أصله للإلصاق ، ومعناه اختلاط الشيء بالشيء ، ويكون حقيقة ، وهو الأكثر ، نحو : به داء ، ومجازا كمررت به ، إذ معناه جعلت مروري ملصقا بمكان قريب منه لا به ، فهو وارد على الاتساع . وقد جعلوا منه قوله تعالى : وامسحوا برءوسكم . ( المائدة : 6 )
وقد إما مع الخبر ، نحو : تأتي زائدة وجزاء سيئة سيئة مثلها ( الشورى : 40 ) . وإما مع الفاعل نحو : وكفى بالله شهيدا ( النساء : 79 ) فالله فاعل و " شهيدا " نصب على الحال أو التمييز ، والباء زائدة ، ودخلت لتأكيد الاتصال ، أي لتأكيد شدة ارتباط الفعل بالفاعل ، لأن الفعل يطلب فاعله طلبا لا بد منه ، والباء توصل الأول إلى الثاني ، فكأن الفعل يصل إلى الفاعل ، وزادته الباء اتصالا .
قال : فعلوا ذلك إيذانا بأن الكفاية من الله ، ليست كالكفاية من غيره في عظم المنزلة ، فضوعف لفظها ليضاعف معناها . وقيل : دخلت الباء لتدل على المعنى ، لأن المعنى اكتفوا بالله . وقيل : الفاعل مقدر ، والتقدير كفى الاكتفاء بالله ، فحذف المصدر وبقي معموله دالا عليه . وفيه نظر ، لأن الباء إذا سقطت ارتفع اسم الله على الفاعلية ، كقوله : ابن الشجري
كفى الشيب والإسلام للمرء ناهيا
[ ص: 223 ] وإما مع المفعول كقوله تعالى : ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة ( البقرة : 195 ) وقوله : تلقون إليهم بالمودة ( الممتحنة : 1 ) أي تبذلونها لهم وقوله : اقرأ باسم ربك الذي خلق ( العلق : 1 )
قال الفارسي : وهي زائدة كقوله : لا تقرآن بالسور وقوله : بأييكم المفتون ( القلم : 6 ) جعلت المفتون اسم مفعول لا مصدرا ، كالمعقول والمعسور والميسور ، وقوله : عينا يشرب بها عباد الله ( الإنسان : 6 ) ومن يرد فيه بإلحاد بظلم ( الحج : 25 ) تنبت بالدهن ( المؤمنون : 20 ) وقوله : فامسحوا برءوسكم ( المائدة : 6 ) ونحوه .
والجمهور على أنها لا تجيء زائدة ، وأنه إنما يجوز الحكم بزيادتها إذا تأدى المعنى المقصود بوجودها وحالة عدمها على السواء ، وليس كذلك هذه الأمثلة ، فإن معنى وكفى بالله شهيدا ( النساء : 79 ) كما هي في : أحسن بزيد ! ومعنى امسحوا برؤوسكم اجعلوا المسح ملاصقا برؤوسكم ، وكذا بوجوهكم أشار إلى مباشرة العضو بالمسح ، وإنما لم يحسن في آية الغسل " فاغسلوا بوجوهكم " لدلالة الغسل على المباشرة ، وهذا كما تتعين المباشرة في قولك : أمسكت به وتحتملها في أمسكته .
وأما قوله : ولا تلقوا بأيديكم ( البقرة : 195 ) فحذف المفعول للاختصار . وأما تلقون إليهم بالمودة ( الممتحنة : 1 ) فمعناه تلقون إليهم النصيحة بالمودة ، وقال ابن النحاس : معناه تخبرونهم بما يخبر به الرجل أهل مودته .
وقال السهيلي : ضمن تلقون معنى ( ترمون ) من الرمي بالشيء ، يقال : ألقى زيد إلي بكذا ، أي رمى به ، وفي الآية إنما هو إلقاء بكتاب أو برسالة ، فعبر عنه بالمودة ؛ لأنه من أفعال أهل [ ص: 224 ] المودة فلهذا جيء بالباء .
وأما قوله : كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا ( الإسراء : 14 ) فليست زائدة ، وإلا للحق الفعل قبلها علامة التأنيث ؛ لأنه للنفس ، وهو مما يغلب تأنيثه . وجوز في الفعل وجهان : ( أحدهما ) أن تكون " كان " مقدرة بعد كفى ، ويكون " بنفسك " صفة له قائمة مقامه . والثاني : أنه مضمر يفسره المنصوب بعده ، أعني " حسيبا " كقولك : نعم رجلا زيد .
، وهي القائمة مقام الهمزة في إيصال الفعل اللازم إلى المفعول به ، نحو : وتجيء للتعدية ولو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم ( البقرة : 20 ) أي أذهب كما قال : إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ( الأحزاب : 33 ) ولهذا لا يجمع بينهما فهما متعاقبتان ، وأما قوله تعالى : أسرى بعبده ( الإسراء : 1 ) ، فقيل : أسرى وسرى بمعنى ، كسقى وأسقى ، والهمزة ليست للتعدية ، وإنما المعدى الباء في بعبده .
