(
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=71nindex.php?page=treesubj&link=28974يا أهل الكتاب لم تلبسون الحق بالباطل وتكتمون الحق وأنتم تعلمون ) تقدم تفسير مثل هذا في قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=42ولا تلبسوا الحق بالباطل ) وفسر اللبس بالخلط والتغطية ، وتكلم المفسرون هنا ، ففسروا الحق بما يجدونه في كتبهم من صفة الرسول ، والباطل الذي يكتبونه بأيديهم ويحرفونه : قال
[ ص: 491 ] معناه
الحسن وابن زيد . وقيل : إظهار الإسلام ، وإبطال اليهودية والنصرانية ، قال
قتادة ،
nindex.php?page=showalam&ids=16935وابن جرير والثعلبي . وقيل : الإيمان
بموسى و
عيسى ، والكفر بالرسول . وقال
أبو علي : يتأولون الآيات التي فيها الدلالة على نبوة
محمد - صلى الله عليه وسلم - على خلاف تأويلها ، ليظهر منها للعوام خلاف ما هي عليه ، وأنتم تعلمون بطلان ما تقولون . وقيل : هو ما ذكره تعالى بعد ذلك من قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=72آمنوا بالذي أنزل ) وقيل : إقرارهم ببعض أمر النبي - صلى الله عليه وسلم . والباطل : كتمانهم لبعض أمره ، وهذان القولان عن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس . وقيل : إقرارهم بنبوته ورسالته ، والباطل قول أحبارهم : ليس رسولا إلينا ، بل شريعتنا مؤبدة . وقرأ
nindex.php?page=showalam&ids=17340يحيى بن وثاب : تلبسون ، بفتح الباء مضارع لبس ، جعل الحق كأنه ثوب لبسوه ، والباء في : بالباطل ، للحال أي مصحوبا بالباطل .
وقرأ
أبو مجلز : تلبسون ، بضم التاء ، وكسر الباء المشددة ، والتشديد هنا للتكثير ، كقولهم : جرحت وقتلت ، وأجاز
الفراء ،
nindex.php?page=showalam&ids=14416والزجاج في : ويكتمون ، النصب ، فتسقط النون من حيث العربية على قولك : لم تجمعون ذا وذا ؟ فيكون نصبا على الصرف في قول الكوفيين ، وبإضمار : أن ، في قول البصريين . وأنكر ذلك
أبو علي ، وقال : الاستفهام وقع على اللبس فحسب . وأما يكتمون ، فخبر حتما لا يجوز فيه إلا الرفع ، بمعنى أنه ليس معطوفا على تلبسون ، بل هو استئناف ، خبر عنهم أنهم يكتمون الحق مع علمهم أنه حق ، وقال
ابن عطية : قال
أبو علي : الصرف هاهنا يقبح ، وكذلك إضمار : أن ، لأن يكتمون ، معطوف على موجب مقرر ، وليس بمستفهم عنه ، وإنما استفهم عن السبب في اللبس ، واللبس موجب ، فليست الآية بمنزلة قولهم : لا تأكل السمك وتشرب اللبن ، وبمنزلة قولك : أتقوم فأقوم ؟ والعطف على الموجب المقرر قبيح متى نصب ، إلا في ضرورة شعر ، كما روي :
وألحق بالحجاز فأستريحا
وقد قال
nindex.php?page=showalam&ids=16076سيبويه : في قولك : أسرت حتى تدخلها ، لا يجوز إلا النصب ،
[ ص: 492 ] في : تدخل ، لأن السير مستفهم عنه غير موجب . وإذا قلنا : أيهم سار حتى يدخلها ، رفعت ; لأن السير موجب ، والاستفهام إنما وقع عن غيره انتهى ما نقله
ابن عطية عن
أبي علي . والظاهر تعارض ما نقل مع ما قبله ، لأن ما قبله فيه : أن الاستفهام وقع على اللبس فحسب ، وأما : يكتمون ، فخبر حتما لا يجوز فيه إلا الرفع ، وفيما نقله
ابن عطية أن : يكتمون ، معطوف على موجب مقرر ، وليس بمستفهم عنه ، فيدل العطف على اشتراكهما في الاستفهام عن سبب اللبس وسبب الكتم الموجبين ، وفرق بين هذا المعنى وبين أن يكون : ويكتمون ، إخبارا محضا لم يشترك مع اللبس في السؤال عن السبب ، وهذا الذي ذهب إليه
أبو علي من أن الاستفهام إذا تضمن وقوع الفعل لا ينتصب الفعل بإضمار أن في جوابه ، تبعه في ذلك
ابن مالك . فقال في ( التسهيل ) حين عد ما يضمر أن ، لزوما في الجواب ، فقال : أو لاستفهام لا يتضمن وقوع الفعل ، فإن تضمن وقع الفعل لم يجز النصب عنده ، نحو : لم ضربت زيدا ، فيجازيك ؟ لأن الضرب قد وقع ، ولم نر أحدا من أصحابنا يشترط هذا الشرط الذي ذكره
أبو علي ، وتبعه فيه
