ترونهم مثليهم رأي العين ) ، والاحتراس في ( رأي العين ) قالوا : لئلا يعتقد أنه من رؤية القلب ، فهو من باب الحزر وغلبة الظن ، والإبهام في زين للناس ، والتجنيس المماثل في ( والقناطير المقنطرة ) والحذف في مواضع ، وهي كل موضع يضطر فيه إلى تصحيح المعنى بتقدير محذوف .