وزعم ابن عطية أن مفعول أسرى محذوف ، وأن التعدية بالهمزة ، أي أسرى الليلة بعبده .
ومذهب الجمهور أنها بمعنى الهمزة ، لا تقتضي مشاركة الفاعل للمفعول ، وذهب المبرد والسهيلي أنها تقتضي مصاحبة الفاعل للمفعول في الفعل بخلاف الهمزة . ورد بقوله تعالى : ذهب الله بنورهم ( البقرة : 17 ) ولو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم ( البقرة : 20 ) ألا ترى أن الله لا يذهب مع سمعهم ، فالمعنى لأذهب سمعهم .
وقال الصفار : وهذا لا يلزم ؛ لأنه يحتمل أن يكون فاعل " ذهب " البرق ، ويحتمل أن [ ص: 225 ] يكون الله تعالى ويكون الذهاب على صفة تليق به سبحانه كما قال وجاء ربك ( الفجر : 22 ) .
قال : وإنما الذي يبطل مذهبه قول الشاعر :
ديار التي كانت ونحن على منى تحل بنا لولا نجاء الركائب
أي تجعلنا حلالا لا محرمين ، وليست الديار داخلة معهم في ذلك .
واعلم أنه لكون ، لا يجمع بينهما ، فإن قلت : كيف جاء الباء بمعنى الهمزة تنبت بالدهن ( المؤمنون : 20 ) والهمزة في أنبت للنقل ؟ قلت : لهم في الانفصال عنه ثلاثة أوجه :
أحدها : أن تكون الباء زائدة .
والثاني : أنها باء الحال كأنه قال : تنبت ثمرها وفيه الدهن ، أي وفيهما الدهن ، والمعنى : تنبت الشجرة بالدهن ، أي ما هو موجود منه ، وتختلط به القوة بنبتها ، على موقع المنة ولطيف القدرة ، وهداية إلى استخراج صبغة الآكلين .
والثالث : أن نبت وأنبت بمعنى . وللاستعانة وهي الدالة على آلة الفعل ، نحو : كتبت بالقلم . ومنه في أشهر الوجهين : بسم الله الرحمن الرحيم ( الفاتحة : 1 ) .
، كقوله : وللتعليل بمنزلة اللام إنكم ظلمتم أنفسكم باتخاذكم العجل ( البقرة : 54 ) فبظلم من الذين هادوا ( النساء : 160 ) فكلا أخذنا بذنبه ( العنكبوت : 40 ) .
، وتسمى باء الحال ، كقوله تعالى : وللمصاحبة بمنزلة مع قد جاءكم الرسول بالحق ( النساء : 170 ) أي مع الحق أو محقا يانوح اهبط بسلام منا ( هود : 48 ) .
[ ص: 226 ] ، وتكون مع المعرفة نحو : وللظرفية بمنزلة " في " وإنكم لتمرون عليهم مصبحين وبالليل ( الصافات : 137 - 138 ) وبالأسحار هم يستغفرون ( الذاريات : 18 ) ومع النكرة نحو : ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة ( آل عمران : 123 ) نجيناهم بسحر ( القمر : 34 ) .
قال أبو الفتح في التنبيه : وتوهم بعضهم أنها لا تقع إلا مع المعرفة ، نحو : كنا بالبصرة وأقمنا بالمدينة .
وهو محجوج بقول الشماخ :
وهن وقوف ينتظرن قضاءه بضاحي عداة أمره وهو ضامز
كعن نحو : وللمجاوزة فاسأل به خبيرا ( الفرقان : 59 ) سأل سائل بعذاب واقع ( المعارج : 1 ) ويوم تشقق السماء بالغمام ( الفرقان : 25 ) أي عن الغمام بين أيديهم وبأيمانهم ( التحريم : 8 ) أي وعن أيمانهم .
كعلى : وللاستعلاء ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار ( آل عمران : 75 ) أي على قنطار كما قال : هل آمنكم عليه ( يوسف : 64 ) ونحو : وإذا مروا بهم يتغامزون [ ص: 227 ] ( المطففين : 30 ) ، أي عليهم كما قال : وإنكم لتمرون عليهم مصبحين ( الصافات : 137 ) .
كمن نحو : وللتبعيض يشرب بها عباد الله ( الإنسان : 6 ) أي منها ، وخرج عليه : وامسحوا برءوسكم ( المائدة : 6 ) .
والصحيح أنها باء الاستعانة ، فإن " مسح " يتعدى إلى مفعول ، وهو المزال عنه ، وإلى آخر بحرف الجر وهو المزيل ، فيكون التقدير : فامسحوا أيديكم برءوسكم .