ابن مالك في الاستفهام ، بل إذا تعذر سبك مصدر مما قبله ، إما لكونه ليس ثم فعل ، ولا ما في معناه ينسبك منه ، وإما لاستحالة سبك مصدر ، مراد استقباله ، لأجل مضي الفعل ، فإنما يقدر فيه مصدر استقباله مما يدل عليه المعنى ، فإذا قال : لم ضربت زيدا فأضربك ؟ . أي : ليكن منك تعريف بضرب زيد فضرب منا ، وما رد به
أبو علي ، على
أبي إسحاق ليس بمتجه ; لأن قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=71لم تلبسون ) ليس نصا على أن المضارع أريد به الماضي حقيقة ، إذ قد ينكر المستقبل لتحقق صدوره ، لا سيما على الشخص الذي تقدم منه وجود أمثاله . ولو فرضنا أنه ماض حقيقة ، فلا رد فيه على
أبي إسحاق ، لأنه كما قررنا قبل : إذا لم يمكن سبك مصدر مستقبل من الجملة ، سبكناه من لازم الجملة .
وقد حكى
أبو الحسن بن كيسان نصب الفعل المستفهم عنه محقق الوقوع ، نحو : أين ذهب زيد فنتبعه ؟ وكذلك في : كم مالك فنعرفه ؟ ومن أبوك فنكرمه ؟ لكنه يتخرج على ما سبق ذكره من أن التقدير : ليكن منك إعلام بذهاب زيد فاتباع منا . وليكن : منك إعلام بقدر مالك فمعرفة منا . وليكن منك إعلام بأبيك فإكرام منا له . وقرأ
nindex.php?page=showalam&ids=16531عبيد بن عمير : لم تلبسوا ، وتكتموا ، بحذف النون فيهما ، قالوا : وذلك جزم ، قالوا : ولا وجه له سوى ما ذهب إليه شذوذ من النحاة في إلحاق : لم ، بـ " لم " في عمل الجزم . وقال
السجاوندي : ولا وجه له إلا أن : لم ، تجزم الفعل عند قوم كلم انتهى . والثابت في لسان العرب أن لم ، لا ينجزم ما بعدها ، ولم أر أحدا من النحويين ذكر أن " لم " تجري مجرى : " لم " في الجزم إلا ما ذكره أهل التفسير هنا ، وإنما هذا عندي من باب حذف النون حالة الرفع ، وقد جاء ذلك في النثر قليلا جدا ، وذلك في قراءة
أبي عمر ، ومن بعض طرقه قالوا : ساحران تظاهران ، بتشديد الظاء ، أي : أنتما ساحران تتظاهران فأدغم التاء في الظاء ، وحذف النون ، وأما في النظم ، فنحو قول الراجز :
أبيت أسري وتبيتي تدلكي
يريد : وتبيتين تدلكين . وقال :
فإن يك قوم سرهم ما صنعتمو ستحتلبوها لاقحا غير باهل
والظاهر : أنه أنكر عليهم لبس الحق بالباطل ، وكتم الحق ، وكأن الحق منقسم إلى قسمين : قسم خلطوا فيه الباطل حتى لا يتميز ، وقسم كتموه بالكلية حتى لا يظهر . (
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=71وأنتم تعلمون ) جملة حالية تنعي عليهم ما التبسوا به من لبس الحق بالباطل وكتمانه ، أي : لا يناسب من علم الحق أن يكتمه ، ولا أن يخلطه بالباطل ، والسؤال عن السبب ، سؤال عن المسبب ، فإذا أنكر السبب فبالأولى أن ينكر المسبب ، وختمت الآية قبل هذه بقوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=70وأنتم تشهدون ) وهذه بقوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=71وأنتم تعلمون ) لأن المنكر عليهم في تلك هو الكفر
[ ص: 493 ] بآيات الله ، وهي أخص من الحق ، لأن آيات الله بعض الحق ، والشهادة أخص من العلم ، فناسب الأخص الأخص ، وهنا الحق أعم من الآيات وغيرها ، والعلم أعم من الشهادة ، فناسب الأعم الأعم . وقالوا في قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=71وأنتم تعلمون ) أي : أنه نبي حق ، وأن ما جاء به من عند الله حق . وقيل : قال : (
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=71وأنتم تعلمون ) ليتبين لهم الأمر الذي يصح به التكليف ، ويقوم عليهم به الحجة . وقيل : (
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=71وأنتم تعلمون ) الحق بما عرفتموه من كتبكم وما سمعتموه من ألسنة أنبيائكم . وفي هذه الآيات أنواع من البديع : الطباق في قوله : الحق بالباطل ، والطباق المعنوي في قوله : ( لم تكفرون وأنتم تشهدون ) لأن الشهادة إقرار وإظهار ، والكفر ستر . والتجنيس المماثل في : يضلونكم ومايضلون . والتكرار في : أهل الكتاب . والحذف في مواضع قد بينت .
(
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=71nindex.php?page=treesubj&link=28974يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ) تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ مِثْلِ هَذَا فِي قَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=42وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ ) وَفُسِّرَ اللَّبْسُ بِالْخَلْطِ وَالتَّغْطِيَةِ ، وَتَكَلَّمَ الْمُفَسِّرُونَ هُنَا ، فَفَسَّرُوا الْحَقَّ بِمَا يَجِدُونَهُ فِي كُتُبِهِمْ مِنْ صِفَةِ الرَّسُولِ ، وَالْبَاطِلَ الَّذِي يَكْتُبُونَهُ بِأَيْدِيهِمْ وَيُحَرِّفُونَهُ : قَالَ
[ ص: 491 ] مَعْنَاهُ
الْحَسَنُ وَابْنُ زَيْدٍ . وَقِيلَ : إِظْهَارُ الْإِسْلَامِ ، وَإِبْطَالُ الْيَهُودِيَّةِ وَالنَّصْرَانِيَّةِ ، قَالَ
قَتَادَةُ ،
nindex.php?page=showalam&ids=16935وَابْنُ جَرِيرٍ وَالثَّعْلَبِيُّ . وَقِيلَ : الْإِيمَانُ
بِمُوسَى وَ
عِيسَى ، وَالْكَفْرُ بِالرَّسُولِ . وَقَالَ
أَبُو عَلِيٍّ : يَتَأَوَّلُونَ الْآيَاتِ الَّتِي فِيهَا الدَّلَالَةُ عَلَى نُبُوَّةِ
مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى خِلَافِ تَأْوِيلِهَا ، لِيَظْهَرَ مِنْهَا لِلْعَوَامِّ خِلَافُ مَا هِيَ عَلَيْهِ ، وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ بُطْلَانَ مَا تَقُولُونَ . وَقِيلَ : هُوَ مَا ذَكَرَهُ تَعَالَى بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=72آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ ) وَقِيلَ : إِقْرَارُهُمْ بِبَعْضِ أَمْرِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَالْبَاطِلُ : كِتْمَانُهُمْ لِبَعْضِ أَمْرِهِ ، وَهَذَانِ الْقَوْلَانِ عَنِ
nindex.php?page=showalam&ids=11ابْنِ عَبَّاسٍ . وَقِيلَ : إِقْرَارُهُمْ بِنُبُوَّتِهِ وَرِسَالَتِهِ ، وَالْبَاطِلُ قَوْلُ أَحْبَارِهِمْ : لَيْسَ رَسُولًا إِلَيْنَا ، بَلْ شَرِيعَتُنَا مُؤَبَّدَةٌ . وَقَرَأَ
nindex.php?page=showalam&ids=17340يَحْيَى بْنُ وَثَّابٍ : تَلْبَسُونَ ، بِفَتْحِ الْبَاءِ مُضَارِعُ لَبِسَ ، جَعَلَ الْحَقَّ كَأَنَّهُ ثَوْبٌ لَبِسُوهُ ، وَالْبَاءُ فِي : بِالْبَاطِلِ ، لِلْحَالِ أَيْ مَصْحُوبًا بِالْبَاطِلِ .
وَقَرَأَ
أَبُو مِجْلَزٍ : تُلَبِّسُونَ ، بِضَمِّ التَّاءِ ، وَكَسْرِ الْبَاءِ الْمُشَدَّدَةِ ، وَالتَّشْدِيدُ هُنَا لِلتَّكْثِيرِ ، كَقَوْلِهِمْ : جَرَّحْتُ وَقَتَّلْتُ ، وَأَجَازَ
الْفَرَّاءُ ،
nindex.php?page=showalam&ids=14416وَالزَّجَّاجُ فِي : وَيَكْتُمُونَ ، النَّصْبَ ، فَتُسْقَطُ النُّونُ مِنْ حَيْثُ الْعَرَبِيَّةُ عَلَى قَوْلِكَ : لِمَ تَجْمَعُونَ ذَا وَذَا ؟ فَيَكُونُ نَصْبًا عَلَى الصَّرْفِ فِي قَوْلِ الْكُوفِيِّينَ ، وَبِإِضْمَارِ : أَنْ ، فِي قَوْلِ الْبَصْرِيِّينَ . وَأَنْكَرَ ذَلِكَ
أَبُو عَلِيٍّ ، وَقَالَ : الِاسْتِفْهَامُ وَقَعَ عَلَى اللَّبْسِ فَحَسْبُ . وَأَمَّا يَكْتُمُونَ ، فَخَبَرٌ حَتْمًا لَا يَجُوزُ فِيهِ إِلَّا الرَّفْعُ ، بِمَعْنَى أَنَّهُ لَيْسَ مَعْطُوفًا عَلَى تَلْبِسُونَ ، بَلْ هُوَ اسْتِئْنَافٌ ، خَبَرٌ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ يَكْتُمُونَ الْحَقَّ مَعَ عِلْمِهِمْ أَنَّهُ حَقٌّ ، وَقَالَ
ابْنُ عَطِيَّةَ : قَالَ
أَبُو عَلِيٍّ : الصَّرْفُ هَاهُنَا يَقْبُحُ ، وَكَذَلِكَ إِضْمَارُ : أَنْ ، لِأَنَّ يَكْتُمُونَ ، مَعْطُوفٌ عَلَى مُوجَبٍ مُقَرَّرٍ ، وَلَيْسَ بِمُسْتَفْهَمٍ عَنْهُ ، وَإِنَّمَا اسْتُفْهِمَ عَنِ السَّبَبِ فِي اللَّبْسِ ، وَاللَّبْسُ مُوجَبٌ ، فَلَيْسَتِ الْآيَةُ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِمْ : لَا تَأْكُلِ السَّمَكَ وَتَشْرَبَ اللَّبَنَ ، وَبِمَنْزِلَةِ قَوْلِكَ : أَتَقُومُ فَأَقُومَ ؟ وَالْعَطْفُ عَلَى الْمُوجَبِ الْمُقَرَّرِ قَبِيحٌ مَتَى نُصِبَ ، إِلَّا فِي ضَرُورَةِ شِعْرٍ ، كَمَا رُوِيَ :
وَأَلْحَقُ بِالْحِجَازِ فَأَسْتَرِيحَا
وَقَدْ قَالَ
nindex.php?page=showalam&ids=16076سِيبَوَيْهِ : فِي قَوْلِكَ : أَسِرْتَ حَتَّى تَدْخُلَهَا ، لَا يَجُوزُ إِلَّا النَّصْبُ ،
[ ص: 492 ] فِي : تَدْخُلَ ، لِأَنَّ السَّيْرَ مُسْتَفْهَمٌ عَنْهُ غَيْرُ مُوجَبٍ . وَإِذَا قُلْنَا : أَيُّهُمْ سَارَ حَتَّى يَدْخُلُهَا ، رُفِعَتْ ; لِأَنَّ السَّيْرَ مُوجَبٌ ، وَالِاسْتِفْهَامُ إِنَّمَا وَقَعَ عَنْ غَيْرِهِ انْتَهَى مَا نَقَلَهُ
ابْنُ عَطِيَّةَ عَنْ
أَبِي عَلِيٍّ . وَالظَّاهِرُ تَعَارُضُ مَا نُقِلَ مَعَ مَا قَبْلَهُ ، لِأَنَّ مَا قَبْلَهُ فِيهِ : أَنَّ الِاسْتِفْهَامَ وَقَعَ عَلَى اللَّبْسِ فَحَسْبُ ، وَأَمَّا : يَكْتُمُونَ ، فَخَبَرٌ حَتْمًا لَا يَجُوزُ فِيهِ إِلَّا الرَّفْعُ ، وَفِيمَا نَقَلَهُ
ابْنُ عَطِيَّةَ أَنَّ : يَكْتُمُونَ ، مَعْطُوفٌ عَلَى مُوجَبٍ مُقَرَّرٍ ، وَلَيْسَ بِمُسْتَفْهَمٍ عَنْهُ ، فَيَدُلُّ الْعَطْفُ عَلَى اشْتِرَاكِهِمَا فِي الِاسْتِفْهَامِ عَنْ سَبَبِ اللَّبْسِ وَسَبَبِ الْكَتْمِ الْمُوجَبَيْنِ ، وَفَرَّقَ بَيْنَ هَذَا الْمَعْنَى وَبَيْنَ أَنْ يَكُونَ : وَيَكْتُمُونَ ، إِخْبَارًا مَحْضًا لَمْ يَشْتَرِكْ مَعَ اللَّبْسِ فِي السُّؤَالِ عَنِ السَّبَبِ ، وَهَذَا الَّذِي ذَهَبَ إِلَيْهِ
أَبُو عَلِيٍّ مِنْ أَنَّ الِاسْتِفْهَامَ إِذَا تَضَمَّنَ وُقُوعَ الْفِعْلِ لَا يَنْتَصِبُ الْفِعْلُ بِإِضْمَارِ أَنْ فِي جَوَابِهِ ، تَبِعَهُ فِي ذَلِكَ
ابْنُ مَالِكٍ . فَقَالَ فِي ( التَّسْهِيلِ ) حِينَ عَدَّ مَا يُضْمِرُ أَنْ ، لُزُومًا فِي الْجَوَابِ ، فَقَالَ : أَوْ لِاسْتِفْهَامٍ لَا يَتَضَمَّنُ وُقُوعَ الْفِعْلِ ، فَإِنْ تَضَمَّنَ وَقْعَ الْفِعْلِ لَمْ يَجُزِ النَّصْبُ عِنْدَهُ ، نَحْوَ : لِمَ ضَرَبْتَ زَيْدًا ، فَيُجَازِيكَ ؟ لِأَنَّ الضَّرْبَ قَدْ وَقَعَ ، وَلَمْ نَرَ أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِنَا يَشْتَرِطُ هَذَا الشَّرْطَ الَّذِي ذَكَرَهُ
أَبُو عَلِيٍّ ، وَتَبِعَهُ فِيهِ
ابْنُ مَالِكٍ فِي الِاسْتِفْهَامِ ، بَلْ إِذَا تَعَذَّرَ سَبْكُ مَصْدَرٍ مِمَّا قَبْلَهُ ، إِمَّا لِكَوْنِهِ لَيْسَ ثَمَّ فِعْلٌ ، وَلَا مَا فِي مَعْنَاهُ يَنْسَبِكُ مِنْهُ ، وَإِمَّا لِاسْتِحَالَةِ سَبْكِ مَصْدَرٍ ، مُرَادٍ اسْتِقْبَالُهُ ، لِأَجْلِ مُضِيِّ الْفِعْلِ ، فَإِنَّمَا يُقَدَّرُ فِيهِ مَصْدَرُ اسْتِقْبَالِهِ مِمَّا يَدُلُّ عَلَيْهِ الْمَعْنَى ، فَإِذَا قَالَ : لِمَ ضَرَبْتَ زَيْدًا فَأَضْرِبُكَ ؟ . أَيْ : لِيَكُنْ مِنْكَ تَعْرِيفٌ بِضَرْبِ زَيْدٍ فَضَرْبٌ مِنَّا ، وَمَا رَدَّ بِهِ
أَبُو عَلِيٍّ ، عَلَى
أَبِي إِسْحَاقَ لَيْسَ بِمُتَّجَهٍ ; لِأَنَّ قَوْلَهُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=71لِمَ تَلْبِسُونَ ) لَيْسَ نَصًّا عَلَى أَنَّ الْمُضَارِعَ أُرِيدَ بِهِ الْمَاضِي حَقِيقَةً ، إِذْ قَدْ يُنْكَرُ الْمُسْتَقْبَلُ لِتَحَقُّقِ صُدُورِهِ ، لَا سِيَّمَا عَلَى الشَّخْصِ الَّذِي تَقَدَّمَ مِنْهُ وُجُودُ أَمْثَالِهِ . وَلَوْ فَرَضْنَا أَنَّهُ مَاضٍ حَقِيقَةً ، فَلَا رَدَّ فِيهِ عَلَى
أَبِي إِسْحَاقَ ، لِأَنَّهُ كَمَا قَرَّرْنَا قَبْلُ : إِذَا لَمْ يُمْكِنْ سَبْكُ مَصْدَرٍ مُسْتَقْبَلٍ مِنَ الْجُمْلَةِ ، سَبَكْنَاهُ مِنْ لَازِمِ الْجُمْلَةِ .
وَقَدْ حَكَى
أَبُو الْحَسَنِ بْنُ كَيْسَانَ نَصْبَ الْفِعْلِ الْمُسْتَفْهَمِ عَنْهُ مُحَقَّقِ الْوُقُوعِ ، نَحْوَ : أَيْنَ ذَهَبَ زَيْدٌ فَنَتْبَعَهُ ؟ وَكَذَلِكَ فِي : كَمْ مَالُكَ فَنَعْرِفَهُ ؟ وَمَنْ أَبُوكَ فَنُكْرِمَهُ ؟ لَكِنَّهُ يَتَخَرَّجُ عَلَى مَا سَبَقَ ذِكْرُهُ مِنْ أَنَّ التَّقْدِيرَ : لِيَكُنْ مِنْكَ إِعْلَامٌ بِذَهَابِ زَيْدٍ فَاتِّبَاعٌ مِنَّا . وَلْيَكُنْ : مِنْكَ إِعْلَامٌ بِقَدْرِ مَالِكَ فَمَعْرِفَةٌ مِنَّا . وَلْيَكُنْ مِنْكَ إِعْلَامٌ بِأَبِيكَ فَإِكْرَامٌ مِنَّا لَهُ . وَقَرَأَ
nindex.php?page=showalam&ids=16531عُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ : لِمَ تَلْبِسُوا ، وَتَكْتُمُوا ، بِحَذْفِ النُّونِ فِيهِمَا ، قَالُوا : وَذَلِكَ جَزْمٌ ، قَالُوا : وَلَا وَجْهَ لَهُ سِوَى مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ شُذُوذٌ مِنَ النُّحَاةِ فِي إِلْحَاقِ : لِمَ ، بِـ " لَمْ " فِي عَمَلِ الْجَزْمِ . وَقَالَ
السَّجَاوَنْدِيُّ : وَلَا وَجْهَ لَهُ إِلَّا أَنَّ : لِمَ ، تَجْزِمُ الْفِعْلَ عِنْدَ قَوْمٍ كُلَّمٍ انْتَهَى . وَالثَّابِتُ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ أَنَّ لِمَ ، لَا يَنْجَزِمُ مَا بَعْدَهَا ، وَلَمْ أَرَ أَحَدًا مِنَ النَّحْوِيِّينَ ذَكَرَ أَنَّ " لِمَ " تَجْرِي مَجْرَى : " لَمْ " فِي الْجَزْمِ إِلَّا مَا ذَكَرَهُ أَهْلُ التَّفْسِيرِ هُنَا ، وَإِنَّمَا هَذَا عِنْدِي مِنْ بَابِ حَذْفِ النُّونِ حَالَةَ الرَّفْعِ ، وَقَدْ جَاءَ ذَلِكَ فِي النَّثْرِ قَلِيلًا جِدًّا ، وَذَلِكَ فِي قِرَاءَةِ
أَبِي عُمَرَ ، وَمِنْ بَعْضِ طُرُقِهِ قَالُوا : سَاحِرَانِ تَظَّاهَرَانِ ، بِتَشْدِيدِ الظَّاءِ ، أَيْ : أَنْتُمَا سَاحِرَانِ تَتَظَاهَرَانَ فَأَدْغَمَ التَّاءَ فِي الظَّاءِ ، وَحَذَفَ النُّونَ ، وَأَمَّا فِي النَّظْمِ ، فَنَحْوَ قَوْلِ الرَّاجِزِ :
أَبِيتُ أُسَرِّي وَتَبِيتِي تُدَلِّكِي
يُرِيدُ : وَتَبِيتِينَ تُدَلِّكِينَ . وَقَالَ :
فَإِنْ يَكُ قَوْمٌ سَرَّهُمْ مَا صَنَعْتُمُو سَتَحْتَلِبُوهَا لَاقِحًا غَيْرَ بَاهِلِ
وَالظَّاهِرُ : أَنَّهُ أَنْكَرَ عَلَيْهِمْ لُبْسَ الْحَقِّ بِالْبَاطِلِ ، وَكَتْمَ الْحَقِّ ، وَكَأَنَّ الْحَقَّ مُنْقَسِمٌ إِلَى قِسْمَيْنِ : قِسْمٌ خَلَطُوا فِيهِ الْبَاطِلَ حَتَّى لَا يَتَمَيَّزَ ، وَقِسْمٌ كَتَمُوهُ بِالْكُلِّيَّةِ حَتَّى لَا يَظْهَرَ . (
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=71وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ) جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ تَنْعِي عَلَيْهِمْ مَا الْتَبَسُوا بِهِ مِنْ لَبْسِ الْحَقِّ بِالْبَاطِلِ وَكِتْمَانِهِ ، أَيْ : لَا يُنَاسِبُ مَنْ عَلِمَ الْحَقَّ أَنْ يَكْتُمَهُ ، وَلَا أَنْ يَخْلِطَهُ بِالْبَاطِلِ ، وَالسُّؤَالُ عَنِ السَّبَبِ ، سُؤَالٌ عَنِ الْمُسَبِّبِ ، فَإِذَا أَنْكَرَ السَّبَبَ فَبِالْأَوْلَى أَنْ يُنْكِرَ الْمُسَبِّبَ ، وَخُتِمَتِ الْآيَةُ قَبْلَ هَذِهِ بِقَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=70وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ ) وَهَذِهِ بِقَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=71وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ) لِأَنَّ الْمُنْكَرَ عَلَيْهِمْ فِي تِلْكَ هُوَ الْكُفْرُ
[ ص: 493 ] بِآيَاتِ اللَّهِ ، وَهِيَ أَخَصُّ مِنَ الْحَقِّ ، لِأَنَّ آيَاتِ اللَّهِ بَعْضُ الْحَقِّ ، وَالشَّهَادَةُ أَخَصُّ مِنَ الْعِلْمِ ، فَنَاسَبَ الْأَخَصُّ الْأَخَصَّ ، وَهُنَا الْحَقُّ أَعَمُّ مِنَ الْآيَاتِ وَغَيْرِهَا ، وَالْعِلْمُ أَعَمُّ مِنَ الشَّهَادَةِ ، فَنَاسَبَ الْأَعَمُّ الْأَعَمَّ . وَقَالُوا فِي قَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=71وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ) أَيْ : أَنَّهُ نَبِيٌّ حَقٌّ ، وَأَنَّ مَا جَاءَ بِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ حَقٌّ . وَقِيلَ : قَالَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=71وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ) لِيَتَبَيَّنَ لَهُمُ الْأَمْرُ الَّذِي يَصِحُّ بِهِ التَّكْلِيفُ ، وَيَقُومُ عَلَيْهِمْ بِهِ الْحُجَّةُ . وَقِيلَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=71وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ) الْحَقَّ بِمَا عَرَفْتُمُوهُ مِنْ كُتُبِكُمْ وَمَا سَمِعْتُمُوهُ مِنْ أَلْسِنَةِ أَنْبِيَائِكُمْ . وَفِي هَذِهِ الْآيَاتِ أَنْوَاعٌ مِنَ الْبَدِيعِ : الطِّبَاقُ فِي قَوْلِهِ : الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ ، وَالطِّبَاقُ الْمَعْنَوِيُّ فِي قَوْلِهِ : ( لِمَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ ) لِأَنَّ الشَّهَادَةَ إِقْرَارٌ وَإِظْهَارٌ ، وَالْكُفْرُ سَتْرٌ . وَالتَّجْنِيسُ الْمُمَاثِلُ فِي : يُضِلُّونَكُمْ وَمَايُضِلُّونَ . وَالتَّكْرَارُ فِي : أَهْلِ الْكِتَابِ . وَالْحَذْفُ فِي مَوَاضِعَ قَدْ بُيِّنَتْ .